الشاعر مروان كسّاب في ديوانه الجديد: شجرٌ يتعرّى في تشرين/ فؤاد نعمان الخوري

قديماً قيل: أحلى الشِّعر أكذبُه. لكن هذا القول لا ينطبق على صديقنا الشاعر الدكتور مروان كسّاب، الذي تعرّى كشجرة تشرينية في ديوانه الصادر حديثاً بعنوان "دموع الخريف". دموعه أوراق تتساقط من شجر العمر قصائدَ ومواويل مجروحة، جمعها في كتابه السابع، وكأنه يقاوم السنين بنغمات الحساسين، ويعوّض عن حياة زائلة بانتاج ادبي يسعى للخلود.

لماذا تنزل دموع الخريف؟ هل هو أسفٌ على صيفٍ مضى، أو خوفٌ من شتاء يدقّ الباب؟ يقول مروان: "صار الشِعر يبكي على نعش الشبابْ!" في هذا الشطر استلهام لمراسم الموت في جبال لبنان العالية، حيث شعر الرثاء ضرورة في المآتم. مروان كسّاب شاعر زجلي بامتياز، له قدرة فائقة على الارتجال، يعينُه صوتٌ عذب وصرخة آخ تذكرك بالشاعر الراحل خليل روكز. لكن التقدم في العمر والغربة أثر على حنجرته الذهبية فكتب: "حسّون أنغامي تِكي"؛ وفي مكان آخر:" شمس عمري لبسِت تياب الغروبْ".

من سِمات الشعر اللبناني الحديث تناول مأساة العمر الهارب، وقد ابدع الرحبانيان عاصي ومنصور في التقاط ذلك الاحساس، كما في قولهما بصوت فيروز: "تعا تا نتخبّى/ من درب الأعمار". وشاعرنا كساب يعاني اللوعتين في آن: لوعة العمر ولوعة الغياب عن الوطن. وتراه في الحالتين يقاوم باللحن والقصيدة، حتى انه يتحدّى الموت غير هيّاب، فيقول: "حيث ل بياكل من طعم خبز الخلود/ بيصير قبل الوقت يستحلي الوداعْ". ورغم الحسرة والأسى في هذا البيت، لا يستسلم مروان، بل يعيد اعلان تشبثه بالحياة من خلال القصائد الغزلية والوطنية.

هل أحلى من الغزل يسكب كأس الندى على يباس الايام؟ ومن غير الحبيبة، في الواقع او في الخيال، تمسح الجراح ويطلع من عينيها الصباح؟ شاعرنا يتقن فن التغزل، فيخاطب حُلوته قائلاً: "وحالِك بدل ما ترتّبِي عا مرايتِك/ هيّي عليكي عم ترتّب حالها"...ما ابدع هذا التنافس الأبيض بين المرأة والمرآة! وكما المرآة تعكس صورتك الخارجية، المرأة بالمقابل تعكس عالمك الداخلي بكل ما فيه من قيم وأحاسيس. ولا يتورع شاعرنا عن رفع حبيبته الى مرتبة أعلى من القمر:" لما القمر بتجّربي تمشي معو/ خلفك بيمشي الليل وبينسى القمر". ولعلّ ما يجمع بين صورتي المرآة والقمر، هو البحث الحثيث عن النور الساطع وسط الظلام، والنور قبلة الشعراء والانبياء.

وغنّى مروان لبنان ومسقط رأسه تنورين في كل الدواوين. ها هو يعبر عن شوقه لدير "حُوب" فيكتب:"مشتاق للدير، لجناين حُوب/ للكنيسه، وخشبة المصلوب"...ولا يكتفي بالحنين الرومانسي الى الأرض والأهل، بل يعلن ايمانه الراسخ بقيامة لبنان من عثراته:" خلقت يا لبنان تاج وصولجان/ وعا باب مملكتك حني راسو القدَر"...وقد يكون في قرارة نفسه احساس بالذنب، فينادي الوطن بما يشبه الاعتذار:" سافرت، لا تفكّر انا عنك بعيد/ ما زالك بقلبي رغم بعد السفر"...أتراه يتكلم بلسان كل المنتشرين في اصقاع الدنيا؟

في كتابه الجديد، اضاف مروان كساب الى قصائده نصوصاً نثرية ومواويل شروقي وعتابا، بلغات متعددة،  كأنه يحزم حقائبه استعداداً للرحيل. لا يا صديقي، ما زال النور يشعّ من القناديل، والليالي موعودةٌ بالارتجالي وصوتك العالي. وغداً من دموع الخريف ترتوي الأرض، وينبت زهر جديد في الربيع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق