ــ ستوكهولم
صباح الخير لروح "مالفا"، لبهاء الألوان العابرة مسار القارَّات، صباح الخير يا شهوةَ لونٍ مجنّحٍ نحوَ بخورِ الاشتعال، صباح الخير يا عمر حمدي، أيُّها المرفرف فوقَ تاجِ الارتقاء في سماءِ الألوان، يا روحَ العناقات اللَّونيّة المضمّخة بحنين الشّمال، أيُّها المنبعث إلى الحياة في عتمِ اللّيل، بين أريجِ الطِّينِ، أمٌّ مِنْ وهجِ الأوجاعِ أهدَتْكَ للحياةِ، هلْ كانت أمُّكَ "نوره" تحمل بين أحشائها نوراً كي تهدينا "مالفا" فيضيء علينا تشكيلاً مهدهداً بالنّورِ، بضياءِ الحياةِ، بوهجِ اللَّون المسترخي على جفونِ الشَّفقِ الأخير! عمر حمدي يا ابن الشّمال السّوري، أيّها الكردي المكتنز بحبقِ الحنطة، ياعابرَ مروجَ الألوان على أجنحةِ القطا البرّي، يا سليلة قرى الطّين المجدولة فوق مرتفعات "تل نايف" مسقط رأسكَ يا "مالفا"، يا لوناً ناضحاً بشهوةِ الإشتعال، أيُّها المحلّق فوق سديمِ الغمام، يا حامل ريشة مبلَّلة ببسمةِ الحياة، يا هاجساً مزروعاً في عطشِ الرُّوح التوَّاقة إلى زخّات المطر، يا جرحَاً مفتوحاً على أفانين غربة الرّوح، يا صديق العصافير المبلّلة بأوجاعِ القصيدة، يا نورسَ اللَّون المهاجر إلى دنيا ممراحة على أرخبيلاتِ العطاء، كم مِنَ الألوان عانقَتْ روحَكَ في صباحٍ محبوكٍ بإشراقةِ الرّوح العطشى إلى عنبِ الشِّمال، أيُّها المتعانق مع إنبعاثاتِ خيالٍ معرَّشٍ بالجّراحِ، يا صديق فقراء هذا العالم، يا صديق المبدعين العطشى إلى خبزِ التنّور، أيّها الشَّهقة المفتوحة على زرقة السّماء، يا وردة الكورد المضيئة في معراجِ غربة الرّوح، يا لونَ البكاء الغافي فوق أحلام الطُّفولة، يا مغزل الجدّات المحبوكة من "طشّية" الأمَّهات الغارقات في حبْكِ خيطان الأمل في ليالي الشِّتاء الطَّويلة على إيقاعِ خشخشات انهمار المطر، يا حاملَ إبرةٍ من الذَّهب الخالص، تنقشُ أسرار تجلِّيات الرُّوح العطشى إلى هلالاتِ شهقةِ الألوانِ المنسابة من رحاب الطُّموح المنبعث من أحلام أمٍّ غارقة في شفير الإنكسار، يا منقذ تيجان الحلم الآتي من مرتفعاتِ جبل جودي، يا لوناً مضيئاً فوقَ قبَّةِ الحياة، أيُّها المبرعم من دندنات أغاني الكورد وألحان السُّريان المنسابة مع تراتيلِ الحياة المعبّقة ببخور المحبّة، يا صديق القصيدة والأغاني المغموسة بمواويل "غزال غزال هائي هائي"، وملاحم تدفُّقات "سِتْيَا زِين وممّي آلا"، كم مرّة حلمْتَ في عناقِ بهجة الألوان، كم مرّة غصْتَ عميقاً في مرامي الرّوح حتّى أينعت شهقاتِ انبعاث الألوان فوق خدود الزَّمن، كم مرّة طفحَتْ من عينيكَ دموعُ ألقٍ منسابة من شهوةِ العبور في أقصى تجلّياتِ بهاء الألوان، كيف رسمْتَ روحَكَ المتلاطمة فوقَ أوجاع هذا الزّمان، كيفَ عبرْتَ لجينَ البحار وأنتَ مخلخل الرُّوح والقلب ومخضّبٌ بشراهاتِ وهجِ الإشتعال! وحدَها الرّوح الخفَّاقة انتشلتكَ من وهادِ الإنكسار، وحدَها الرّوح المعبّقة بتينِ الشّمال أنقذتكَ من ضجرِ هذا الزّمان، وحدَها الأمُّ المحبوكة بآهاتٍ لا تخطر على بال، دمغتْ فوق صدغيكَ أسرار انبهار الألوان، أيّها الآتي من ينابيعِ الأحزان المتدفّقة من قرى الشّمالِ، شمالِ الرّوح، شمالِ توهُّجاتِ آفاقِ البوح، شمالِ الشَّوقِ إلى ظلالِ الذَّاكرة البعيدة، تُشبهُ ألحانَ نايٍ حزين رسمه الفنّان بشّار العيسى وهو يضيء طفوح دمعتك المندلقة من خاصرةِ الرُّوح، تُشبه تجلّيات ألوانكَ، أشواقي العميقة وأنا أرقص دبكات الكورد معَ أجمل الصَّبايا في رأس "الكوفندة" على إيقاعات: "هالي كني لِيْلي مالا مِني وَاي وَاي"، "وهَيْ دولابهْ دولابهْ نايي دَنكهْ دولابي"، و"هَيْ وَرْنَيْ وَرْنِيٍ وَرْنِي، وَرِنْ دِيَلانيْ أسْمَرْ"، .. و"ها وَرْوَرْ ها وَرْوَرْ، ها وَرْوَرْ كزّي زَرْ"! .. تُشبه ألوانُكَ توهُّجات الأغاني المتهاطلة فوقَ حنين الرّوح، هل تبرعمَتْ شهقات الألوان المتراقصة فوق إبداعاتك الشَّاهقة من خلالِ هذه الينابيع الصَّادحة في مروج الذَّاكرة أمْ تبرعمَتْ بينَ أجنحتكَ من خلالِ تراكمات أحلامك منذ الطُّفولة وأنتَ تهرع خلف الأغنام السَّارحة في البراري، وتلملم الحطب كي تخفِّفَ من لذعةِ صقيع الشِّمال في ليالي الشِّتاء الطَّويلة؟! روحُكِ تطهَّرتْ من غبار هذا الزَّمان من خلال تفاقمات الأوجاع والجِّراح المترصرصة فوقَ شهقات الصَّباح، فولدَتْ لوحاتُكِ من صفوةِ الإبتهال المندلقة من ألقِ الألوان، كأنّك في رحلةِ عناقٍ معَ زرقة السّماء في نهارٍ ربيعيّ معبّق بالنّرجس البرّي، أيّها المجدول من البراري الفسيحة الغائصة في أصفى انهمارات بوح السُّؤال! من طفولتكَ ترعرعَ لوناً من بهاء الحصاد، هل تبرعمَتْ قامات صديقَيك "حسنو وبرّو" في لوحاتكِ أم ظلّتْ معلّقة بينَ مهاميزِ الذَّاكرة، كم كنتَ مقرَّباً في طفولتكَ من عوالم المجانين، هل لأنَّكَ رأيتَ فيهما البراءة والصّفاء أكثر من الكثير من العقلاء! كم مرّة لملمْتَ مع هؤلاء المجانين روث الحمير والبقر وجفّفَتْهُ الأمُّ كي تستخدمه وقوداً للتنّور وحطباً يقيكم من قرِّ الشِّتاء، كيف بدَت لكَ كلّ هذه الاشتعالات ومتاهات الطُّفولة في تدفّقات الألوان وأنتَ في رحابِ حدائق فيينَّا وفي عواصم من لونِ الضّياء؟! عمر حمدي لونٌ معجون بتجلِّيات الرّوح الشَّامخة فوق صفاء الحلم المنساب فوقَ خميلةِ الصَّباح، لونٌ معتّق بنبيذِ منعش لخفقة الُّروح الجَّانحة نحو أقاصي مرامي الطُّموح، رسم حمدي روحه المشتعلة فوق بوَّابات المدائن، رسمَ الأغنام السَّارحة في مرافيء الذَّاكرة البعيدة، رسم ألوان الهواجس المندلقة من خميرة العشق المنشطرة على حافاتِ الإنكسار، عمر حمدي لغةُ عشقٍ مفتوحة على مروجِ الدُّنيا، لغةُ مهاجرٍ معرَّش الجِّناحين في لبِّ الحضارة، حضارةِ لونٍ مبرعمة في مآقيه منذ أن وُلدَ تحت سقفٍ مرصرصٍ بأوجاع الحياة، تحتَ سقفٍ من طينِ الشّمال، حيثُ خفقة الرّوح تتلظَّى شوقاً إلى زخَّات المطر عبر تدفُّقات مهجة الألوان، عمر حمدي شهقةُ لونٍ متهاطلة من حنينِ السّماء فوقَ آهاتِ المدائن وقرى الشِّمال، عمر حمدي حكايةُ ألف سؤالٍ وسؤال، بحثاً عن أبجديّات القصيدة المجدولة عبر حبقِ الألوان، عمر حمدي فنَّانٌ معتَّقُ بآهاتِ غربةِ الإنسان مع أخيه الإنسان، شوقٌ لونيّ إلى شلَّالات حلمٍ يتأجّج عطاءً ليل نهار، شوقٌ مفتوح إلى عناقِ كائناته المهشّمة على قارعةِ الرُّوح، شوقٌ إلى عناقِ حبيبة تائهة في مهبِّ الإنشطار، وجعٌ مبرّحٌ في سماء الحلق ينمو، وجعٌ في خميلة الذّاكرة يحبو، وجعٌ في منعرجاتِ الألوان يزدادُ صفاءً، وجعٌ لم يفارقْ مخيال "مالفا" على مدى هدهدات الحنين، لونٌ محبوكٌ بعناقِ الرّوح في دنيا من شقاء، لونٌ مفهرسٌ بزغبِ العصافير الهائمة في عبور منارة الحلم السَّاطع في رحابِ الذَّاكرة، عمر حمدي ذاكرة محبوكة بانبعاثِ حبورِ الجّمال، ذاكرة مزدانة بأزاهير عبّاد الشَّمس، لونُ الشّمَّام المبلَّل فوقَ عذوبةِ الألوان كأنَّه زخّات مطرٍ متهاطلٍ من شهوةِ الحياة في صباحٍ مندَّى بنسيم المحبّة، لغةٌ محفوفة بالأغاني الصَّادحة في أعماق البراري، يشبه دموع الأمَّهات المنسابة مِنْ مآقي الحنين، يشبه قبلة العشّاق في صباح العيد، يرسم بوحه من لجينِ الرُّوحِ كأنّه في حالة عناقٍ معَ فراديسِ النَّعيم، يرسمُ أحلامه المتلاطمة كأمواجِ البحار فوق هضابِ البلاد المشنوقة من خاصراتها في وضح النّهار، يرسمُ حالات عشقٍ من نكهة الإنبهار، عمر حمدي صديق الفنّان بشّار العيسى، صديقُ الكلمة الحرّة، صديق لونٍ من أشهى تجلِّيات خفقةِ الصّلصال، صديق الفنّان عنايت عطّار وبهرام حاجو وبرصوم برصوما ويوسف عبدلكي وحنّا الحائك، صديق الفنّانين والفنّانات في الكثير من أرجاء المعمورة، صديق الطُّيور المهاجرة إلى أشهى مذاقِ الألوان، يرسم أجنحةَ الأحلام الهاربة فوقَ هدوءِ اللَّيل، لونٌ معبِّر عن ذاكرة البحار الهائجة فوق أنينِ المدائن، يرسمُ تألّقه اللَّوني من أعماقِ ينابيعِ الرّوح المندلقة من ذاكرة الحلم المتشكّلة من خمائل الحياة منذ أنْ تبرعمَ في أحشاء "نوره" المنبثقة من شهقة الشَّمس على إيقاعِ همهماتِ اللَّيلِ الحنون، فوُلِدَ "مالفا" حاملاً بين جناحيه خفقةَ القصيدة المتهاطلة من أرخبيلات بوح الألوان، شوقاً إلى هسيسِ الكائنات المترعرعة في قبّة الذَّاكرة المحبوكة من أزاهير الخطميّة والحِمْحِم والحَرْشف والنّعناع البرّي. كم مرّة عبرْتُ حقول القطن وأنتَ في مراحل الطُّفولة تلملم القطن في شالاتٍ كبيرة، حتّى غدا بياضه في مقتبلِ الأيام ناصعاً فوق وجنةِ اللَّوحات، كم مرَّة عبرْتَ البراري بحثاً عن الطُّيور الهاربة من الأطفال الملاحقة أجنحة العصافير والتِّيتيَّات المختبئة في أعماق البراري، كم مرَّة رسمْتَ بهجةَ ألوان الطَّبيعة مستذكراً خمائل البساتين وأنت هائم بين سهول الحنطة، بحثاً عن فراخ العصافير المتوارية بينَ اخضرارِ السّنابل، فتبرعمَ كل هذا البهاء في دَفْقةِ الألوان المنسابة فوقَ بسمةِ اللَّوحات المتماهية معَ وهج الرّوح الخلّاقة. عمر حمدي قصيدة لونيّة مطرّزة بمذاقِ التُّوتِ ونضارةِ دالياتٍ متدلدلة فوق خدود عاشقة من لونِ جموحِ الغزال، يُشبه طائراً مفروش الجّناحين فوق طينِ المحبّة والوئام، حاملاً شمعةَ عشقٍ إلى بهاء الألوان كي يفرشها فوقَ تلالٍ شامخة في قبِّةِ الرُّوح، مجسّداً قبلةَ عاشقٍ فوقِ مهاميز الألوان، كأنّه حلمٌ متطايرٌ من أغصانِ الأزمنة الغابرة، مناغياً عبر رؤاه الفسيحة بياض اللَّوحة، غائصاً في أبهى تدفُّقاتِ عناقِ الألوان، يهدي إلينا كرنفالِ لوني، كأنّه في سياقُ انتشالِ ذاكرة طفولة مشتعلة بأجيجٍ مفتوحٍ على شهقاتِ الأنين، عمر حمدي تدفّقاتُ أمواجٍ متلاطمة فوقَ أهازيجَ حلمٍ مجنّح نحوَ مزاميرَ الشِّمال، تهاطل علينا بأنغامِ فنّانٍ مشحونٍ بشهوةِ الألوانِ المنبجسة من عذوبةِ العسل البرّي، ململماً باقات الزَّنبق، كي يتوّجها فوقِ خدود حبيبة معجونة بمناغاة طفلٍ مقمّطٍ بعناقيدِ العنب، حلّق عمر حمدي نحو أرقى تجلّيات اللَّون حتّى غدا فنَّاناً كونيَّاً شامخاً فوقَ أشهى تيجان الألوانِ، من خلالِ تجربةٍ فريدة من نوعها في دغدغاتِ هواجس الألوان المنبلجة من خيالِ فنّانٍ مجبولٍ بطراوةِ الصّلصال، ومصهورٍ من عذوبةِ ألوانِ الحياة، فولدَتْ تعابيره اللَّونيّة على إيقاعِ اشراقاتٍ لونيّة، محلِّقاً في أصفى ابتهالات بهجةِ الإبداع، كأنّه هديّة متهاطلة علينا من مآقي السّماء، فحنَّتْ الأعالي إلى هذه الرّوح الخلاقة كي تصعدَ إلى بهجةِ السّماء، تاركةً هذه الرّوح الشَّامخة خلفها غابةً من أبهى الألوان، خالدةً وساطعةً كدفءِ الشَّمس فوقَ وجنةِ الزّمن إلى أزلِ الآزال!
ستوكهولم: 17. 10 . 2015
صبري يوسف
أديب وتشكيلي سوري مقيم في ستوكهولم
محرّر مجلّة السَّلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق