مرثية للأب حبّي بمناسية الذكرى الخامسة عشر على رحيله/ الأب يوسف جزراوي

رحلَ حبّي فلتتوشح الكتب والمنابر بالسواد، وليعلم الاكليروس والعلماء و الأدباء بات لهم مزار حبر مقدس في أرض طاهرة تدعى بغداد.
مؤسفٌ حقًا أن نستقبل يوسفَ ميتًا في وطنه، بدلاً من أن نكرمه حيًا.
لا، لم يَمُت ولن يموتَ، فكما أنستاس الكرملي خالدٌ، هكذا سيبقى حبّي. كتبه تُخبرُ عنه، تتناقلها الألسنُ والمجالس الثقافية، تتناجى بها القلوبُ، خلجاته تعزفُها آلاتنا الموسيقية. 
أبكيكَ في زمنٍ جفت فيه مآقي الناس، وتحجرت قلوبهم!
أبكيكَ لأننا ما زلنا مصلوبين على خشبِة القلق من فساد حاكم أرعن في عراق المزيفين.
أبكيكَ بعد أن رافقتُ جثمانك في الصباح كالظلِّ، وفي المساء وقفتُ أنا وغيري أمامَ الشاشة العراقيّة جامدين كالثلوج، باكين كالأطفال من لوعة الفراق.
أبكيك أنتَ الذي شئت أن تكونَ للوطنِ لسانًا، يوم لم يكن للشعبِ وجود لسان.
خاف من فكركَ الحاكم وأحبك المحكوم. أرتعش منك الرؤساء، فاحبك المرؤوسين. 
حلمت بوطنٍ حرّ ، فحاربوك. حلمت بكنيسة عراقية متجددة، فعارضوك.
أحببت شعبًا عراقيًا تمنيته متقدمًا، مستقرًا، سعيدًا، مُرفهًا، فاغتالوك .
أنتقدت حاكمًا طاغوت، باع نفسه للشيطان لا يكترث لموت إنسان، فباعوك للموت بحادث سيارة مروع. إنّها أساليبهم الشيطانية الرخيصة.
آه من مبادئك التي كتبتها ونطقتها، كانت كحد السيف. بل نارًا محرقة يتلظى فيها كلّ حاكم ظن الديكتاتورية عقيدة، لا يرى في مرآة الوطن سوى صورته المُقيتة.
حبّي يا زينة المئاذن والنواقيس والكنائس والمنابر، يا وردة العراق الفواحة، يا مَن زينتَ أيامنا بورود الحروف، وزرعت في طرقاتنا بذار الكلمات. أُهديك كلمات من الورد افرشها على شاهد قبرك، فيه الأسم حي لا يموت.
وكيف يموت؟ وكتاباتك شمعة مضيئة نعود إليها كلما حلك ليلنا وتبعثرت آمالنا. فالواقع أنَّ حبيبنا حبّي أشتعل كبيدرٍ من القش في كلّ مكان بعد أن مات. 
إنه الأب د. يوسف حبّي الذي عرفته عن قرب، فوجدتُ فيه الكاهن الغيور والعراقي المحب لبلده وشعبه وكنيسته، الذي تجاوز الخطوط الحمراء في نقد الظلم والفساد، وخرج عن المألوف في أفكاره المكتوبة والمنطوقة ونشر أنواره المضيئة المستمدة من تعاليم الإنجيل، فلم يكن كاهنًا تقليديًا أو مفكرًا طيعًا بكلّ المعايير. بل كان كاهنًا مثقفًا معجونًا بالكلمة. استقى من الكلمة الأزلية التي ترعرعت في النفسِ فضاءات مشرقة منفتحة على نوافذ عديدة. ومفكرًا حلق باجنحة المحبة يُغرد زبدة الأفكار. تحليقًا بأجنحة، لا بجناحين فحسب. وفي البصر الجديد منفتحًا على آفاقٍ واسعة رحبة بألوانٍ متنوعة.
بعد هذه الكلمات، أتراني أنعى يوسفًا إلى كلّ الناس، لربّما؟ ولكني أنعاه، بالأخص إلى الكبار. إنّه الأب يوسف حبّي الذي كان ولا يزال واجهة عراقيّة مشرقة في هذا الزمان الرديء. جاء إلى الحياة كنسمة، وعلى هذه الشاكلة غادرها، لنفتقد كاهنًا واديبًا وعالمًا كان ايقونة جيل، جيل الستينات. 
رحمه الله ونفعنا بصلواته. آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق