طفح كيل الفلسطينيين ونفذ صبرهم من الاعتداءات المتكررة على أراضيهم ومقدساتهم ومصادرة العدو لمقدرات البقاء لديهم ومحاصرتهم في أراضيهم وعسكرة حياتهم اليومية وحالة المراقبة الأمنية الدائمة والتفقير الممنهج وحرمانهم الأبدي من حقوقهم.
فكان قرار الانتفاضة هو القرار الصائب في لحظة تاريخية فارقة مثلت تتوجيا لإرادة الشعوب في التحرر من نير الاستعمار والشمولية والارتداد والعولمة المتوحشة وجسد خيار المقاومة والثورة على أرض الواقع بعد فشل التفاوض والاستسلام والتنازل.
لم يكن خيار الانتفاضة مسألة عبثية يضطر إليها الشعب الفلسطيني عندما تنعدم أمامه السبل ويستنجد به لما تتفاقم الأوضاع بل ظل المشروع الاستراتيجي الذي ساهمت كل القوى الوطنية والإسلامية في نحت كل مؤسساته وبناء مقدراته على الاستثبات والصمود.
لم تحد الانتفاضة الفلسطينية الثالثة عن طابعها السلمي ولم تتخل عن الطرق المدنية التي أبهرت العالم بها ولم تخل من المظاهرات السلمية والاعتصامات المتتالية والعصيان السلمي كرد على انتهاك حرمة المجسد الأقصى والتضييق المتواصل على حرية المعتقد.
لقد سميت بانتفاضة السكاكين وشارك فيها النشطاء من جميع الأعمار من فتية وشباب وشابات وشيوخ وطلاب ومثقفين ولكنها أعادت إنتاج جيل الراية الفلسطينية وأطفال الحجارة والمد الشعبي خارج الأطر التنظيمية للقوى السياسية ودون فرز ايديولوجي بين أبناء الشعب الموحد في مواجهة العدوان والظلم وبرزت شعارات الثورة الفلسطينية الأولى التي رفعت في اتجاه التحرير والانعتاق.
خرجت الشرارة هذه المرة من الضفة الغربية ومن أحياء القدس وامتدت إلى كافة أرجاء الأرض المحتلة وزفت العائلات الفلسطينية عشرات الشهداء وقدمت مئات الجرحى والمصابين ولقد جوبهت التحركات المشروعة بقمع صهيوني وحشي وخشية من التوسع والانتشار وكان ردة فعل الشعوب والأنظمة العربية والمسلمة الذين تمزقهم الصراعات الداخلية والمؤامرات الخارجية باهتة ومحتشمة ولم نسجل تعاطف سياسي رسمي وإنما بعض أشكال التأييد والمناصرة من طرف بعض الهيئات الداعمة والمنظمات المناضلة التي تنشط في المجتمع المدني العربي مثل بعض النقابات والجمعيات ولكن غاب الموقف السياسي العربي عن المؤازرة.
لا مناص من أن انتفاضة الشعب الفلسطيني الثالثة عازمة هذه المرة على تحرير الأقصى وانقاذ كرامة العرب وشرف المسلمين من وصمات العار والذل التي لحقت بهم نتيجة الدوس على أوطانهم وتفويتهم في أراضيهم بأنفسهم وتغذيتهم المستمرة للحروب الأهلية.
لم يعد التنوع التنظيمي للداخل الفلسطيني يمثل مصدر فرقة ولم يؤدي الخلاف بين رام الله وغزة الى الضعف والتراجع بل جعلت الانتفاضة المباركة الجسد الفلسطيني يتعافى وسمحت للهوية الفلسطينية بالتلاحم والتصالب من خلال اعادة تشغيل الذاكرة النضالية.
لا تؤخذ المطالب بالتمني والانتظار ولا تفتك الشعوب حقوقها بالمهادنة والتراخي وإنما يقتضي الأمر التسلح بالارادة الشعبية والتعويل على الذات الجماعية والاعتصام بالوحدة ورأب الصدع وإصلاح ذات البين والتوكل على النفس وتوظيف المقدسات والرموز الحضارية للأمة والاعتبار من دروس الماضي وتدارك مواطن الضعف وتفادي نقاط الخلل وبناء الجيل الثوري المناضل.
ما يحدث اليوم هو أن الفلسطينيون يقولون للعالم كلمتهم الحاسمة ضد تهويد القدس ويرفضون الجدار العنصري العازل ويهدمون حصون الاستيطان ويتشبثون بأمل الدولة المستقلة على كامل الأرض من النهر الى البحر ويطلبون السيادة التامة والمواطنة الكاملة.
الضفة الآن تنبض بالحياة والعزم وفي الساحات والشوارع والحقول ونقاط الاشتباك ترفع الأعلام والرايات التي تلوح بالنصر وهذه أناشيد الانتفاضة مستمرة حتى تعود فلسطين حرة.
"حلمنا أن نكون
وعدنا أن نصون
حقنا في أرضنا"
من نشيد الانتفاضة- مارسيل خليفة
كاتب فلسفي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق