ملامح السخرية في كتاب أحلام مستغانمي: قلوبهم معنا وقنابلهم علينا/ عبد القادر كعبان

إن كلمة "سخرية" تحمل العديد من المعاني في لغتنا العربية فهي قد تدل على إخضاع الآخر، إذلاله أو قهره مما يعكس نظرة دونية قد نهى عنها ديننا الحنيف، حيث وردت هذه الكلمة في العديد من المواضع في القرآن الكريم كقوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم" (سورة الحجرات، الآية 11). و من هنا ندرك معنى أن لا يستهزئ بشر بغيره مهما كان جنسه أو لونه أو طبقته الاجتماعية أو حتى إن كان أميا لا يعرف القراءة والكتابة، ولا يحتقره حتى لا يشعره بالإهانة مقارنة بالآخرين، وهذا أصبح حال الكثيرين من أبناء شعبنا العربي اليوم للأسف الشديد. 
هذا المشهد الذي يحتوي إجمالا على ملامح السخرية جعلنا نقف أمام كتاب "قلوبهم معنا وقنابلهم علينا" (1) للمبدعة الجزائرية أحلام مستغانمي وهو جملة من المقالات كتبتها بحروف الألم الذي امتزج بالسخرية من واقع عربي هزيل خلال فترة الغزو الأمريكي للعراق نشرتها عبر مجلة "زهرة الخليج" الإماراتية على مدار عشر سنوات.
من هنا نستنتج أن مصطلح السخرية يعتبر من أرقى أشكال التعبير الأدبي مهما كان جنسه: مسرحية، قصة، قصيدة شعرية، رواية أو مقالة، خاصة لما يحمله في طياته من مواقف انتقادية تظهر في إحساس الكاتب بالمفارقة الدلالية بانفعال لا يخلو من ملامح الفكاهة والإمتاع حيث تقول المبدعة أحلام مستغانمي في شأن مقالاتها: "بعض هذه المقالات بكيت وأنا أعيد قراءتها، وبعضها ضحكت ملء قلبي كأنني لست من كتبها. وبحسب مقياس هذه الأحاسيس المتطرفة، ارتأيت أنها تستحق منكم القراءة" (ص 7).
من العتبة الأولى للنص ممثلة في العنوان "قلوبهم معنا وقنابلهم علينا" تستوقفنا مفردتين أساسيتين "قلوب" و"قنابل" لكل منهما دلالة تختلف عن الأخرى، فالأولى جمع "قلب" والذي تربطه علاقة وطيدة بمشاعر الإنسان وضميره كذلك، أما الثانية مفردها كلمة "قنبلة" وهي جسم معدني أجوف يحشى بالمواد المتفجرة ويقذفه العدو على غيره. من هنا نرى أن عنوان هذا الكتاب يحمل نظرة ضبابية وانسداد أفق وظلم يحكم حياة جملة من البشر وواقع بلد بعينه، منذ لامسته أقدام العدو وهذا ما سيكتشفه القارئ حتما خلال مباشرة عملية القراءة.
تعلن المبدعة أحلام مستغانمي ومنذ أول مقالة لها في الباب الأول (شوف بوش بقى واتعلم) تحت عنوان "من غير ليه.." عن رفع التحدي وهذا يبدو أكثر وضوحا من خلال سخرية لاذعة تطبع النص الأول بشكل عام حيث تقول: "لا تسألوني لماذا لا أحب بوش الأب، لا بوش الابن، ولا بوش الأم. وإذا كان لا بد لي أن أختار واحدا من آل بوش، فسأختار الكلبة بوش، تلك التي أثناء إقامتها في البيت الأبيض، وبصفتها الكلبة الأولى، اختارت أن تضع مواليدها في غرفة نوم الرئيس..." (ص 13). هذا يدفعنا لنكتشف كقراء جملة من الآليات التي توظفها الكاتبة ببراعة لتنقل لنا موقفها مما يجري في الواقع كقولها في المقالة الثانية المعنونة "إذا لم تستح...": "...لا أعرف من ناس أميركا إلا سياسييها، ومن اشتهر من نجومها، فلقد عجبت لأنني لم أجد في تاريخ أحد من هؤلاء ما يشي بذرة من الحياء، إلا إذا كان وصول بعضهم للنجومية، أو للسلطة، يتطلب أن يكون معافى من هذا المرض الأميركي، خاصة عندما يتعلق الأمر بالمناصب السياسية الكبيرة..." (ص 17)، وبصراحة فعنوان المقالة يدفعنا لنتذكر فورا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت"، فالحياء رافد من روافد التقوى لكن أمريكا لا تعرف مذاقه للأسف الشديد، وهذا ما عبرت عنه مستغانمي من خلال تلك السطور بلهجة تهكمية لا تخلو من السخرية بامتياز. 
تتحدد معالم هذه اللهجة الساخرة كذلك في الباب الثاني (العراقي هذا الكريم المهان) أيضا انطلاقا من تعدد المواضيع ذات التيمة الواحدة التي ترتكز على كرامة العراقي المهانة، ثم من إلمام الكاتبة بمعطيات تخص الأحداث التي تعرض لها العراق الشقيق ومعرفتها بخلفيات عدوه الأمريكي ففي مقالتها الموسومة "اضرب القطوسة.. تفهم العروسة" حيث تقول: "ولذا، الدبابة الأميركية التي صوبت نارها نحوهم ما كانت تقصد سوانا، نحن ملايين المشاهدين العرب، الذين رأينا دمنا يتدفق في كل مكان في فندق فلسطين. والنار التي استهدفتهم، بذريعة الخطأ، ما انهالت عليهم سوى لتشرع الحرب المعلنة على الحقيقة، حيث سقوط المدن يعني سقوط الشهود العيان." (ص 49).
لا تكتفي الجزائرية أحلام مستغانمي بفضح هذه الهيمنة بعين الحياد المزيف الذي لا يخلو من نبرة الغضب بل تعمل على خلخلة الحاكم العربي وإخراجه من دور البطولة الكاذبة حيث تقول في مقالتها "شاربا الطاغية.. وأحذيته": "ذهبا شاربا صدام، وما زال البعض يحوم حول ما يحلو للذباب أن يحط فوقه. ذلك أن المشكلة ليست في شاربي الطاغية، بل في من لا يتصور نفسه إلا ذبابة." (ص 63).
ملامح السخرية تتكرر في مجمل مقالات الأديبة مستغانمي حيث تنقل لنا جملة من الأحداث بامتدادات أخرى تعزز غاية التهكم الذي يظهر جليا في الباب الثالث (خالتي أميركا) فمثلا تظهر عدة مقاطع تستدعي التأمل في مقالتها الموسومة "قلوبهم معنا.. وقنابلهم علينا" وهي التي اختارتها عنوانا مناسبا لكتابها بدقة متناهية أين نقرأ ما يلي: "تصوروا أمة تأتي بمئات الألوف من رجالها، وبترسانة حربية لم تشهد مثلها الكرة الأرضية.. فقط لتأخذ بزمام أمور شعب آخر لوجه الله، وتنفق من مالها لهدايتنا، ما تعجز قدرة البسطاء من أمثالنا على حسابه. كل هذا من أجل عيون الديموقراطية، كي تهبنا نعمة الحرية، باسم أرباب عدالة العالم الذين،  لمحض مصادفة، هم  أيضا أرباب الاقتصاد العالمي!" (ص 129-130).
ستتحدد السخرية بشكل مباشر من خلال مقالة أخرى تحت عنوان "أكاذيب.. بالجملة" التي افتتحتها الكاتبة بمقولة تشرشل (في الحرب تصبح الحقيقة ثمينة إلى درجة أنها يجب أن تحاط بحراس من الكذب)، وتلك أسلبة اختارتها مستغانمي كتكنيك يخاطب المعنى الاجمالي لما تكتبه في مجمل مقالاتها تأكيدا على البعد الساخر في خطابها فمثلا نقرأ ما يلي: "النصب أخو الكذب. لذا دوما كانت حقول الأكاذيب الغربية تهز كلما رأت رؤوس أموال عربية قد أينعت.. وحان قطافها." (ص 149).
تفضح المبدعة أحلام مستغانمي نوايا الخطاب السياسي الأمريكي المبني على قيم مزيفة ترفض السلام واحترام الآخر من خلال جملة مقالاتها في الباب الرابع والأخير (تصبحون على خير يا عرب) حيث نقرأ لها في مقالة "قل لي.. ماذا تشرب؟" ما يلي: "في زمن الطهارة الأميركية، والنوايا الحسنة لكبرى الشركات العالمية، كيف لا ننام مطمئنين وكوكاكولا بطيبة الأم تريزا تفكر فينا، والقديس 'ماكدونالد' يدعو لنا مع كل همبورغر بالخير و'نايك' و'أديداس' يقودان خطانا نحو أحلامنا القومية الكبرى." (ص 194). هنا نشهد أنه غزو ثقافي بصفة حضارية يهدف أولا لطمس هويتنا العربية الاسلامية ويشجع شبابنا للتخلي على ثقافته الوطنية، وثانيا يعتبر بدوره غزوا اقتصاديا ذات خلفيات سياسية خبيثة. 
أخيرا نتبين من خلال جملة مقالات هذا الكتاب كيف تفضح مستغاني الأفكار السامة للغزو الأمريكي بل وتسخر بأسلوب راقي من خلال تشريح إيديولوجياته السياسية الدنيئة بآليات انتقادية ترفض الإجرام المسلط على ذلك العربي الذي لا يزال يتخفى وراء صمته ويسخر من أخيه العربي الآخر، حيث يذكرنا ذلك بمثال المبدعة أحلام مستغانمي في مقالتها الموسومة "جوارب الشرف العربي" الذي افتتحته بمقولة من القرن الثالث قبل الميلاد لصاحبها كوانتوس إينيوس أين نقرأ ما يلي: "مشهد حميمي، يكاد يذكرك ب'كليب' نانسي عجرم، في جلبابها الصعيدي، وجلستها العربية تلك، تغسل الثياب في إناء بين رجليها، وهي تغني بفائض أنوثتها وغنجها 'أخاصمك آه...أسيبك لا'..." (ص 78). 

المصدر
(1) أحلام مستغانمي: قلوبهم معنا وقنابلهم علينا، دار الآداب، ط 3، 2010.
 *كاتب صحفي جزائري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق