كان السيل الجارف والامطار الغزيرة خلال الايام السابقة في مصر شديدة وقاسية , لدرجة انها تسببت في خسائر فادحة باديرة وادي النطرون الاثرية , واثرت في بعض مباني الدير الأثرية و هدم الاثار النفيسة ,التي وجدت منذ القرن الرابع ومايليهامن قرون احدث ,حتي وصلت الينا بثوبها القشيب الذي تحمل في جنباتها رحيق القرون الاولي للمسيحية وعبيق النفحات الروحية للقديسين الاوائل .
كان وادي النطرون يزخر باعداد من الاديرة والقلالي في الازمنة القديمة حيث ذكر الرحالة "روفينوس" الذي زار الوادي عام 351 م: انه كان في الوادي المذكور نحوا من خمسين ديرا لكن احداث الزمان والغزوات المتلاحقة ابادت الكثير من اديرة ذالك الوادي ولم يبق به من الاعداد الكثيرة التي ترعرعت بين ارجائه سوي اربعة اديرة منها وهي :
دير الانبا بيشوي
دير السريان
دير البراموس
دير الانبا مقار
وقبل الاسترسال في الكتابة عن كل دير علي حده في مقالات قادمة اود ان اوضح في هذا المقال اثار الرهبنة الديرية بوادي النطرون :
اولا : التعليمية
عندما ادت الاضطهادات والاضرابات المتوالية الي ضعف مدرسة الاسكندرية اللاهوتية, انتقل نشاطها الي دير ابو مقار بوادي النطرون , لتكملة مسرتها التعليمية وتحول الوادي الي مركز تربوي عظيم لعلوم الكنيسة .
واعتبرت الاديرة بحق مستودع كنوز العلم والمعرفة سواء الدينية او المدنية, وهي التي قادت الحركة التربوية في مصر خلال القرون الوسطي , وقامت بدور مدرسة الاسكندرية , فبجانب البحوث والدراسات التي تركزت داخل الاديرة ايضا التراجم العديدة واجادة لغات مختلفة وقامت ايضا بتأليف الكتب والنشرات الروحية والثقافية والتربوية .
واسسوا مدارس عديدة بالقري والنجوع واشرفوا بانفسهم علي مناهج التعليم وقاموا بتدريس الطلبة في شكل كتاتيب
ثانيا: حفظت التراث القبطي
يرجع الفضل لاستمرار المسيحية في مصر بايمانها القويم وتراثها المجيد الي الاديرة , فقد آلت الاديرة والرهبان علي حمل التراث المسيحي ,الذي يحوي التعاليم والتقاليد والعقائد والطقوس واللغة القبطية , واحتفظت به مصونا وسلمته للاجيال المتعاقبة في صورة صحيحة بعد ان اضافت فكرها وآدابها .
وفي سبيل ذلك, احتملوا جحود الهراطقة وتصدوا لهم بكل قوة بالحجة والبيان والبرهان , وتحملوا اضطهادات عنيفة بسبب تمسكهم بعقيدتهم ورفضهم للعبادة الوثنية والسجود للاصنام .
ثالثا :ملاذا للتعابي
الاديرة ملجأ للحزاني والتعابي وللمرضي ولكل من يعاني بمشاكل الحياة , حيث الجو الروحي وتعزيات الأباء المريحة للنفوس والاخذ بايديهم وطلب صلواتهم المرفوعة كل حين , اضافة الي بركات القديسين الاولين وشفاعتهم والانصراف للتأمل والوجود في حضرة الله مريح التعابي, والاديرة عنت بالشفاء الروحي والعلاج النفسي والجسدي حيث أسسوا وحدات صحية ومد المحتاجين بالأدوية مجانا ,خاصة ان اغلب الرهبان يحملون شهادات عالية في كل التخصصات الطبية والعلمية والادبية والفلسفية .
رابعا:الاقتصادية
لم تكن الرهبنة يوم ما سلبية او هروب من مسئوليات الحياة ,والا كانت سلوكا مرضيا غير مقبول, بل كانت وستظل هدفا للعمل الناجح والنظام الفريد وعمل الخير ومد يد العون للمحتاجين ومساعدة الفقراء والمعوزين .
وساهموا بمساهمة جدية في نمو الاقتصاد المصري, بمد السوق المصري بالخضروات والفواكه واثمار الاراضي الزراعية التي استصلحوها وبمنتجات الاليان واللحوم المختلفة والدواجن باسعار مناسبة ,فضلا علي تشغيل اعداد كبيرة من الايدي العاملة اتوا بها من القري والنجوع ودبروا لهم معيشة محترمة اضافة الي مرتبات مجزية .
خامسا :وادي النطرون والعالم الخارجي
كان لرهبان اديرة وادي النطرون أثر عظيم في العالم الخارجي , ونشروا الفكر الرهباني في كثير من بلدان الغرب والشرق, وأخذ رهبان الوادي علي عاتقهم التبشير بالمسيحية في تلك البلاد ,التي حطوا بها واشتركوا في تأسيس اديرة بهذه البلاد علي مثال اديرة وادي النطرون بنظام واشكالا خاصا تتناسب وظروف البيئة التي نشأت بها .
واول بادرة في بلاد الغرب يرجع الي الانبا اثناسيوس البابا العشرون , حيث افاد شعوب اوربا بنفيه مرتين بها,الاولي اعوام 335/338 م حيث قضي هذه المدة في مدينة تريف بفرنسا ,و كتب اخبار بعض الرهبان الاقباط وخاصة القديس "انطونيوس" , وهذه الحادثة ترتبط بقيام الرهبنة "الغالية "في فرنسا ودرج "مارتن "اسقف مدينة تور علي حياة اثناسيوس الرهبانية ,واسس جماعة رهبانية عام 326 م ووصل عدد رهبان الجماعة ثمانين راهبا قضوا حياتهم في صلوات ونسك وصوم قاسي وسكنوا الكهوف والاكواخ , وجمعوا في حياتهم بين الانفراد والشركة ولم يجتمعوا الا لتناول الطعام والصلاة في الكنيسة , وهي طريقة اشبه ماكان يحذو به رهبان وادي النطرون .
وفي أمر النفي الثاني للبابا اثناسيوس كانت هذه المرة في روما 340/349م , وخلالها عمل علي تشر النظام الرهباني وقد ذهب ومعه اثنين من كبار رهبان وادي النطرون , واقاموا الثلاثة بمنزل ارملة مسيحية تدعي "مارسيلا" وقد افاض اثناسيوس في الكلام عن الارامل والعذاري في مصر عن حياة الرهبنة المثالية , لذلك لانعجب من كثرة وجود بيوت للراهبات والعذاري في روما وكانت النواة الاولي لانتشار اديرة البتات بقيادة "مارسيلا "التي وضعت بدء تلك الحياة واجتذبت كثيرات منهن وبعض نساء الطبقة الراقية اللاتي بعن جميع حليهن ومتاعهن لتأسيس بيوت رهبنة البنات وانخرطن في الحباة النسكية .
ثم اسس الراهب المصري" امبروز" الرهبنة في ايطاليا واصبح اسقفا لميلانو وكانت شخصيته تفوق الاباطرة ولم يكد ينتهي القرن الرابع الميلادي حتي امتلأت جهات كثيرة في ايطاليا بالجماعات الرهبانية .
سادسا :وادي النطرون والرحالة الغربيون
الراهب الفرنسي المعروف "يوحنا كاسيان " عندما زار اديرة وادي النطرون قد تولي كتابة تراجم الاباء المصريين وتعاليمهم والقوانين التي وضعوها وحاول تطبيق قوانين اديرة الوادي علي الديرين الذين شيدهما في جنوب فرنسا
ثم زار" روفينوس "مصر ومكث عام 372م في وادي النطرون حوالي عامين وكتب تاريخ حياة الرهبان المصريين ونشر اخبارهم بين اهل الغرب ونقل تعاليم اباء البرية وانظمتهم وفضائلهم .
وكذلك القديس" جيروم" زار مصر في اواخر القرن الرابع و نقل ماعرفه عن نظم الانبا باخوميوس عام 404م الي اللغة اللاتينية واعتبرها اخر مرحلة منظمة لحياة الرهبنة فبادر الرهبان الايطاليون الي اتخاذها دستورا لهم وكتب قانون للراهبات بعث بها الي "مارسيلا " بمقرها الذي امتلأ بالعذاري في روما .
سابعا :وادي النطرون والحضارة الغربية
كانت بداية ظهور الحركة الرهبانية وتطورها وتصديرها الي الغرب من العوامل المهمة في الحفاظ علي الحضارة الغربية فعندما وقعت روما تحت الهجمات البربرية وعمت بها الفوضي وغرقت في العصور المظلمة (نهاية القرن السادس) اوشكت الحضارة الغربية علي الاندثار ,ولكن رغم كل ذلك نجدها انتعشت مرة اخري, وسبب ذلك مايراه اللورد "كينيت كلارك" ان الاديرة التي كانت موجودة باوربا كانت من اهم العوامل التي ساهمت في انقاذ الحضارة الغربية من الاضمحلال لما حملته من تراث وعلم وثقافة ولاهوت وكان هذا بفضل جهود البابا اثناسيوس ودوره في هذه الاديره
وفي الحقيقة انه لولا زيارة البابا اثناسيوس ومعه راهبان من وادي النطرون الي روما ما كانت اوربا تنبهت للنظام الرهباني وانشأت الاديرة التي حافظت علي قدر كبير من التراث الهيليني للاجيال القادمة يستفيدون منه ويخرجون من العصور المظلمة الي العصور الوسطي ثم الي عصر النهضة التي اثمرت عن اكثر الحضارات تطورا عبر العالم .وهكذا استفادت اوربا والغرب وباقي دول العالم اجمع من اقباط مصر.
ويمكن ان نضيف ماجاء بالكتاب الشهير (كيف أنقذ الايرلنديون الحضارة) الذي أكد فيه "توماس كاهيل" أن الايرلنديين استطاعوا الحفاظ علي الحضارة الاوربية كلها من خلال اديرتهم , واعترف كاهيل في كتابه بفضل الاقباط في وضع بذور الرهبانية في ايرلندا والغرب .واضاف قائلا ان الكتب التي ساهمت في ازدهار الحضارة هي التي سافرت من مصر وسوريا عن طريق ايرلندا وبريطانيا وانتشرت في نواحي اوربا.
كما ذكر الكاتب" دار ليمبل" في كتابه "رحلة بين المسيحيين في الشرق الاوسط" تأثير الأقباط علي المسيحيين" السلتيك " في كل من ايرلندا واسكتلندا, والدليل علي ذلك ان القداس الايرلندي يذكر سبعة رهبان أقباط الذين أتوا من مصر ونشروا الرهبنة هناك , كما ان حياة الانبا بولا اول السواح منقوشة علي حجر موضوع بكنيسة القديس "فيجانس " في اسكتلندا
واعترف "الكوين" مستشار "شارلمان "محرك النهضة الكارولينية بدور الأقباط حتي انه اطلق علي رهبان ايرلندا واسكتلندا لقب "ابناء مصر" ويشير "كاهيل" الي ان اوربا لم تكن لها ان تنهض دون وجود التراث المسيحي وازدهار الثقافة اليونانية والرومانية, التي حافظ عليها الرهبان الذين كان من ضمن شغلهم الاساسي نسخ المؤلفات والحفاظ علي الوثائق والمستندات والمخطوطات النفيسة ,حتي يحموها من الدمار والتخريب الذي حل بها علي يد البرابرة والعرب , والحقيقة رغم هزيمة الاقباط علي يد العرب عام 642م الا ان سلاحهم الثقافي بقي حاضرا محتفظا بقوته في الكتب يخدمون به العرب والعالم اجمع.
هوامش
وادي النطرون : الأمير عمر طوسون
تاريخ الرهبنة والديرية : د.رءوف حبيب
تأثير الاقباط علي الحضارة :د.أمين مكرم عبيد
مدرسة الاسكندرية: لكاتب السطور تقديم المؤرخ عبد العزيز جمال الدين
نوفمبر/ هاتور
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق