الحسناء التي ضيّعت رشدي/ يوسف ناصر


       لا تتعجّبوا! ذلك الصبيّ النضِر الذي ما زال يسكن تحت أضلعي، يبعث كل مرّة من تحت الرماد في أعماقي ذكريات قديمة ولواعج خامدة كادت جمراتها أن تنطفئ، ويؤجّجها كلّ مرّة ليسعد بمشاهدة لهبها ويقول لي: عشقتها مذ كنت غلامًا في ميعة الصبا عشقًا قلّما يبلغه عاشق مستهام من عشّاق الأرض! وقد جعلتُ عهدًا بيننا منذ تلك الأيّام ألاّ أفارقها ما حييتُ! وكلّما كنت قريبًا منها ازددتُ هيامًا بها وشغفًا، حتّى جعلتني مع تطاول الأيّام ناسكًا أحيا معها في صومعتي كما لو كانت أختي وأمّي! ويوم عنّتني صبابتها وضيّعتْ لي رشدي، ناديتها بلسان الصاعقة من أعماقي: لا لا تفعلي!  دعيني أحيا حياتي هائمًا بغير رشد! ذلك خير لي وأرْوَحُ لروحي في هذه الدنيا الشقيّة ! فأبت إلّا أن تردّ لي عبر السنين أضعافًا مضاعفة من ذلك الرشد الضائع، لأكون بأنوار عقلي أشدّ ظلمة ، وأكثر احتقارًا لمعرفتي، وأقسى غربةً في هذا العالم! 
  جاءت إلى منزلي يوم كانت طفلة صغيرة لم تتجاوز عقدها الأوّل إلى أن كبرت، وغدا منزلي يزدان بقامتها الفارعة، ومنكبيها العريضين، وتُغدق من حنانها على كلّ من يصافحها من أبناء المنزل الذين يرون فيها قصرًا باذخًا من مُرّ ولبان، عالي الشرفات، ومشرع النوافذ على كلّ جهة من جهات التاريخ والأدب، ويُطلّ على كلّ بحر من بحار الفكر الزاخر منذ تكوين المعمورة. 
                    هي أجمل حسناء رأيتها بين الحِسان الفاتنات ممّن عرفتُ كلّ حياتي، ولو أنّ القمر رأى جمالها لنزل من عليائه وخرّ راكعًا أمامها وسجد! ولو سمعَتِ الأزهار بها لجاءت من بعيد وتشمّمت شذاها! لبست ثوبًا مُنمنمًا منوّع الألوان، مُرقّشًا بأجمل الخيوط، ومُوشًّى بأحلى الصور، وعلى رأسها تاج ملكة مرصّع بأنفس اللآلئ، ومُموّه بماء الذهب الخالص. يفوح العطر من أردانها، ويتضوّع الأريج من قواريرها. تتدلّى من عنقها أنفس العقود والقلائد، ويزهو صدرها بأجمل الحليّ والذخائر.. وقد حبست ساعدَها أساورُ الماس، ولامست ساقَها سلاسل النّرجس. وفيّةٌ لا تغدر بصاحبها يومًا.. أسمع دائمًا أصوات أحياء منذ عهد الإغريق يقيمون في صدرها، وقد دُفنوا قبل قرون لكنّهم لم يموتوا. سخيّةٌ لو شئتُ لمدّت يدها إلى صدرها، ونزعتْ قلبها وقدّمته لي على طبق! طيّعةٌ ما سألتها شيئًا إلاّ أسرعت إليه ووضعته عند قدميّ! ما أعذب رضاب شفتيها ، تروّي غلّتي كلما خلوت بها وقعدت لأشرب على بئر ثغرها.. تؤنسني في وحدتي بأمتع الأحاديث، وتبهرني بأروع القصص، فتأخذني من ذلك نشوة تُنسيني طعامي وشرابي، وتردّ النوم عن جفني، وإنْ هي إلا لفتة أنظر من خلال نافذتي، وإذا بالفجر قد انبلج، والليل يحمل خيمته فوق عاتقيه ويرحل عن التلال والجبال القريبة! 
          ..لا أجوع لأنها تقدّم لي أشهى الموائد، ولا أعطش لأنها تجرّعني أعذب الشراب! كلّما افتقرت إلى الذخائر أطعمتني من خبزها الجوهريّ ونثرتْ بين يدي من سبائك الذهب، ونفائس الدرر، فتصغر عندي خزائن قارون وذخائر قيصر! وساعة ترى غيمة سوداء تقترب منّي، وتُلقي بظلمتها فوق روحي، تعاجلني وتنزل إلى أعماقي وتردّها عنّي، وتشعل مصابيح الأمل والعزاء في نفسي..! كان قلمي طفلًا رضيعًا ربي بين يديها، ونشأ في حضنها حتى غدا بفضلها إذا اشتدّت أنواؤه، وأومض البرق في ليله الداجي، يكفي بقطرة واحدة منه أن يغرق مدينة بأسرها ممّا احتبس في أعماقه من طوفانها الغامر!
             روّضتني على الصبر والجلَد، وأمدّتني بالإيمان والعزم الذي لا يفتر يومًا. حبّبتْ إلى نفسي أخلاق القلاع الراسية، وطبائع الحصون الراسخة. وكم من مرّة هبّت عليّ ببسماتها عليلةً، وأنعشت روحي من حرّ الحياة ووهج الأيّام! لم أجد في حياتي متعة أعظم من سياحتي معها ليلاً ونهارًا في مروجها، وبين تلالها وروابيها، والسير لأتنشّق أجمل الأزهار في خمائلها، وأقطف أشهى الثمرات في بساتينها، وأتفيّأ في ظلالها تحت دوحها الوريف! قالت لي مرّة ونحن على زورق الليل نتسامر: لا تغضب! أنا لا أستطيع أن أعطيك المواهب إن "لَمْ تَكُنْ قَدْ أُعْطِيتَ مِنْ فَوْقُ"، فلا تستطيع أن تكون نبيًّا أو أديبًا أو شاعرًا إن لم يأت النبيّ والأديب والشاعر معك من رحم أمّك، ولو كنت تملك في يدك قلمًا يمتدّ من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب من بلادك، حتّى لو كان حبره من كوثر ورحيق!
                جلستُ عند قدميها فعلّمتني أفضل الدروس، ولقّنتني أبلغ المواعظ، وكان أعظم حديثها معي ما حفظَتْه عن الأدباء من فرائد أدبهم، وما تلقّفَته عن الشعراء من قلائد أشعارهم.. وما نقلته عن السماء من معجزات وعجائب.. حتّى بغّضتْ إلى نفسي كلّ جليس سواها في هذه الدنيا. وكم يكدّر عليّ لذتي وأنا أضمّها إلى صدري أن يطرق زائر باب منزلي بغير موعد، فأجدني أقطع وصلي بها وأدفعها عن صدري بحزن وألم.
             ولقد زادني غرامًا بها دون غيرها أنني كلّما خرجت إلى الناس، ما وقع نظري لدى أكثرهم إلاّ على فرّيسيّ مُراءٍ، وشاهد زور دجّال، وحسود جبان، وجاحد نعمة، وناكر معروف، فأعود إليها متوجّعًا، لأجدها صيدليّتي، أتناول من ترياقها قدرًا يسيرًا أُسكّن به أوجاع نفسي، وأتجرّع جرعة أضمّد منها طعنة في خاصرة روحي..!    
             هي التي نزعت الغشاء عن عقلي لأرى التاريخ عجوزًا حنت الأيام ظهره وهو يحمل على كتفيه جرّته فارغةً من كلّ صدق، ويسير في الصحراء إلى حيث لا يعلم! ولأبصر الحياة ضوء شمعة قصيرة العمر سرعان ما تنطفئ، وأنّ على المرء في هذه الغربة أن يُحسن الحياة كما يُحسن الموت، وأن يكون عندليبًا صدّاحًا على أغصانها، لا غرابًا نعّاقًا في خرابها، وكم مرة سمعتها تردّد: ما أعظم الرجل الذي يكون كشجرة الصندل التي يبعث ساقها عطرًا في وجه الفأس التي تقطعها في يد الحطّاب!!
      وساعة تجدني قد بلغني الجهد من طول رحلتي معها في ذلك السفر الممتع في مسافات الفكر الطويلة، وأنّني ألتمس الراحة لنفسي لأُلقي عن كاهلي ما حمَّلتْنِيه من ثقل أحاديثها، تعيدني بلطف إلى حضنها لأغفو على صدرها حتّى الصباح، وهي تردّد في سمعي أقوالًا كثيرة، وتودِعني أسرارًا غريبة لا أبوح بواحد منها لأحد.. وأنا أهذي في نومي وأسأل: هل هناك من عاشق مثلي؟ وهل لصاحبتي أخت تضيء في كلّ منزل لدى أمّة الليل الدامس؟ فما أحبّها إلى قلبي، تلك المرأة التي ضيّعت رشدي، وفتنتني كلّ حياتي، إنّها مكتبتي! 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق