لبنان لا ينطفئ/ يوسف ناصر

   
         ..لا ، لبنان لا ينطفئ !! ولو جرَّ الظلامُ كلّ بحاره وراءَه، وحملها من أقاصي الأرض وغمَر لبنان، يبقى لبنان تحت الماء شمسًا وضّاءة تبعث من تحت الطوفان أمواج النور للعالم..! ويردّد لبنان رغم أنفك يا موت : لا ، لبنان لا ينطفئ ..! بل يقول للشّمس الماتعة في الأفق عند كل إشراق وسطوع : أيّتها الشمسُ .! لقد أرسلتُ إلى أصقاع الدّنيا من أبنائي الميامين مصابيحَ وضّاءةً، وكواكبَ سطّاعةً ليضيئوا العالم بأنوار أقلامهم أينما حلّوا ، ويمنحوا الأجيال من كنوز معارفهم أينما رحلوا، وإنْ شئتِ أيّتها الشمس، لكِ أن تنزلي كلّ يوم من خِدرك العلويّ في السّماء، وتستنيري من أضوائهم، وتستعيري من وهج عقولهم لتضيئي هذا العالم..! 
      ولو نادى الموت كلّ جنده وعساكره من أنحاء الدّنيا، فجاءت من الأرض والسّماء تحمل الجبال، وتضرب بها عظمة لبنان، وخلود الأرز، وتُلقي بالجحيم على مجد صنّين ، فإنّ لبنان لا يتهدّم ..!
           ولو أنّ صواعق الأرض كلّها هجمت تحمل على ظهورها كوارث الدنيا، وألقت بها فوق لبنان.. فإنّ لبنان ينهض من تحت الكوارث زهرةً شذيّةً تحمل الصواعقُ من شذاه عطرًا فوّاحـًا للكون الذي أرسلها إليه..! ليبقى لبنان حديقةَ الدنيا، وزهرةَ الأمم التي لا تذبل سرمدًا ..!!
     .. لبنان لا ينطفئ ..! ولو أنّ فراعنة الدّنيا ، قديمهم وجديدهم ، استلـّوا سيوفـًا يمتدّ طولُها على مسافات الزّمن السحيق، وجلدوا بها عنق صنّين ، تبقى هامةُ صنين شامخةً إلى السّماء تتدلـّى منها عناقيد النّجوم، وتحوم حولها أسراب الكواكب ..ويبقى لبنان ذلك الجبل المِشْماخ الّذي لا يركع..!!
     .. لبنان .! لو ساقوه إلى ألف جُلجلة تحت الضّرب، واللّكم، والرّفس.. ودقـّوا المسامير بيديه ورجليه، ورفعوه على ألف صليب...يخرج لبنان من قبره يصنع المعجزات للدّنيا.. ويضع الموتَ في نعش.. ويشفي الأمّة الخرساء التي غطّت الأرض من محيطها  إلى خليجها ، لأنّ لبنان توأم الأبد.. ورغم الصّلب حيٌّ أزليٌّ هو .. يخرج من القبر حيّـًا ولا يموت..!!
              ولو جاء إلى لبنان كلّ نَيرون ٍ في الأرض ، وأطلق نسورَ الموت أسرابًا فوقه لا تبرح سماءَه ..وبعث إليه بالعقارب المدرّعة .. والجنادب المصفـّحة تطحن بقنابلها عظامه.. فإنّ لبنان يصعد من تحت الرّحى قلعةً عصيّةً على الزّلازل والبراكين .. وما كان للبنان يومًا أن يندثر..!
     ..  لبنان لا ينطفئ ..! أنـَّى نبشتَ في ترابه، عثرتَ هناك على قبرِ جبّارٍ من جبابرة أبنائه تحت التّراب..! وما استقيتَ من ينبوع على أرضه إلاّ وجدتَه يجري من قلم دفين من أقلامهم تحت الثّرى..! إن هدموا مدنَك وقراك يا لبنان ، فإنّ تحت ترابك مدنـًا عامرة كثيرة ، وقرىً حيّة عديدة يحيا فيها الخالدون من بنيك العظام ..! أولئك ممّن يعيا الموتُ الزاحف إليهم أن يهدم مدنهم ويدمّر قراهم ، ولو نزلت القنابل إليهم ألف ميل تحت أعماق التراب..!!
   .. أيّتها الحرب ! ما أقسى قلبَك .!! وكم أنت غبيٌّ أيّها الطاغوت الّذي أرسلها..!  إنـّكَ بقدْر ما تهدم للناس منازلهم ، تبني عزائمهم وتؤجّج ضغينتهم ..! إنّ مَثـَلَ مَن يرغب في أن يُسكِت الناسَ بالقتل والتّشريد ، مَثـَلُ من يطلب أن يُخمد النّار فيذهب إليها ويغطـّيها بالهشيم اليابس..!! أو يأمل من عواصف الشّتاء أن تحطّم غصون الشّجر الباسقة ،فيزيدها الشّتاء بأمطاره السّخيّة علوًّا وزهوًا بين رفْرَف الشّجر في الرّبيع الزّاهر..! لم يدرِ الطاغوت أنّ الحرب حين تضع يدها على محراثها، ترمي وراءها بذور السّخط والثّأر..! هناك، ويا هول ما ترى ! تأكل النّار نفسها وتنطفئ ، لأنّها لا تستطيع أن تمشي حافية كلّ الطّريق الطّويلة وراء سنابل الحقد الكثيرة التي تركتها وراءها في الحقول الفسيحة..!
                    .. لبنان يا نورَ الأمم ، وبسمةَ الله على الأرض!!  أَرمي اليوم ، وفي كل ساعة ، قلبي عبر الحدود إليك..! وأرشُّك كلّ لحظة بأدمعي من وراء الجبال ..! وأُطلق من صدري كلّ صباح رياحًا تحمل الصّيحة بعد الصّيحة على الّذين يغسلون بالنّار وجهك الجميل ..! ويفرشون أرضك جمرًا تحت الحُفاة من أبنائك المساكين..! إنـّي، يا لبنان، أضمـّك من بعيد إلى صدري ، وأحملك خلف الجبال القريبة في جفني..! وأتمنـّى لو يكون فؤادي خبزًا لأطفالك ، وملجأً للمشرّدين الضّائعين من أبنائك .. النّائمين مع الحزن والدّموع في أيّ موضع فوق ترابك الحبيب ..!
      .. لبنان ..! تجمَّلْ وتعزَّ ، اصبرْ ولا تجزعْ..! لقد صنع الله لك مجدًا عظيمًا بين الشّعوب والأمم ، وجعلك سوارًا في معصم الزّمان..! ومتى كان المجد يا لبنان في هذا العالم لغير المضطهدين والمعذّبين بعظمتهم في الأرض !! ولئِنْ فاضت دموعك بحارًا حمراء غمرت حدائقك الشّذيّة ..ولئِنْ انهمرت دماؤك أمطارًا سخينة روّت أرضك الزكيّة.. ولئِنْ طار صراخك إلى كلّ أذن لا تسمع في هذا العالم ، وقد أسكتَ إلى حينٍ أطيارَك الفِضّيّة ..! ولئِنْ تكنـّـَـفكَ الموتُ ، وألقى من الظلمة وشاحًا على بسماتك النّديّة.. لسوف تبقى يا لبنان شعلةَ المحبّة، وعرش النور في هذه الدّنيا، ومنزل المجد، ومربض الخلود في هذا العالم ، ومعك تردد الأرضُ والسماء بأعلى الصّوت أبد الدهر:  لا لبنان لا ينطفئ ..! لبنان لا ينطفئ!! 
                                  كفرسميع ــ الجليل الأعلى
                                  ******  
(* كتب هذا المقال في الحرب الأخيرة )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق