قراءة في قصيدة "هي تلك القصيدة" من ديوان مزاج غزة العاصف للشاعر/ فراس حج محمد .
يبدأ الشاعر فراس حج محمد قصيدته بهذه الجملة "أهرب من كل قصيدة رديئة!" التي يتصدرها فعل حاضرٍ مستمر (أهرب)، وهو بذلك يدلنا على الحالة المضطربة التي يعيش فيها باستمرار، ومتلفتًا لأي شيء يأتي من الخلف، شيء يترقبه، ويصنفها بــ (قصيدة رديئة)، وهنا أظن أن مفردة (قصيدة) لا تستقيم في المعنى، حيث أنها مفردة توحي باكتمال أركان الكتابة في هذا النمط، فبالتالي تسمى (قصيدة) مجازًا وسط المشهد الأدبي، بمعنى آخر حينما توصف كتابة بأنها (قصيدة)، فإن ذلك يستوجب أن تكون بنيتها قوية سليمة، لكن الشاعر هنا يلصق بها صفة الرداءة، لافتًا نظرنا إلى ما تسمى ظلمًا (قصيدة)، في خضم العالم المهترىء للكتابة في العالم الجديد!
إن هذه القصيدة "تفرض نفسها بخيالها الهش" مع علمنا أن مفردة (تفرض)، تأتي لبسط نفوذٍ وسطوة، فكيف يكون لقصيدة رديئة تلك السطوة إلا إذا كانت مطعمة بمحسنات، بالطبع لن تكون محسناتٍ بديعية أو بلاغية، بل محسناتٍ من نوع آخر؟ والأغرب من ذلك أن يلحق السطوة بالخيال الهشّ، وأحسب أنه قصد ذلك الخيال الذي يترافق مع الكتابة المنمقة دون روحٍ حقيقي أو وجدان إنساني يتولد معها، ليصل النص إلى ما يخاف منه كل مبدع أو شاعر
القصيدة الرديئة فاضحة
ما علاقة الشاعر بتلك المسماة (قصيدة)! ولِم يوجه النقد لنفسه ويلصق الفضيحة به؟ هل كان الشاعر يتحدث عن محاولاته الفاشلة أو المنتقصة التي كان يخطط لها ثم يمزقها ويلقي بها بعيدًا خوفًا من الفضيحة، ليقول "تفضحني"؟ يؤكد الشاعر ما ذهبتُ إليه من معنى في قراءة مفردة (تفضحني) هنا "وأصبح سيرة غير محمودة في فصول لا نهائية!"، وهو حوارٌ مع النفس يسقطه على حالته المرتبكة في كتابته، ومحاولة عدم السقوط في وحل الرداءة، ومن ثم كان لا بد من الاشتغال ببنية القصيدة وتقويتها.
وهنا يعطينا الشاعر نتيجةً تراكمية، عبر محاولاته التي لم تخرج للفضاء الأدبي، كي لا يكون في مسيرته الأدبية سيرة يعافها كل شاعر، فإن سقط الشاعر مرة، فستكون وصمة عار له، كالمثل القائل (مثل الجمل لو طاح كثرن سكاكينه)، وبهذا يعبر الشاعر بــ (فصول لا نهائية).
وتبدأ محاورة بين الشاعر وتلك المسماة (قصيدة) بدءا من قوله "وأصبح سيرة غير محمودة في فصول لا نهائية!"، وما يلبث أن يمارس فعل الهروب مرةً أخرى، حتى من مجرد ظهورها الترابي، وتأتي مفردة (الترابي) دليلاً على رداءتها، فهي في مستواها ملتصقةٌ بالأرض، وكأنها من فئات الدرجة الخامسة أو السادسة المهترئة، وهي أوضع حالات الكتابة، وإمعانًا في امتهانها يلصق الشاعر هذا الوصف الدقيق بها "الملطخ بالغبار"، وكأنها بصمة العقر لتلك الكتابة، ويبدو في قوله هنا "من وجهك غير الواضح للنور" نتيجة حتمية منطقية لظهور (قصيدة)، فهي ترابية ناقصة لا ترتقي لأن ترى النور، فكيف يمكن لشيء ناقص أن يحلق في السماء ومن ثم تتكشف الفضيحة.
وتظهر في القصيدة صفة التطاول "من نارك الباردة" في حال تلك الكتابة، محاولةً إظهار شيء يحسب لها، أو ولادةٍ حقيقية لمسمى (قصيدة)، لكن تلك المحاولات تبوء بالفشل، ولهذا توصف بالنار الباردة، يذكرني هذا الوصف بالطعام البارد الذي لا تستسيغه المعدة، وبالتالي إما أن يترك أو يتم تسخينه، لكنه أبدًا لن يكون كالطازج الشهي الذي تفوح منه رائحة الاشتهاء الذي تستلذه النفس .
ويتابع الشاعر الهروب، لكن هذه المرة ينتقل ليعلي شأن تلك المسماة ( قصيدة )، فيقول "من وحيك المسنون" فالمعلوم أن مفردة (وحي) سماوية العلو، فكيف تمتلك تلك القابعة في التراب الملطخ بالغبار وحيًا سماويًا! يستدرك الشاعر المفردة بــ (كِ)، كي يقول لنا إنها رديئة في تصورها، وكأنها تمتلك شيئًا سرابيًا توهم نفسها بأن لها قيمة، لكنه هباء بل وتطاول إلى مفردة (المسنون) الحاد! فأي غرورٍ وأيةُ بهرجة كاذبة تمتلك تلك الــ (قصيدة)!
أيُسجن الوحي! أم أنه يلصق الصفة بــ (قصيدة رديئة)؟ لكن عن أية لحظة قاتلة أو لنقل فارقة لها التي حتمًا سيكون بقاؤها في الأدراج كذكرياتٍ لن تخرج للنور، ويتم إزهاقها قبل افتضاح أمرها وكاتبها، لذلك نرى هذا النداءٌ العاجل، "أنتِ أيتها القصيدة المنتظرة" صرخةٌ تضرب الآفاق، وصوتٌا يهدر، خلف الضمير (أنتِ)، محاكاة لجلالةِ القصيدة المتمناة، وكأنها قنبلةٌ انفجرت من داخل الصراع النفسي. ونُلاحظ هنا استخدام أل التعريف (القصيدة) (المنتظرة)، تلك هي القصيدة الحقيقية التي ينتظرها كل شاعر حقيقي، (أنتِ) ضمير رفع منفصل للمخاطبة، فالقصيدة للشاعر فتاته الجميلة، التي يتمنى أن تتزين بأجمل الثياب وأن تكون مهندمة بألوان زاهية وقماشٍ بجودة عالية.
القصيدة الرديئة امرأة مراوغة
"كيف لا تأتين بكامل الزينة" سؤالٌ يفيد التعجب، أو سؤال إقرار بأن القصيدة الحقيقية هي ما تأتي بكامل بنيتها البلاغية (هندسة النص)، إنه زمن الوهم، إذ "تواريت خلف كل قصيدة خادعة" زمن القصائد التي تتوشح بالنهد والإيحاء الجنسي، وملامسة الرغبة، بل وقد ترافقها صورة فاتنة يراد منها إبهار العين دون الذائقة الأدبية، وهذا ما يمارس الآن عبر المشهد الأدبي في أسماء تلاعب العين بالأصباغ والنهود المستثيرة، دون الدخول في حقيقة الكتابة، وهذا المشهد هو المسيطر على صفحات التواصل الاجتماعي، وما نراه من عبث، في هذا الزمن تتوارى القصائد الحقيقية وسط زحام الألوان المزركشة، لكن يبقى أن الحقيقة تكمن وراء من يعي ما يُكتب وما يُنثر، إذن سأسمي تلك المسماة بــ (قصيدة)، قصيدة سرابية ما تلبث أن تتقرح وهماً، "توهمني بها لغة ضعيفة" فالإيهام في الأصل لشيءٍ غامض أو نسبي، لكن لا أعي كيف لكتابة تحمل في أحشائها مفرداتٍ غائرة في الضعف والوهم أن تلد حتى مجرد لغة، هي ولادة لهرطقة مجازاً قد نسميها كما سمَّاها الشاعر لغةً ضعيفة، برغم عدم قناعتي بهذا الوصف الذي يرفع من شأن كتابة لقيطة، لا تسمن ولا تغني من جوع.
يعود للنداء مرة أخرى "أنت أيتها الغائرة في الشرايين المريضة"؛ نداء بنفس النداء السابق، لكن ماذا فعل الشاعر بكتابته كي تنحدر لنداء كتابة لا تمتلك شيئًا سوى الصور والأصباغ؟ ولماذا ألبستها أل التعريف، كي تصبح معرفًا! حُق للنكرة أن تظل نكرة، حتى وإن أردت بها وصف حالة الواهمين بها، النكرة لا يمكن أن تُطاول المعرف! أهو اهتزاز أو قهرٌ يمارسه الشاعر على نفسه؟ أكان الشاعر يقصد في (أيتها الغائرة في الشرايين المريضة )؟ أهي تلك القصيدة اللقيطة؟ هنا تنقلب الآية لكن أيًا كان لا يشفع أن يمنحها أل التعريف.
يبدو أن الشاعر في هذا المقطع "أنا لا أحبك في المساء حزينة متشائمة!" قد عدَّل الدَّفة، ويتضح الصورة أنه كان يتحدث عن القصيدة الحقيقية لا اللقيطة، يشي الشاعر بمواصفات القصيدة، هو لا يريدها مسائية حزن وتشاؤم، لكنني أستوضح، هل القصيدة الحزينة المتشائمة هي صفة الكتابة المسائية؟ مع أن أكثر أو أحسب كذلك أن المساء يأتي بالشجن، ومعروفٌ أن الليل وحي لما ينثره الشاعر أو الكتابة مما في نفسه، والكتابة الحزينة ليست عنوانًا لتلك المسماة (قصيدة رديئة) .
وفي خطوة أخرى يذكر الشاعر مواصفات الكتابة العادية، المموهة بطريقة ما، ملتصقة بالشعر، من أين تأتي تلك الصفات من كتابة عرجاء تتكىء على ابتذال لغوي وأخطاء بالجملة، لا ذائقة، لا شيء مما ذُكر، فـ"لا لحن فيك ولا بلاغة ولا صور!"
القصيدة الرديئة هي بنت الفجأة
وهل يأتي ضيفُ دون موعد أو إعلام كي يتم استقباله وتهيئة واجب الضيافة؟ إذن يعلمنا الشاعر أن هذه الكتابة تأتي مقتحمة فلا رقيب أو حسيب. "أنا لا أريدك مثل ضيف جاء في غمرة النوم العميقة" فالمجال واسع الانتشار، ولا يأتي في غفوة من زمن أصبح فيه الكاتب حيران" مما يرى من انتشار النعاس أو التثاؤب الأدبي، لكنه عميق بعمق الفاجعة، التي ترسم على وجوه الكتابة الحقيقية، وفي المقابل تتشبع أهواء المرتزقة في مشهدهم الخاص، وكذلك قوله "أنا لا أريدك مثل كأس الخمرة العاجلة"، فالكأس هنا هو ذلك الوهج الكاذب الذي تزيغ منه الأعين، وتستلذ به الذائقة الكاذبة، قد نقرأ شيئًا نعتقد أنه جميل لكننا إن دققنا فيه، فسنجده كارثيًا من قواعد ولغة، لا سيَّما إن كان مرافقًا لها صورة تستلذ لها العين، لكنها لا تلبث أن تتلاشى حينما نبدأ التفكير في المحتوى، فالناضج لا يمكن أن يمر عليه مرور الكرام.
ولا يقتصر الأمر على الضيف أو كأس الخمرة العاجلة، إن القصيدة الرديئة "كشريط متبدل على شاشة تغص بالإعلان عني"، وهنا يذكرنا الشاعر بحالة الإعلام المزري الذي يمارس عهره في الضحك على عقول المشاهدين، بزغزغة أهوائهم، لكن لِم ألصق الشاعر هذه الصفة به بقوله (عني)، أم أنه سمو في الفكر الذي يحمله، فهو لا يريد تلك البهرجة الكاذبة التي تمر سريعًا تمامًا، كذلك شريط إعلاني لا تركز فيه العين فيما يحتويه إلا لِماماً. وبعد هذه الانتقاصات التي ساقها لنا الشاعر عن صفات الكتابة الرديئة، يستوضح عن شكل القصيدة، بعد أن انزاح عنها كل الترهات التي تلتصق بالكتابات التي لا تليق بعالم شعري حقيقي.
القصيدة الرديئة وصراع الشكل
"ما هو شكلك إذن؟ ربما تحاولين الخروج عن نسق الأخريات" بعد هذه الانتقاصات التي ساقها لنا الشاعر عن صفات الكتابة الرديئة ، يستوضح عن شكل القصيدة ، بعد أن انزاح عنها كل الترهات التي تلتصق بالكتابات التي لا تليق بعالم شعري حقيقي.
والمحاولة هنا مآلها الاجتهاد والمثابرة في عدم الانجرار وراء قطيعٍ هائل من العبثية الأدبية، عبر طابور من القصائد سواء البالية أو الحقيقية، لماذا يتعجب الشاعر من تلك المحاولة! والتي هي يدين القصائد الحقيقية لكل شاعر يحترم ما يكتب، ويحاول أيضًا وضع بصمة خاصة له وسط أكوام الشعراء والناظمين وأشباههم، "لكي لا تكون القصيدة مكررة سخيفة"، مشهدٌ آخر ووصفٌ غير مباشر يقارب المباشرة في وصف الكتابة الرديئة، التي بالرغم من سخافتها إلا أن تدور في فلك السخف! أنى لها الكف عن سخفها وهناك المطبلون!
هل يا ترى تشبه بعض القصائد الزنابق ليقول "ربما كنت مثل زنبقة لطيفة"؟ هل يعني الشاعر القصيدة العمودية الرصينة التي يفرد فيها الشاعر الحقيقي عضلاته اللغوية والبديعية، حتى وإن كانت ثقيلة إلا أنها تمنح في أبياتها لمسات نسيم التذوق والفكر، ليحمل البطن منها مخايله الظريفة، على حد تعبير الشاعر، ربما، ربما، ربما، لتكن آخر (ربما) لتلك القصيدة التي يريدها الشاعر القصيدة الحقيقية دومًا دون ولادة بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ وعبارات قد توقظ عواطف عدة كقول الشاعر الشابي: "إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلا بد أن يستجيب القدر". وكقصائد مظفر النواب وأحمد مطر وغيرهم .
ولي هنا تعقيب خاص "ربما كنت امرأة وسطا"، فالوسط باستحضار آية (وجعلناكم أمة وسطا)، إذ يخطىء كثير من العوام، في أن معنى (وسطا) هو التوسط بين الشيئين، مستدلين على ذلك بأن دين الإسلام هو دين الوسطية، وهذا رأي يجانبه الصواب، فالوسط هنا هي الأمة الأجود والشاهدة على الأمم الأخرى، فالمرأة الوسط خنوعة منقادة للحياة تتأثر ولا تؤثر، هي باهتة، أتريد أن تكون القصيدة هكذا؟ "فأنا لا أحب المرأة العود، امرأة نحيفة"، والقصيدة الحقيقية لا تكون وسطا بل سمينة في محتواها الفكري والعاطفي، لكن ميزنها رغم سمنتها أنها تكون رشيقة، دون تبلد في مكانها، فكم من قصائد عظام اتسمت بالسمنة البلاغية، لكنها ظلت كما هي على مر السنين!
القصيدة الردئية تحت مباضع النقد
"كيف ستخرجين الآن على النقاد والقرّاء"، سؤالٌ غريب، القصيدة الحقيقية لا تأبه حين خروجها برأي إلا من خلال نقاشات المتخصصين، هي لا تنتظر بل يُنتظر خروجها من قبل النقاد والقراء بلهفة، كملكة تخرج في أبهة زينتها، إذن فــ:
لا تضعي المساحيق البليدة!
لا تغيري من خلقة الوحي
كوني مثلما أنت جريئة وجديدة!
لا تكوني مثل طاووس قبيح
وافتحي الآفاق للعاديّ كي يقرأ
واعتلي عرش القصيدة يا قصيدة!
وهي كذلك تعرف بوصلتها، فلا قلق عليها مهما ظهرت تلك الكتابات الغثائية، إن ألبسوها ثوب القصيدة، إنها القصيدة، "عندها سيفلت الشاعر من أنياب كل قصيدة رديئة"، وهنا أقول لا قلق على الشاعر، فمن يكتب هكذا قصيدة لن تقربه أية أنياب لقصيدة رديئة، فهو يقع تحت دائرة الصد التلقائي لشيء غثائي. فاكتب ما تعتقده، واجعل كتابتك سمينة رشيقة لا تمل، و"أنجح في الاختبار"؛ كنتيجة حتمية لكل من يحترم قلمه وتاريخه الأدبي، وبذلك ينهي الشاعر نصه هذا بقوله:
وأحرق كل حرف ليخرج دون خلل
وأزهو بالانتصارْ
وأنا أكتب لوحة الشعر بوجه طلق
كأنه الصدقة في بشاشة الشاعر والعالم والشعر
تلك هي القصيدة
تلك هي القصيدة!
وأنا أقول نعم هي تلك القصيدة . . .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صدر الديوان عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل، عام 2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق