أثارت الأحزاب الدينية في العالم الإسلامي بشكل عام والعالم العربي بشكل خاص اهتماماً واسعاً كوافد جديد إلى الساحة السياسية العربية رغم قدم بعضها، وخضعت مرجعياتها الفكرية والفقهية لتحليلات الخبراء السياسيين وتشريحهم، وكذلك وجدت اهتماماً لدى العديد من مراكز البحث الدولية والكتاب والمستشرقين الذين انكبوا على دراسة علاقة الإسلام بالديمقراطية. واللافت للنظر بأنه لا توجد دراسات عربية وإسلامية تبحث في العلاقة بين الديمقراطية والديانات الأخرى للاستفادة منها في حين توجد مئات الأبحاث العالمية التي تتناول علاقة الإسلام وغيره من الديانات بالديمقراطية.
من الثابت وغير القابل للجدال بأن الأحزاب الإسلامية في العالم العربي فشلت حيث نجحت مثيلاتها الأوروبية في العصر الحديث حيث تمكنت الأخيرة من العمل ضمن رؤى أوسع بكثير من المبادئ والقيم المسيحية الدينية وطورت المفاهيم الدينية ووضعتها في خدمة المجتمع، فتجاوزت التابو المقدس؛ بل تبنت في العديد من الحالات فكر ووجهات نظر أعدائها أن رأت بأن هذه الأفكار والنظريات تخدم شعوبها فتبنت الليبرالية في معالجتها لقضايا حقوق الإنسان كحقه في التعبير وحقه بالتملك والمجاهرة بالرأي وفي كل ما يتعلق بتشجيع المبادرات الفردية، وهي في نفس الوقت تؤكد على واجبات الفرد تجاه المجتمع وداخله. وتبنت هذه الأحزاب الاشتراكية عندما تعلق الأمر بالإبقاء على بعض المشروعات المؤممة وشبه المؤممة القوية وكذلك ما يتعلق بالضمان الجماعي وحق الفرد في التعليم والطبابة والعمل وتقاضي أجور عادلة ورفع درجة رفاهية المجتمع، وكذلك فرض الضرائب العالية على الأثرياء، ولكنها في نفس الوقت تساند الرأسمالية في مواقع أخرى وتقف إلى جانب اقتصاد السوق وترفض صراع الطبقات وتؤمن بأن التقدم والتطور مسؤولية الجميع. أما لجهة الأخلاقيات المحافظة فإن الأحزاب الدينية الأوروبية تقف إلى جانبها ولا سيما في قضايا الزواج والطلاق والإجهاض والموقف من المثليين ومن المعاقين والمعتوهين ومقابل ذلك تقبل الرؤية التطويرية للتغيير في هيكل المجتمع فهي على سبيل المثال تقبل بالحريات الجنسية وترفض الزنى من خلال مفهومها الأخلاقي له.
لقد تمكنت الأمم الأوروبية وبعد سلسلة تطورات طرأت على أحزابها ولا سيما الدينية منها من الفصل بين الدين والدولة على مبدأ "ما لله لله وما لقيصر لقيصر" وحافظت في نفس الوقت على جعل الدين عنصراً روحياً وقيمياً وثقافياً داخل المجتمع، فأضحى الكثير من أناشيدها وأعلامها الوطنية تحمل مصطلحات وإشارات دينية كإشارة الصليب على سبيل المثال.
إن هذه الأحزاب والتي بدأت نشأتها في أواخر القرن التاسع عشر في أوروبا ولاسيما في الدول التي شهدت انقساماً كبيراً حول دور الدين بالدولة كألمانيا وفرنسا لم تكن بالأساس حركات ديمقراطية. بل قامت للدفاع عن المصالح الكاثوليكية ضد النفوذ المتزايد للدولة القومية الليبرالية والعلمانية، وتدخلها في نشاطين أساسين للكنيسة هما التعليم والأسرة.
أما الأحزاب الإسلامية فهي تعمل وتنشط في السر والعلن لإقامة دولة الإسلام العالمية والخلافة الإسلامية وهو المشروع الذي فشلت في تحقيق مثيلاته الأحزاب الدينية الأوروبية عندما راجت في أوروبا خلال فترات سابقة فكرة " المملكة المسيحية الموحدة " وما لم تتجاوز الأحزاب الدينية الإسلامية عقدة دولة الإسلام العالمية وتنقلب عليها وما لم تحل إشكال العلاقة بين الدين والديمقراطية وتقر بمبدأ فصل الدولة عن الدين وتسعى لتسخير الدين لخدمة المجتمع، وتصبح أحزاب محافظة وطنية تهتم بقضايا العدالة الاجتماعية وتعدد الزوجات والطلاق والنسل فهي لن تبلغ الصورة التي تبدو بها الأحزاب المسيحية الأوروبية حالياً.
نحن بحاجة لأحزاب دينية إسلامية متنورة تعمل ضمن رؤى أوسع بكثير من المبادئ والقيم الإسلامية المتوارثة وتحتضن القيم العالمية التي تخدم البشرية وتعتبر القيم العالمية ولاسيما المتعلق منها بحقوق الإنسان جزءاً من القيم داخل المجتمع العربي. وعلى هذه الأحزاب إن أرادت الحياة إسقاط كل ما يتعلق برفض فكرة الوطن والمواطنة ضمن مفهوم أقترح أن نطلق عليه العلمانية الدينية القائمة على إبعاد الدين عن وسخ السياسة وتركه في برجه العاجي وتسخير الفكرة الدينية ووضعها في إطار خدمة الإنسان والمجتمع.
إن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى الأحزاب الدينية العلمانية لأنها ربما الأقدر من خلال فهمها المتطور للدين من إيجاد الآليات الأكثر نجاعة من أجل تكريس مفهوم فصل الدين عن الدولة واعتباره غطاء عاماً لها في الوقت نفسه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق