الحرية بين التقليد اللبيرالي والتقليد الجمهوري/ د زهير الخويلدي

" الحرية هي المشاركة الفعلية للمواطن في الحياة العامة"
 بنيامين كونستان

تنتهي كل محاولة في البرهنة على الحرية إلى قتل الحرية و يؤدي كل عمل إرادي في تحديد الاختيارchoix  إلى الوقوع في الحتمية والضرورة وعبث الأقدار، هكذا كتب المفكر الحر آلان مبينا أن إرادة التحقق من وجود الحرية ومحاولة التثبت من تمتع الإنسان بها قد يفضي إلى جعلها من المطالب التي لا يمكن تفاديها وتصورها في شكل إكراهي بحيث يكون من الواجب على كل إنسان أن يتدبر وسائل تحصيلها.

حينما نحاول إثبات الحرية فإننا نرسم لها حدودا ونستخلص وجود نوعين من الحرية الأولى داخلية والثانية خارجية. لقد زادت العلوم العرفانية اليوم في الشكوك حول قدرة الإنسان على حرية الاختيار. علاوة على أن السجل القانوني وعالم الحق ما فتئا يذكرانا بأن حريتنا تنتهي عندما تبدأ حرية غيرنا. على الرغم من أن القانون قد يمثل الإطار الملائم والشرط الصلب والإمكانية الواقعية التي تسمح بالتمتع بالحرية على الصعيد الفكري والاعلامي والفيزيائي والاقتصادي وتؤهل الإنسان إلى تحصيل جملة من الخيرات المادية والفوائد الاقتصادية والحقوق الأساسية في المجتمع الديمقراطي. غير أن الحدود الملموسة للحرية هي نتيجة تفاهم سياسي غير مقبول ولا يصنع البتة سعادة الكل.

يمكن إسناد أربع معان إلى الحرية: حسن الاختيار والسيادة الذاتية والاستقلال واللاّاضرار بالغير.

-         حرية الاختيارlibre arbitre هي ملكة تقوم باختيارات واعية  ومتعارضة بصورة تقليدية مع الحتمية المرتبطة بالانفعالات وحالات الجسم وبالقدر  أو الاغتراب ولو تغيب حرية الاختيار تنتفي قيمة المسؤولية.

-         يتم استعمال مصطلح السيادة الذاتيةAutonomie  للإشارة إلى الاستقلالية الاقتصادية والعاطفية. بيد أن عمونيال كانط منح هذا اللفظ دلالة محددة تشير إلى الملكة التي تمنح كل شخص القانون الذي يخصه، وينبغي أن يكون هذا القانون كونيا حتى يتم معاملة كل شخص كغاية وليس كوسيلة. يترتب عن ذلك إعطاء تقدير خاص لمفهوم الكرامة البشرية.

-         الاستقلال Indépendance هو الفعل الذي بمقتضاه لا يتبع المرء غيره حينما يقوم باستعمال ملكته الاختيارية.

-         Non-nuisance اللاّاضرار بالغير هو المبدأ الوحيد حسب جان ستوارت مل الذي  يمكنه أن يحد من حرية الأفراد من أجل احترام كرامة الإنسان الآخر وتحقيق منفعة عامة. يتمثل تطبيق هذا المبدأ في تثمين الكرامة عن طريق حظر أفعال الإضرار بالذات والإضرار بالغير.

فمن هو الكائن الحر على وجه الحقيقة؟

لقد تحددت الحرية منذ أفلاطون في القرن الخامس قبل الميلاد بوصفها قدرة الكائن البشري على تحصيل الخير واستكماله ولا تقتصر بالتالي على فعل ما نريده أو نرغب فيه الذي قد يسقطنا تحت هيمنة الرغبات.

وصف أرسطو في القرن الرابع قبل الميلاد الحرية بالفضيلة التي تسمح للانسان بأن يفعل بطريقة ارادية هادفة ووفق معرفة متعقلة للأسباب المؤدية إلى الفعل وليس بطريقة اضطرارية وفي ظل جهل بالأسباب وما يترتب عن ذلك من وقوع في العبودية وارتكاب للرذائل.

بعد ذلك قام الفكر الكلاسيكي مع القديس توما الاكويني في القرن الثالث عشر ميلادي بالتمييز بين الأفعال الارادية الموجهة بالعقل وتمثل الإرادة الحرة أو حرية الإرادة والأفعال غير الإرادية التي تحركها الرغبة.

في نفس الاتجاه ربط رونيه ديكارت 1596-1650 بين الحرية وتمرين العقل وبين أن الكائن الحر هو الذي يميز بين الحكم الواثق والحكم المسبق.وجعل حرية الكاملة في مقابل حرية عدم الاكتراث التي اعتبرها الدرجة الصفر من الحرية.

من جهة مقابلة اعتبر باروخ سبينوزا 1632-1677 حرية الاختيار مجرد معنى متداول يصلح في المجتمع بما أنه يجعل الناس يتحملون مسؤولية أفعالهم ولكنه من الناحية المعرفية خاطئ ومضلل. ودعا إلى معرفة الرغبات والانفعالات التي تحدد الأفعال البشرية وتقف وراء كل تصرفاتهم فردية وجماعية.

علاوة على ذلك منح عمونيال كانط 1724-1804 الحرية معنى أخلاقيا حينما اشترط استكمال القانون الأخلاقي الذي يكون هو نفسه بالنسبة الى الجميع والذي يمنحه كل انسان الى نفسه بطريقة شخصية.

بيد أن جيريمي بنتام 1748-1832 اعتبر الحرية عنصرا وهميا وغير موجودة في ذاتها بل هي مجرد إمكانية يمكن أن يعطيها كل امرئ مضمونا. بعد ذلك جاء جان بول سارتر في 1905 -1980 لكي يعيد الاعتبار بشكل جذري لتجربة الحرية بوصفها مسألة وجودية مبينا أن الإنسان يمتلك بصورة دائمة كل الخيارات ولا يمكنه الهرب من حريته بما أنه يوجد في عالم فارغ من المطلقات والآلهة فإن الحرية تمثل بصورة مكثفة وجوده ولذلك يعتمد على  مخيلته ليبرهن على هذه الحرية ويقوم بإعادة تشكيل العالم. فما الفرق بين الحرية الايجابية والحرية السلبية حسب ايزيا برلين1909-1997 في كتابها"مفهومي الحرية"؟

أن يكون المرء حرا بالمعنى الايجابي في النسق القيمي للمفكرين التحرريين للحقبة المعاصرة يعني أن تكون له القدرة على الفعل في الصيرورة الجماعية وأن يشارك في الحياة السياسية بشكل فعلي ويستكمل ذاتها بصورة تامة وأن يتخلص من الجهل والعزلة ويطرح وسائل كافية للانعتاق من كل تبعية للأغيار.

بينما أن يكون المرء حرا بالمعنى السلبي هو أن يكون معرقلا من طرف الأغيار أو بواسطة الأعراف والقوانين وأن يجد نفسه  قاصرا عن ممارسة التفكير والتعبير والتنقل والتنظم والتمتع بحياته الخاصة وممتلكاته على النحو المطلوب. بيد أن هذين النوعين من الحرية لا يتنابذان وإنما يشكلان الأسس التي ترتكز عليها المجتمعات الديمقراطية والثقافة التحررية وعلى سبيل الذكر لا الحصر لا يمكن ضمان تمتع المواطنين بحق التصويت وهو الذي يمثل الحرية الايجابية  وفي ظل مصادرة حرية التعبير بماهي حرية سلبية.

علاوة على ذلك وضع في ميزان الحريات العامة مفهومين هما التصور الليبراليlibérale  والتصور الجمهوريrépublicaine  وإذا كان التصور الأول يعود إلى كل من توماس هوبز وجيريمي بنتام فإن التصور الثاني يعود إلى كل من  لوك وروسو. يركز التقليد الليبرالي اهتمامه على الحريات السلبية مثل حرية الشيم وحرية التعبير وحرية التجارة وحرية القيام بالأعمال ويطالب بألا يعترض طرف مثل القانون الذي تضعه الدولة أو الأخلاق على هذه الحريات وألا يحد منها مادامت تحقق المنفعة حسب بنتام ولا تسبب الأذى لأحد حسب ستوارت مل وكل تدخل من طرق القانون يعتبر انتهاكا للحريات وبلا معنى إلا إذا كان ذلك يحمي حرية الغير.

في حين يقدس التقليد الجمهوري الحريات الفردية ويعتبرها هامة ولكنه يمنح القوانين والدولة دورا تأسيسيا للحريات العامة ويطلب من المشرع أن يضمن لكل واحد من المجموعة السياسية ألا يكون مهيمن عليه وخاضعا لأي سلطة وبالتالي أن يتمتع بالحرية بالمعنى الايجابي. ويعول كثيرا على قوة القوانين ونجاعتها وامتلاك قدرة خاصة على الرعاية وإيجاد الآليات التي تضمن مساواة في الوسائل المتاحة أمام المواطنين لنيل المنفعة العامة.لكن هل يؤدي التأليف بين الليبرالي والجمهوري إلى قيام تقليد ثالث يرنو نحو سياسات الحمايةprotection   ويفكر في ترشيد العلمانيةlaïcité  ؟

المصدر:

Sciences humaines, Liberté, Jusqu’ou sommes-nous libres ?, N°275, Novembre, 2015,pp 26-33. 

كاتب فلسفي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق