بهذا الاسـم كنا نعرفه، لا ندري إن كان أحدهم سأله عن اسم عائلته. نادرٌ جمال شَـيـبة ذلك السبعيني الأرمني الوسيم، فِـضِّـيَّـةُ شعره الكثيف الأملس الـمُسَرَّح دائماً إلى اليمين بأناقةٍ لا تشي بأنه بائع متجول ما لم تشاهده في جولته في بلدة راشيا الوادي ، أو قُـرى عيحا وكفرقوق وبكيفا وبيت لهيا، ينوء تحت حمل حقيبتين جلديتين ضخمتين وثالثة بينهما، محشوةٌ كُـلّـها بأزرار النيل والصابون والإبَـرِ وبكرات الخيطان ومكبات الصوف والألبسة والحلوى والأدوات المنزلية وسلع أخرى.
دؤوبٌ مثابرٌ لا يُـقْـعِدهُ حَـرٌّ ولا قَـرّ، ولا ثلج ولا جليد ولا مطر، كان عمي يعقوب يرتدي في الطقس الجليدي والـمُثلج معطفاً عسكريَّـاً سميكاً فوق سرواله وقميصه الكاكيين الفضفاضين، اللذين لم نَـرَهُ إلا بهما في الأيام العادية، ويَـلفُّ فَـردَتَـي حذائه بِـقِـطْـعَـتَـي خيشٍ تحولان دون انزلاقه على الجليد، يحمي رأسه بشالٍ صوفي، ويربط نِـهايَـتَـي سرواله بشالين آخرين، لا يلقي بالاً لتنافر لونيهما.
عرفناه صغاراً في الخمسينات وستينات القرن الماضي، وحتى ما قبيل منتصف الثمانينات، مُـتَـدَيِّـنـاً دون أن يَـعـلَـمَ أو يُـعْـلِـن، وما بَـدا يوماً بأنه مُهتم بأن يَـعـلَـمَ أو يُـعْـلِـن، تَـقِـيَّـاً نَـقِـيَّـاً كينابيع الجبل، وديعاً أنيساً مسالماً كطفل لم يعارك طفلاً آخر أبداً، انحناءته ومشيته البطيئة تُـجَسِّدان سِلْـمِـيّـتَـهُ وتؤكّدانها. كنا نستلطف لهجته الأرمنية في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر، وحين يلاحظ بأن أحدنا يُـركِّـزُ نظراته على العين الـيُـمْـنـى الزجاجية كان ينظر إلى الجهة الأخرى بسكينة ناسك يتقبل أحكام القدر، دون انزعاج أو تذمر.
رفيقاي، الـ "مُحَـمَّدان" الطفلان في حينه، أحدهما أشقر والآخر أسـمَـرٌ جداً، كانا يسألانه بخبث كلما التقيناه: "أتعرفنا يا عمي يعقوب" ؟ . تلمع عينه السليمة بوميضٍ جميلٍ ويبتسم : "أيْـوَه بَـعْـرفِكْ ، إنْـتـي إبْـن أم محمد أحمر وإنـتـي إبْـن أم محمد أسْـوَدْ" فنضحك ويضحك معنا بطيبه اليعقوبي الأليف.
يمكننا تخيل يعقوب الآن كـمُسِنٍّ وسيمٍ بوجهه الأبيض المستدير الـمُشبَـع بالـحُـمرة، إذا استعرنا تعبير آغاثا كريستي لوصف السيدة الـمُسنة "الآنسة ماربل" بالعجوز الجميلة في رواية "خداع المرايا". كان يعقوب قنوع في أسعاره، ضميري في جودة نوعية سلعه بنزاهة كبار الأتقياء، لم يشتكِ أيٍّ من الـمَدينين له بالغش في دفتره المليء بالكلمات الأرمنية. ولم تشتك أية ربة منزل يوماً من نسيانه لما توصينه عليه.
بعد أن غرز الفقر كل أنيابه بأجسادنا الطرية واضطرارنا لـمُغادرة القرية صغاراً للعمل في بيروت، كنت أزوره في كل إجازة. وحتى بعد سفري إلى الخليج بقيت على صلة مع عمي يعقوب، ولغاية وفاته في العام 1983، رحلت زوجته بُـعَـيْدَ رحيله بقليل، فصرت بعدها أتعمد المرور على الطريق الفرعي الـمُفضي إلى حيث كان يقيم كي أستأنسَ برؤية أبوابه وشبابيكه الحزينة الـمُغلقة، وأستحضرَ صورته.
الخبر في 21/01/2016
دؤوبٌ مثابرٌ لا يُـقْـعِدهُ حَـرٌّ ولا قَـرّ، ولا ثلج ولا جليد ولا مطر، كان عمي يعقوب يرتدي في الطقس الجليدي والـمُثلج معطفاً عسكريَّـاً سميكاً فوق سرواله وقميصه الكاكيين الفضفاضين، اللذين لم نَـرَهُ إلا بهما في الأيام العادية، ويَـلفُّ فَـردَتَـي حذائه بِـقِـطْـعَـتَـي خيشٍ تحولان دون انزلاقه على الجليد، يحمي رأسه بشالٍ صوفي، ويربط نِـهايَـتَـي سرواله بشالين آخرين، لا يلقي بالاً لتنافر لونيهما.
عرفناه صغاراً في الخمسينات وستينات القرن الماضي، وحتى ما قبيل منتصف الثمانينات، مُـتَـدَيِّـنـاً دون أن يَـعـلَـمَ أو يُـعْـلِـن، وما بَـدا يوماً بأنه مُهتم بأن يَـعـلَـمَ أو يُـعْـلِـن، تَـقِـيَّـاً نَـقِـيَّـاً كينابيع الجبل، وديعاً أنيساً مسالماً كطفل لم يعارك طفلاً آخر أبداً، انحناءته ومشيته البطيئة تُـجَسِّدان سِلْـمِـيّـتَـهُ وتؤكّدانها. كنا نستلطف لهجته الأرمنية في تذكير المؤنث وتأنيث المذكر، وحين يلاحظ بأن أحدنا يُـركِّـزُ نظراته على العين الـيُـمْـنـى الزجاجية كان ينظر إلى الجهة الأخرى بسكينة ناسك يتقبل أحكام القدر، دون انزعاج أو تذمر.
رفيقاي، الـ "مُحَـمَّدان" الطفلان في حينه، أحدهما أشقر والآخر أسـمَـرٌ جداً، كانا يسألانه بخبث كلما التقيناه: "أتعرفنا يا عمي يعقوب" ؟ . تلمع عينه السليمة بوميضٍ جميلٍ ويبتسم : "أيْـوَه بَـعْـرفِكْ ، إنْـتـي إبْـن أم محمد أحمر وإنـتـي إبْـن أم محمد أسْـوَدْ" فنضحك ويضحك معنا بطيبه اليعقوبي الأليف.
يمكننا تخيل يعقوب الآن كـمُسِنٍّ وسيمٍ بوجهه الأبيض المستدير الـمُشبَـع بالـحُـمرة، إذا استعرنا تعبير آغاثا كريستي لوصف السيدة الـمُسنة "الآنسة ماربل" بالعجوز الجميلة في رواية "خداع المرايا". كان يعقوب قنوع في أسعاره، ضميري في جودة نوعية سلعه بنزاهة كبار الأتقياء، لم يشتكِ أيٍّ من الـمَدينين له بالغش في دفتره المليء بالكلمات الأرمنية. ولم تشتك أية ربة منزل يوماً من نسيانه لما توصينه عليه.
بعد أن غرز الفقر كل أنيابه بأجسادنا الطرية واضطرارنا لـمُغادرة القرية صغاراً للعمل في بيروت، كنت أزوره في كل إجازة. وحتى بعد سفري إلى الخليج بقيت على صلة مع عمي يعقوب، ولغاية وفاته في العام 1983، رحلت زوجته بُـعَـيْدَ رحيله بقليل، فصرت بعدها أتعمد المرور على الطريق الفرعي الـمُفضي إلى حيث كان يقيم كي أستأنسَ برؤية أبوابه وشبابيكه الحزينة الـمُغلقة، وأستحضرَ صورته.
الخبر في 21/01/2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق