د.هند أبو الشعر أديبةُ الأردنّ ونفحتُهُ/ يوسف ناصر*

          .. مثلما يُبقي البحر في أعماق اللّجة أنفس الدرّ ، وأجمل المرجان، ويقذف بالصدف والغثاء من أشداقه تحت أقدام الشاطئ ، هكذا القلب الزاخر من قلوبنا، يحتفظ تحت لجّته دائمًا بكل عزيز وجليل من الناس الطيّبين دون سواهم، ويَبقى الواحد منهم حبيس القلب لا يبرحه يومًا، حتّى يستحيل القلب تحت الصدر بهم قارورة طيب يتنشّق واحدنا منها عبيرهم، ويتشمّم أريجهم كلّما استعر فينا وهج الذكرى ، واشتدّ لظاها تحت الجوانح .! كذلك يبقى واحدنا يتمثّل ماضيهم دائمًا، ويستحضر صورهم وهي بعيدة ! ويسمع في ضميره أصواتهم وهي غير مسموعة ! تلك القارورة الفوّاحة المقيمة في أعماقنا، كلّما تطاولت السنون، ونأت الديار، وأزرت بنا الأيّام، زادتنا تهافتًا عليها في صدورنا ، ولذّ لنا النزول إليها كلّ حين لنمتّع أنفسنا من شميم ذلك العرار، ونشْق تلك الأزاهير..! وإنّ من ينظر منّا إلى قلبه لَيَجدَنّه تحت أضلعه، مدينةً كبيرة تعجّ بالناس الأحبّاء الأحياء الذين يروحون ويغدون في شوارعها، منهم من ذهبوا إلى لقاء ربّهم ، ومنهم ما زالوا أحياء يملؤون الدنيا بمحبتهم وعطائهم، أولئك الناس ــــ ســلام عليهم أينما أقاموا ـــ يكونون أنسًا لواحدنا في وحدته، وعزاءً في عزلته ، وفرحًا ساعة الأسى الشديد، ومَن لنا سواهم عند كظّات الكروب وضغطات الأحزان.!
           ما أنسَ لا أنسَ يوم التقيت في مكتبها قبل أعوام مضت، رئيسة قسم التاريخ في جامعة آل البيت، الصديقة العزيزة الدكتورة هند أبو الشعر مدّ الله من أجلها. ذلك يومٌ أعدّه من أسخى الأيّام وأكرمها عندي، إذ جمعني ساعتئذ، أنا وزوجي، في لقاء حميم بسيّدة نبيلة، وأستاذة جليلة، تمتاز بغزارة معرفتها، وسَعة اطّلاعها، وتزدان بصفائها ولطفها، وتبهرك بفصاحتها وذكائها، وتحتّم عليك أن تلازم الصمت ريثما تصغي إلى رقّة خطابها ورونق حديثها . وهي مع ذلك تدهشك بوقار عجيب ، أين منه وقار الجبال ، وبأنفة شمّاء عزّ أن تجدها في أنفة القمم..! ولا عجب أن تكون الدكتورة هند قد توارثت هذه المناقب العظيمة، والخلال الكريمة، فهي سليلة أسرة زكا أصلها، وطاب مغرِسها في مدينة الحصن الغرّاء ، ومن أخلص العائلات وأعرقها في الأردنّ الحبيب، ويرجع أصلها إلى حاضرة الحواضر فيما مضى من غابر الأزمان، مدينة بُصرى في سورية، فتنتمي بحكم ذلك إلى العرب الغساسنة كأكثر العرب المسيحيّين في بلاد الشام .
           ولا يقف هذا الشرف الأسنى عند أصالة محتِدها، وطيب أُرومتها فحسب، فالدكتورة هند ربيبة بيت علم وأدب وجاه في الأردنّ ، وقد توارث  أبناء هذا البيت العريق أثيل المجد كابرًا عن كابر، وقد تسنّم أعلام منهم رتبًا عالية، ومناصب رفيعة في مضمار السياسة والثقافة والأدب. وبفضل نشأتها هذه، خرجت هند إلى الدنيا وفي يدها قلم سيّال، حفيد قلم سيّال كان يتنقّل بين أجدادها الميامين، فأخو جدّها لأبيها طيّب الذكر عقيل أبو الشعر كما نعلم، كان أديبًا بارعًا، وكاتبًا وطنيًّا معروفًا، وقد خلّف قبل مِائة عام تقريبًا ثلاثًا من الروايات الهامّة : رواية " القدس حرّة" و " إرادة الله" و" انتقام الأب كريستوبال"، ويبقى فضل هذه الروايات عظيمًا في أنها صدرت أيّام كان أكثر الناس من الناطقين بالضّاد قبل قرن، يغطّون في سبات عميق من الجهل والفاقة ، وقد قلّ في ذلك العهد أنْ بشّرتْ القابلة بميلاد قلم واحد، أو سمعتْ بصوت صارخ في البريّة من الأردنّ خاصةً، وبلاد الشام عامّةً.
        كبرت هند يومئذٍ في عيني كثيرًا لتواضعها العظيم ، فالكبار يبقون كبارًا وإن سكتوا عن ذكر مناقبهم، بل إنّ سكوتهم يزيدهم كبرًا وجلالاً، والصغار يبقون صغارًا مهما ثرثروا في ادّعاء ما ليس فيهم، بل إن ثرثرتهم تزيدهم صغرًا وصَغارًا حتّى يختفوا عن أنظار الزمن.
          ولقد أكبرت في هند أيضًا انتماءها الوطنيّ، وما في نفسها من عشق وانتساب عميقين للأردنّ وسائر أبنائه دون فرق عندها بين مسيحيّين ومسلمين، ذلك الانتماء الطاهر الذي يرقى بها فوق الطائفيّة البغيضة وينزهّها عن العنصريّة الهدّامة، وقد أدركَنَا زمان عزّ فيه البرّ بالأوطان لدى بعض الناس، وقد عقّوا بلادهم، وأنكروا عروبتهم، وانتهكوا عربيّتهم، وعبدوا الشيطان في دينهم، وبفعل العقول الدخيلة في رؤوسهم، بثّوا الطاعون في بلادهم، وحرّضوا الطاغوت على أوطانهم ، فلا عجب أن تناسلت بيننا المصائب واخترمتنا النوائب .! 
                وهند مع ذلك أديبة مطبوعة، جاءها القلم طوعًا ولم تذهب إليه راغمة..! أتتها الأضواءُ من بعيد تبحث عنها، ولم تبحث عن الأضواء يومًا..! ومع ذلك، فقد عُرفت بكثرة أعمالها الأدبيّة التي بلغت الغاية القصوى في قيمتها وبلاغتها وعمقها، وحسن اختيارها لموضوعاتها في الأدب والتاريخ والنقد والبحث وغير ذلك من المجالات المختلفة. ولا بدّ لي هنا أن أنوّه بتضلّعها من العربيّة وسلامة لغتها من اللحن ، مع جمال التعبير، ووضوح الفكرة وانسياب المعنى وعفو الخاطر في عرض الموضوع ، ممّا حدا بي أن أتّخذ من بعض قصصها ونصوصها الجميلة نماذج مختارة، كنت أدرّسها لطلابي في أحد مساقات اللغة العربيّة في جامعة القدس. وإنّ كتابها النفيس الذي أهدتْنيهِ " إربد وجوارها" يُعدّ في نظري من الكنوز النفيسة التي تحتفي كلّ مكتبة بقيمته، وتحتفل أن يكون واحدًا ممّا ينتظم فيها من ذخائر ونفائس. وبهذا العطاء تكون الدكتورة هند قد ساهمت خير مساهمة في بعث النهضة الأدبيّة والعلميّة في الأردنّ والعالم العربيّ، ذلك باعتراف من تناولوا أدبها بالدرس والتحقيق. وأهم من ذلك كلّه أنّها فيما قدّمت من ثمرات يراعها، رفعت من شأن المرأة العربيّة وقيمتها، وكانت أمثولة حسنة للنساء العربيّات النجيبات في خدمة الأوطان خير خدمة، وكأني بقلمها في يدها يهتف بأعلى صوته : "تعالوا وانظروا" هوذا المرأة تُسيّل من فمي أصفى الينابيع من فكرها، وتدفع منّي  أغزر السيول من مواهبها، فاكسروا كل قيد على قلبها، وحطّموا كلّ سجن حول روحها، تروا أنّها كنوز تبر وماس في منازلكم لا تنفد.!
           ولئن كانت الدكتورة الصديقة هند لا تحتاج إلى شهادة من أحد على مكانتها الأدبيّة، وجلال قدرها بين أديبات العربيّة وأدبائها، فلا يفوتني هنا أن أذكر أنّه في إحدى زياراتي للصديق المرحوم ناصر الدين الأسد كان طيّب الذكر أشاد بفضلها، وما أسدته من خدمات جليلة للأدب والتاريخ والبحث العلميّ في الأردن، مثَلُه في هذا الرأي مثَلُ ابن عمّنا وسريّ العشيرة* في الأردنّ ــ ولا فخرــــ العلاّمة المرحوم روكس بن زائد العزيزيّ الذي أقرّ لي غير مرّة بنباهة صيتها، وعلوّ شأنها، طيّب الله ثرى هذين العملاقين، وجعلهما مع الأبرار والصدّيقين في الأخدار السماويّة.
             إنّ قيمة أديبة في قامة الدكتورة هند تتجلّى في أنها تبعث الأمل في قلب الوطن الحبيب وفي نفوس أبنائه ، في زمن يطوف اليأس والبؤس والجوع والموت في أكثر بلاد العرب، حتّى أظلمت القلوب، وانكسرت النفوس، وانهلّت الدموع من كلّ جفن ، ونبت الأوطان بأهلها، وغدا الناس فيها يُؤثرون الجحيم على "جنانها"، والنجاة بالهجرة منها إلى حيث النار واللهب.!  ذلك أنّ الوطن بمثل هذه القامات العظيمة لا يكون صحراء عطشى يتّقي الناس قيظها ووهجها، بل تكون خميلة فيحاء ترتادها الأطيار، وتترنّم فوق جداولها الأغاريد ، ويطيب المقام تحت أفيائها، ويحلو البقاء بين أزاهيرها ، وتغدو الآمال فيها خضراء يانعة.. وماذا يبقى للأوطان بغير أقلامها ! وماذا تكون البلاد دون ينابيعها ! ومن أين للأمم أن تستضيء بغير كواكبها ! حفظ العليّ القدّوس صديقتنا الدكتورة هند ورعاها وقلمَها المعطار في الأردن الحبيب دوحةً وارفة الظلال، ممتدّة الأفنان، دانية القطوف، يرتادها من أبنائه كل طالب علم وأدب، وتزيده هي وسائر أهل القلم من أدبائه شممًا ومجدًا .
                           كفرسميع ــ الجليل الأعلى
Yousef.nasser@gmail.com
*(كاتب المقال أديب وشاعر معروف ومحاضر للّغة العربيّة)
*  إشارة إلى أن الكاتب يعود في أصل نسبه إلى عشيرة العزيزات في مادبا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق