قراءة مُعمقة، التفاهم الأمريكي – الإيراني : جذوره الفكرية وسيناريوهات متوقعة/ محمد الياسين

يقول زبغنيو بريجينيسكي مستشار الأمن القومي الأسبق للرئيس الامريكي جيمي كارتر : " أعتقد بإن إيران ستجد شكلاً من أشكال التوافق مع المجتمع الدولي ، على الأقل بشكل أسرع وأسهل مما يمكن أن تصل أليه كوريا الشمالية".
ويقول ايضا : " في المدى البعيد إن مصلحة أمريكا في تحقيق الإستقرار في الخليج، يمكن التوصل اليها عبر إشراك إيران في مفاوضات مع جيرانها ، وفيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط والخليج العربي نحتاج إلى الإقناع لا الإكراه ، وبالتحديد نحتاج لإشراك إيران ، وان ترتيب العلاقات مع المجتمع الإيراني سيؤدي إلى تحقيق أهداف أمريكا في جلب الإستقرار والأمن للشرق الأوسط".
أستند بريجينيسكي على تصوراته للحالة الداخلية لإيران في تأسيس رؤية سياسية تقوم على أساس التعاون بين واشنطن وطهران قائلاً : " ينبغي على الولايات المتحدة التوافق مع النظام الإيراني القائم وليس إنتظار سقوطه". تمحورت تصوراته عن الداخل الإيراني بقناعته ان الجمهورية الإيرانية مُحكمة البُنية الداخلية ، وأن القوى التي تلتزم المحافظة على النظام القائم لا تزال موجودة بقوة في السلطة ، وان أي محاولة إنقلاب تدعمها واشنطن أو ضربة عسكرية ستؤدي لتقوية التيار الديني الحاكم شعبياً".
يعتبر بريجينيسكي من أقطاب المدرسة الواقعية الأمريكية ، وهو أحد الذين تأثرت السياسة الأمريكية الخارجية بأفكارهم ، وحازت أفكاره على مكانة متميزة لدى صناع القرار الأمريكي ، خاصة خلال فترة تولي أوباما لإدارة البيت الأبيض ، وأحتلت نصائح بريجينيسكي المتعلقة بالعراق مكانة خاصة روجت لها الماكنة الدعائية للحزب الديمقراطي خلال الانتخابات الرئاسية وقبيل الإنسحاب العسكري الامريكي من العراق، كما اخذت نصائحه مكاناً في تقرير ( بيكر هاميلتون ) ، بدأت المدرسة الواقعية التي يمثلها بريجينيسكي تحل محل المدرسة المحافظية الجديدة في السياسة الخارجية الامريكية عقب صعود التيار الديمقراطي للحكم وحصوله على أغلبية المقاعد في البرلمان ومجلس الشيوخ ، من بين تلك النصائح بشأن العراق ، التأكيد على ضرورة سحب القوات الأمريكية في وقت محدد تعلن عنه الإدارة الأمريكية بالتنسيق مع القادة العراقيين ، وان تكون عملية الإنسحاب على دفعة واحدة او على شكل دفعات متقاربة زمنياً ، كما دعى الإدارة الأمريكية لتشجيعها القادة السياسيين في العراق على المطالبة بإستمرار من الأميركيين سحب قواتهم من البلاد ، بهدف رفع مستوى التأييد الشعبي العراقي لهم في مرحلة ما بعد الإنسحاب!.
عودة لمخاوف بريجينيسكي من حرب على إيران ، ينقل دايفيد اغناطيوس في الواشنطن بوست عنه قوله : " أعتقد بإن الحرب مع إيران ستُنهي دور أمريكا الحالي في العالم ، في حرب مع إيران ستسقط أمريكا لفترة تتراوح من 20 – 30 عاماً ، سيلومنا العالم أجمع ، وسنفقد موقعنا في العالم". من جملة أسباب مخاوفه تلك عبر عنها قائلاً : " إيران دولة يبلغ تعداد سكانها 70 مليون نسمة والحرب معها ستجعل المغامرة الفاشلة في العراق تبدوا أمراً بسيطاً إلى حد السخرية ". نشوب حرب سيؤدي لإرتفاع قياسي لأسعار النفط مما سيعرض الإقتصاد العالمي لنكسة كبرى ، كما ان الحرب مع إيران ستعرض المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط للخطر.
طرح بريجينيسكي رؤية للحل ضمن إستراتيجية عامة قائلاً : "الإستراتيجية الأمريكية ينبغي أن يتم تحقيقها من خلال المفاوضات الجادة وليس الشعارات ، ومن المفترض ان تهدف إلى فصل الروح القومية الإيرانية عن الأصولية الدينية وتفترض هذه الإستراتيجية ترك التهديد بالحرب جانباً ، فهذا التهديد يدمج القومية الإيرانية مع الأصولية الشيعية ، كما يثير حفيظة المجتمع الدولي الذي يرى ان هذه السياسة تشجع إيران على عدم التراجع عن مواقفها".
حري بالذكر ان الرئيس باراك اوباما منذ توليه للرئاسة لوحظ على خطاب إدارته إستبعاد لغة القوة والتلويح بالخيار العسكري ضد إيران!.
الإستثمار الأمريكي في إيران! :

يضيف بريجينيسكي : " ثمة خطوة هامة يمكن ان تكون أحد مفاتيح الحل مع إيران ، وتكمن في البدء بمفاوضات في قضايا الإستثمارات الأمريكية في إيران مع أطراف إقتصادية إيرانية ، والتوصل إلى إتفاقات لا يتم تطبيقها إلا في حال التوصل إلى حلول للقضايا السياسية المختلف عليها ، إن عودة الإستثمارات الأمريكية إلى إيران سيساعد على التخفيف من أحادية التيار الديني في السلطة ، عبر تقوية القطاعات الخاصة ، وتقوية الطبقة الوسطى في البلاد ، وإيجاد فرصة لتصدير القيم الأمريكية إلى الداخل الإيراني".
تُرجم طرح بريجينيسكي المتعلق بالإستثمار الغربي في إيران ، مباشرة بعد رفع العقوبات الإقتصادية الدولية عن طهران ، وزيارة الرئيس الإيراني إلى إيطاليا وفرنسا والتي توجت بشراكة إقتصادية كبيرة بين طهران وباريس!. ليست المرة الاولى التي يتبنى فيها بريجينيسكي نظرية ( سياسة الاحتواء ) ففي كتابه الشهير ( رقعة الشطرنج الكبرى ) طرح أفكاره القائمة على إستخدام الإقتصاد في تطبيق سياسة الاحتواء التدريجي مع روسيا مابعد السوفيتية ، والصين الآسيوية ، عبر عن ذلك بوضوح عندما طرح فكرة مفادها : ان التقارب الأوربي الغربي مع روسيا والتعاون بينهما في الجوانب الأمنية والإقتصادية سيؤدي لتقليل حدو التوترا في المنطقة الأوربية ، وان دعم الأقتصاد الروسي بالاستثمارات الأجنبية سينقل البلاد تدريجياً للمجتمع الديمقراطي، بالتالي تخليها عن الطابع الامبراطوري وذهابها نحو الخيار الأوربي الغربي ، ولتحقيق ذلك أكد على ضرورة دعم إستقرار وسيادة الدول الناشئة حديثاً عقب إنهيار الإتحاد السوفيتي ، المجاورة لروسيا ،  خاصة أوكرانيا ، لما لها من أهمية إستراتيجية في تلك المنطقة التي كانت مجالاً جيوبوليتيكي للسوفيت.

النظرية الكيسنجرية في العلاقة الأمريكية – الإيرانية :

يعد هنري كيسينجر من آباء المدرسة الواقعية الأمريكية ، وتعتبر تجاربه وأفكاره وكتاباته مرجعية للعاملين والباحثين في السياسة الخارجية الأمريكية ، شغل منصب مستشاراً للرئيس الأمريكي في قضايا الأمن القومي ولاحقاً كوزيراً للخارجية ، لخص أحد الكتاب العرب إستراتيجيته الدبلوماسية بثلاث نقاط مقتبسة من أقواله :
1.    كي يكون ثمة سلام ، لا بد أن تكون هناك تسوية قائمة على التفاوض يخرج منها الجميع في حالة توازن.
2.    القوة المنتصرة يجب ألا تسحق المهزوم أو تبيده ، إنما يجب أن تمنحه قدراً ومنفذاً لسلام مشرف.
3.    أفضل ضمان للسلام هو التوازن.
أول كتاب أصدره كيسينجر بعد نيله لشهادة الدكتوراة بعنوان ( السياسة الخارجية والأسلحة النووية ) ، يلخص روبرت كابلان في مقالته في مجلة الاتلانتيك رؤيته لدور السلاح النووي قائلاً : " في ظل التغير النوعي للأسلحة ، فأن وظيفة رجل الدولة لم تتغير : بناء توازع ردع بين القوى الكبرى كخطوة نحو بناء نظام دولي".
حري بالذكر أن نظرية ( توازن القوى ) ظلت عماد رؤية كيسينجر خلال إدارته للسياسة الخارجية الأمريكية . يعتبر الثعلب العجوز ، كما يلقب ، عراب العلاقة الأمريكية – الصينية نهاية الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي ، التجربة التي تعد من التجارب الناجحة للمدرسة الواقعية ، ترجم كيسينجر من خلالها الواقعية السياسية بمهارة فائقة ، عندما أخترق المعسكر الشيوعي السابق ، باللعب بحرفية عالية على وتر الخلافات السوفيتية – الصينية، التي كشف عن تفاصيلها في وثائق أرشيف الأمن القومي الأمريكي عام 2001 ، خلال تولي كيسينجر رئاسة مجلس الأمن القومي في عهد الرئيس ريتشارد نيكسون، عكف على دراسة وتحليل الموقف داخل الصين ، بناء على إتصالات دبلوماسية جانبيه جرت على مستوى السفراء في أوربا ، رفع على آثرها مذكرة للرئيس نيكسون في تأريخ 12 / 2 / 1969 من بين ما جاء فيها تحليلاً للإشارات الإيجابية في السياسة الصينية : " تراكم مشاكل داخلية صينية وإستمرارها بما يدفع نحو التطلع لتخفيف الضغط في العلاقات الخارجية ". وفي سياق عرضه للقضية قال كيسنجر : " لابد من الأخذ بعين الإعتبار إمكانية وجود إنشقاق في الآراء الصينية حول العلاقات مع الولايات المتحدة ، وبالتأكيد فإن تحولاً في السياسة الصينية لم يطرأ ، لكن على الأقل ، فقد تراجعت حدة الموقف الصيني المتطرف الذي عرفناه خلال الثورة الثقافية".

علاقة خاضعة للإلتزام الذاتي :

وضع في مذكرته لنيكسون محددات ومحاذير لسياسة الإنفتاح على الصين ، كان منها : " عدم التخلي عن إلتزامات الولايات المتحدة تجاه التايوان أو تجاهلها ، الألتفات إلى عدم الإضرار بمصالح حلفاء الولايات المتحدة في آسيا وبشكل رئيسي اليابان" ، وقارب شكل العلاقة المفترضة مع الصين بإنها ( خاصة تخضع للإلتزام الذاتي ).
أستعرض كيسينجر في المذكرة أربعة خيارات أساسية مع ذكره للسلبيات والإيجابيات ، من بين الأفكار الواردة فيها ، تأكيده على ضرورة تعطيل التفكير الأيدلوجي  بين الولايات المتحدة الليبرالية الرأسمالية ، والصينية الشيوعية ، خلال عملية الحوار والتفاوض ، كما أشار في أحدى الخيارات إلى إمكانية إعادة التجارة مع الصين في السلع غير الإستراتيجية ، كما قيم أحدى الإيجابيات المفترضة ، بإن تتحول العلاقات بين البلدين من حالة الصدام الأيدلوجي إلى مستوى التطبيع.
على ضوء ما تقدم أتخذت إدارة نيكسون قراراً بالبدأ في تأسيس علاقة مع الصين على حساب السوفيت ، تولى كيسينجر العمل على ذلك بسرعة وسرية ، أستخدم خلال مراحلها الأولى جميع القنوات الدبلوماسية والقنوات الخلفية لتبادل الرسائل والإشارات الإيجابية مع القيادة الصينية التي بادرت هي الاخرى بالسلوك نفسه. توجت التحركات الدبلوماسية بين البلدين بزيارة كيسينجر للصين ولقاءه مع رئيس وزراءها " شو أن لاي " ، جدير بالأهمية ذكر ماجاء في رد كيسينجر على رسالة بعثها " لاي " قبيل اللقاء بينهما ، أكد فيها على "ترحيبه ببدأ عملية التقارب بين البلدين مع الإعتراف الكامل بالتمايز الأيدلوجي لكلا الدولتين". من جملة الأقوال التي طرحها كيسينجر خلال لقاءه مع رئيس الوزراء الصيني وعبرت بشكل واضح عن ممارسته للواقعية السياسية التي يتبناها الرجل قائلاً : " نحن هنا اليوم تجمعنا المتغيرات العالمية ، الوقائع قد جمعتنا ، ونحن نعتقد بإن الوقائع ستشكل وترسم مستقبلنا". كذلك قوله : " نحن لا نتوافق مع الشيوعية بشكلها المجرد ، لكن مع الدول الشيوعية التي تمارس حركة إيجابية تجاهنا ، ولا نتعاطى مع الشيوعية على طريقة الحرب المعنوية". كما تناول خلال اللقاء ، قضية فيتنام التي كانت لا تزال محتلة من الاميركيين ، وشكل إحتلالها الذي طال عشر سنوات ، مصدر قلق الصين المجاورة ، قدم خلال حديثه تطمينات للصينيين برغبة بلاده بالانسحاب من فيتنام ، وأرجئ الأمر للعملية التفاوضية.
يتضح من خلال إعادة قراءة بعض من محطات الدبلوماسية الأمريكية والمدرسة الواقعية ومراجعة أفكار كبيريها كيسينجر وبريجينسكي ، ان ما جرى مع إيران بخصوص ملفها النووي ، وما نتج عنه من رفع للعقوبات ، هو إعادة إنتاج للسياسة الواقعية في عهد أوباما ، وإفتراض أن الإدارة الأمريكية أستخدمت السياسة الواقعية ، يترك سؤالاً ، هل قدمت واشنطن تطمينات لطهران بإنسحاب قريب لقواتها من أفغانستان كما فعل كيسينجر مع الصينيين بشأن فيتنام أم لا؟!.
أشار كيسينجر بوضوح في أحدى مقالاته لضرورة إعادة إنتاج التجربة مع الصين في التعامل مع الملف النووي الإيراني قائلاً : " المطلوب لحل مشكلة العلاقة مع إيران ،هو دبلوماسية مماثلة لتلك التي نقلت الصين من مواقع العداء لأمريكا إلى ساحة التعاون والشراكة في السبعينيات ". ملمحاً  في مقاله إلى نظرية موازين القوى!. ويقول ايضا : " نجاح أي تجربة لحل قضايا الإنتشار النووي ، تعتمد على قدرة الدبلوماسية على تقديم ضمانات أمنية للبلد الذي يطلب منه التخلي عن أسلحته النووية ". كما أبدى تحمسه لخيار اللعب على أوتار الداخل الإيراني كبديل للعمل العسكري ، منتهزاً فرصة إرسال الرئيس الإيراني أحمدي نجاد في وقتها رسالة إلى بوش، وأعتبر أنها بحاجة إلى مقاربة من زوايا مختلفة!.
يفهم هذا الطرح على أن المقصود به هم الشعوب غير الفارسية في إيران ، المضطهدة من قبل النظام الحاكم ، بهدف دفع النظام لمزيد من الإنفتاح والتقارب مع الغرب ، خاصة أن كيسينجر تبنى هذا الطرح خلال مذكرته للرئيس نيكسون بشأن التأسيس لعلاقة مع الصين! ، عندما أعتبر أن مشاكلها الداخلية قد تدفع بها نحو مزيد من الانفتاح على الخارج!.
في ذات السياق لكن من زاوية مواجهة أزمة المستنقع العراقي يقول : " في حال فشلت أمريكا في تحقيق أهدافها المباشرة ، وقامت قوى إرهابية أو دولة إرهابية على أرض العراق مستندة إلى المخزون النفطي الهائل للبلاد ، فلن ينجو أي بلد يحتوي على نسبة كبرى من المسلمين من تداعيات ذلك : الهند بما تضمه من ثاني أكبر جالية إسلامية في العالم ، أندنوسيا ، بجاليتها الأكبر ، تركيا التي تعاني من تهديدات أكراد العراق ، ماليزيا ، باكستان ،وكذلك دول غرب أوربا ، وروسيا وجاليتها المسلمة في الجنوب ، وحتى الصين".
رؤيته تلك من باب التأكيد على أهمية التقارب مع إيران والتفاهم لتحقيق التعاون في الملف العراقي ، لمنع وقوع سيناريو الحرب ذات الطابع الديني. إسقاط ما طرحه كيسينجر في هذا السياق من مخاوف على الواقع الحالي ، سينتج قراءة أكثر موضوعية ، ظهور تنظيم داعش الإرهابي أضاف أهمية أكبر لفرضية التفاهم الأمريكي – الإيراني!، فالبحث عن المستفيد من تقديم نموذج داعش قد يقودنا لإجابات كثيرة ومتشعبه في هذا الإطار ، المعروف ان زعيم التنظيم المُكنى بأبو بكر البغدادي كان معتقلاً لدى الجيش الأمريكي في سجن بوكا ، وان الاستخبارات العسكرية تمكنت فعلا من تجنيد عدد من المتطرفين خلال فترة إعتقالهم ، كما أن روسيا ساهمت في تغذية تنظيم داعش من خلال تسهيل مهمة تهريب المقاتلين الشيشان الى سوريا سواء بشكل مباشر أو غير مباشر ، وكذلك إيران التي توجد على أراضيها معسكرات لمقاتلي القاعدة في منطقة كرمنشاه تحدثت عنها تقارير أمنية عديدة ، كما ان النظام السوري قبيل الأزمة كان يقدم الدعم لمقاتلي القاعدة ولديه معسكرات تدريب وتجهيز في مناطق سورية ، كما أفادت عدة تقارير بذلك.

سياسة ( خطوة – خطوة )!

أي صيغة تقارب بين واشنطن وطهران لن تمر إلا من خلال سياسة ( خطوة – خطوة) لحساسية الملفات الاقليمية ، وحالة التوتر السائدة بين شعوب المنطقة ، ولطبيعة العلاقة الامريكية الايرانية المتسمة بالعداء وعدم الثقة  منذ العام 1979  ، عندما يتخذ طرف  خطوة إيجابية في أحدى الملفات المُتفاهم عليها، سيرد الطرف الآخر بخطوة مماثلة في ذات الملف أو ملف إقليمي آخر موازي!، هذه السياسة تهدف لتهدئة التشنجات السياسية بين البلدين وبناء ثقة متبادلة لن تأتي بسهولة! . نلاحظ ان عقب رفع العقوبات الاقتصادية الدولية عن طهران ، بموافقة أمريكية أوربية ، غادر الرئيس الايراني بصحبة وزراء في حكومته الى إيطاليا وفرنسا ،وتكللت الزيارة لباريس بتوقيع اتفاقيات اقتصادية ضخمة بين البلدين لتنمية القطاع الاقتصادي والبنى التحتية في ايران!.

ملفات التفاهم الثنائي!

بناء على ما تقدم من سرد وأحداث سياسية لخصت طبيعة التفكير والسلوك السياسيي للإدارة الأمريكية " الديمقراطية "  ، للمقاربة بين الماضي والحاضر المتمثل بالإتفاق الأمريكي – الإيراني بخصوص النووي ورفع العقوبات عن طهران ، برز التأثير الواضح للسياسة الواقعية وطروحات ورؤى كيسينجر وبريجينسكي على السياسة الخارجية الأمريكية في زمن الرئيس الديمقراطي باراك أوباما ، فيما يتعلق بإيران ، وما تضمنته المفاوضات السرية والعلنية ، نطرح سؤال غاية بالأهمية : هل شملت المفاوضات الثنائية بين البلدين ملفات إقليمية أخرى إلى جانب الملف النووي أم لا؟!.
لو أفترضنا أن التفاهم الثنائي بين واشنطن وطهران شمل ملفات إقليمية مفتوحة أساسا ، مثل : ( العراق ، سوريا ، الخليج ) سيتضح ذلك من خلال المواقف الأمريكية العملية ، على سبيل المثال ، أن الولايات المتحدة تتبنى خيار الأقلمة في العراق كحل لمشاكل البلاد ، بينما طهران تريد عراقاً واحداً على الطريقة الإيرانية ، إذا سار المزاج السياسي العام نحو تطبيق البند الدستوري المتعلق بتشكيل الإقاليم دون عرقلة من قبل الجماعات المحسوبة على إيران ، سيفهم ان التفاهم الثنائي شمل ملفات أخرى غير الملف النووي!.  
ضبط إيقاع تنافس المصالح بين واشنطن وطهران قد يأتي على حساب بعض الأطراف الرئيسية أو غير الرئيسية المتوزعة على خارطة الشطرنج للشرق الأوسط!.

المشهد السوري حمل بعض الملاحظات هو الآخر ، تمثلت بالموقف الأمريكي عقب قصف الجيش التركي لمطار منغ العسكري الذي سيطرت عليه قوات كردية ، وكذلك قصفها لقوات سورية نظامية ، حيث طالبت واشنطن من أنقرة وقف قصفها على الأكراد وقوات النظام ، رغم ان أنقرة أعربت عن خشيتها من سيطرة النظام السوري أو الأكراد على حدودها مع سورية من جهة حلب . خشية واشنطن المزيد من التصعيد مع طهران وموسكو قد يكون نتيجة خوف حقيقي من الإنجرار نحو حرب إقليمية واسعة النطاق تؤدي لحرب عالمية فيما بعد ، أو أن المفاوضات المضنيه والشاقه التي خاضتها مع طهران بشأن الملف النووي أعطت أمل للإدارة الامريكية "الديمقراطية" للتوصل لحلول سياسية في ملفات إقليمية أخرى من خلال  أرضية الحوار التي أسستها مع الايرانيين بخصوص الملف النووي لتستخدمها في ملفات إقليمية أخرى ، خاصة ان الإدارة الأمريكية في عهد الديمقراطيين ستتجنب بأي شكل من الأشكال إتخاذ قرارات من شأنها التصعيد والتعقيد للمشهد السوري والاقليمي ويتركون ذلك  للإدارات الجمهورية! ، فالمعادلة قد تتغير كليةً إذا تمكن الجمهوريون من العودة إلى البيت الأبيض خلال الإنتخابات القادمة!!.

سيناريوهات!

•    الولايات المتحدة لا تريد إمبراطوريات روسية وإيرانية ، لكنها لا تريد الصدام معهما لردعهم عن ذلك ايضا . هذه السياسة تتبناها المدرسة الواقعية تحديداً ، وتستخدم بديل عنها الحوار وسياسات الترغيب ،  الاقتصادية ، والأحتواء ، والترهيب احيانا اخرى ، وقد تشهد تحولا كبيرا نحو المواجهة والصدام إذا عاد الجمهوريون للبيت الأبيض في الانتخابات القادمة!.
•    الولايات المتحدة لا تريد تقسيم العراق لثلاثة دول مستقلة ، كما لا تريد عراقاً مركزي الحكم ايضا ، إنما تريد عراقاً فدرالياً مقسماً لثلاث اقاليم (سُنية ، شيعية ، كردية ) تحظى بإستقلالية كبيرة وخصوصية على أراضيها ،  سيؤدي لتقليص النفوذ الإيراني في العراق ، حيث أن إيران ما قبل التفاهم مع واشنطن أرادت عراقاً واحداً شيعياً بإمتياز على الطريقة الإيرانية ،ضعيف لا يحظى بسيادة ويكون تابعاً لإرادتها السياسية ليشكل مجالاً جيوبوليتيكيا نحو الخليج والمنطقة العربية. لكن من المحتمل ان يحظى الإقليم الشيعي المفترض بخصوصية العلاقة مع إيران بتوافق أمريكي- إيراني مع ضمان المصلحة الأمريكية ، وتفهم عربي لطبيعة خصوصية تلك المنطقة ذات القيمة الأيدلوجية الدينية والإستراتيجية القصوى لإيران!.
•    الأزمة السورية ، أدركت القوى الكبرى ومحطات صناعة القرار الاقليمية صعوبة إن لم يكن إستحالة الحسم العسكري لصالح النظام أو المعارضة ،وان عدم وجود صيغة حل يعني إستمرار الحرب وصراع الإرادات الإقليمية في سوريا إلى مالا نهاية ، مما يؤدي لإستنزاف بشري ومالي ومعنوي لجميع الأطراف ، فالحل الأمثل من وجهة نظر دولية ، إرضاء الأطراف الرئيسية مع مراعاة المصالح والأدوار لتلك القوى ، فرض صيغة حل في سوريا على الطريقة الألمانية ( المانيا مابعد النازية ) ، من خلال ترسيم لحدود المناطق التابعة للنظام السوري وكذلك المناطق التابعة للمعارضة المعتدلة المدعومة عربيا ودولياً ،  بالتالي لن يختلف المشهد السوري المفترض كثيراً عن المشهد العراقي المفترض من ناحية التقسيمات الجغرافية الادارية، إذ تنشأ مناطق سُنية تحت سيطرة المعارضة ، ومناطق علوية ساحلية تحت إدارة نظام الأسد ، ومناطق الأكراد تكون تحت سيطرة القوى الكردية. مع الأخذ بنظر الاعتبار تكفل الولايات المتحدة وحلفاءها بالقضاء على تنظيم داعش في سوريا والعراق.
•    منطقة الخليج العربي ، على الرغم من تعقيدات الأزمة السعودية – الإيرانية ، واشنطن ستدفع تجاه حث الأطراف العربية للتهدئة مع إيران.من المحتمل ان توجه واشنطن مساعيها مستقبلاً بالدفع نحو شراكة خليجية – إيرانية لتوثيق روابط التعاون والأمن الإقليمي المشترك ، قد تتبلور رؤية إقليمية بإقتراح أمريكي لتأسيس منظمة إقليمية مشتركة تضم إيران من جهة والدول الخليجية العربية من جهة اخرى ، تُعنى بمسائل الأمن الاقليمي والتنمية الاقتصادية والسياسية.
•    مشهد آخر مختلف قد تحمله الايام لمنطقة الخليج ،ربما تتجنب واشنطن الصدام المباشر مع طهران وروسيا ، لكنها قد لا تمنع وقوعه بين العرب وتركيا من جهة وبين ايران وروسيا من جهة اخرى ، الولايات المتحدة تتحرك من خلال الناتو والاتحاد الاوربي أكثر من تحركها من خلال العرب.
•    حزب الله اللبناني ، تكفي الإشارة إلى أن قدرات الحزب اللوجستية تراجعت كثيراً خلال السنوات الماضية بسبب إستنزافه في الحرب السورية ، كذلك خسارته للتأييد الشعبي العربي واللبناني تحديدا ،سينكفئ الحزب على العمل السياسي الداخلي ، فيتحول تدريجياً لقوة ضعيفة مهمشة نوعا ما في لبنان ، لكنه قد يبقى على تواصل مع المناطق العلوية في سوريا.
•    اليمن ، ستسعى واشنطن بالضغط على المجموعة العربية المتمثلة بالسعودية للتوصل لصيغة حل سياسي مرضية للأطراف اليمنية ، رغم عدم وجود ضمانات لقبول الرياض لذلك ، لما يشكله اليمن من أهمية للأمن القومي السعودي ، كذلك عدم وجود جغرافية مترابطة بين اليمن وإيران ، كانت قد تؤدي لتأزيم المشهد أكثر! ، حينها كان يصعب التوصل لحل لا يرضي إيران ايضا! ، الأمر الذي يرجح ان يتخلى الايرانيون عن دعم الجماعة الحوثية ، بسبب إنحسار أوراق اللعب الإيرانية في هذا الملف .

==========
المصادر :
كتاب ( رقعة الشطرنج الكبرى ) بريجينيسكي
كتاب ( السياسات الخارجية الأمريكية بين مدرستين : المحافظية الجديدة والواقعية ) هادي قبيس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق