ايريس مردوك والبحث عن معنى الحياة/ جــودت هوشيار


لا يزال اسم الكاتبة الأنجليزية الشهيرة ايريس مردوك ( 1919 – 1999 ) يثير اهتماما واسع النطاق في الأوساط الأدبية فى كثير من بلدان العالم، بعد مرور أكثر من ستة عشر عاماً على رحيلها ، وقد نشرت عنها وعن أعمالها الروائية والفلسفية مئات الدراسات والعديد من الكتب ، فقد كتب زوجها الناقد والروائي جون بايلي - الذي كان في جوار سريرها عند وفاتها -  ثلاثة كتب عن حياتها وكفاحها مع مرض الزهايمر ، لعل أهمها  مذكراته المعنونة  " مرثية لأيريس '' . ولكن الكتاب الأهم الذي صدر عن سيرتها – كما يرى النقاد – هو كتاب " ايريس : حياة ايريس مردوك  “ بقلم بيتر كونرادي - استاذ الأدب الأنجليزى فى جامعة كنغستون - الذى كان صديقا للكاتبة لسنوات عديدة، حيث يكشف المؤلف فى هذا الكتاب ولأول مرة عن اسرار وحقائق تتعلق بحياتها الشخصية وعلاقاتها الاجتماعية.
.
 تعرف كونرادي على الكاتبة وزوجها الروائى والناقد والفيلسوف البريطانى المعروف "جون بايلى" فى عام 1981 ، وتعززت العلاقة بين كونرادي و مردوك فى العقد الأخير من القرن الماضى. وقد طرأت فكرة كتابة سيرة حياة مردوك وانجازاتها الروائية و الفلسفية فى ذهن المؤلف حين كانت الروائية ما تزال على قيد الحياة. ورغم ان مردوك كانت امرأة تميل الى الكتمان وتغلب عليها الحياء، الا ان كونرادي استطاع أن يحظى بموافقتها على انجاز الكتاب. وقد عبرت الكاتبة عن هذه الموافقة ببساطة حين قالت لكونرادي: "انت صديق جيد" وفى ذلك الحين- عندما كان المرض يسمح لها بمساعدة كونرادي فى تأليف الكتاب - كانت تتحدث عن تفاصيل حباتها الحافلة ، مشيرة الى أسماء الأشخاص الذين يمكن ان يكونوا مفيدين لمؤلف الكتاب فى الحصول على المعلومات المطلوبة.

 وكما جاء فى المقدمة، فأن هذا الكتاب كان يمكن ان يكون له عنوان اخر هو " ايريس الشابة " حيث يتحدث الكتاب - لأول مرة- عن الجوانب غير المعروفة سابقا عن السنوات المبكرة للروائية الأنجليزية منذ ولادتها فى عام 1919 وحتى منتصف الخمسينات من االقرن الماضى، حين صدر اول عمل روائى لها بعنوان "تحت الشبكة " فى عام 1954 .وبطل هذه الرواية جاك دونوج، شخصية سارترية تهتم بجوهر الأشياء اكثر من اهتمامها بالواقع المعاش وقد جلبت هذه الرواية شهرة مدوية للكاتبة، واصبحت بين عشية وضحاها شخصية ثقافية واجتماعية مرموقة تثير آراؤها وميولها الفكرية والدينية ومغامراتها العاطفية اهتمام القراءعلى نطاق واسع.
يتحدث المؤلف بلباقة وكياسة عن الحياة الشخصية لمردوك مقتبسا فقرات واسعة من ذكريات زوجها جون بايلى المنشورة فى عام 1999، عندما كانت الروائية تصارع المرض قبيل وفاتها. ويتضمن كتاب كونراد شهادات طائفة كبيرة من معارف واصدقاء مردوك وبخاصة اولئك الذين تعرفوا عليها فى سنواتها الأخيرة .
ومن خلال مذكرات وشهادات معاصريها تتمثل امامنا صورة الروائية المبدعة حية وجلية : " كانت تجلس بين كومتين كبيرتين من الورق وهى أشبه ما تكون بأحد تماثيل "هنرى مور" ولا تتحرك الا لكى تكتب. الكومة الأولى: اوراق بيضاء والأخرى هى الأوراق المكتوبة. انها مهنة فريدة حقا لا يتقنها الا اصحاب المواهب والقدرات الفنية الكبيرة. لم تكن لدى الكاتبة اى احساس بالتميز عن الآخرين او التفوق، حيث كان مثل هذا الإحساس غريبا عنها تماما، كما هو شأن المبدعين الحقيقين. ويبدو ان الشعور بالتميز والتفوق لدى البعض، انما هو الوجه الأخر لمركب النقص والافتقار الى الموهبة. فالعباقرة والعظماء كانوا دوما مثالا للتواضع ولم يكن احدا منهم يحس بالتفرد والتفوق او يتعالى على الآخرين. جانب آخر من حياة مردوك يكشف هذا الكتاب النقاب عنه ، وهو ان الكاتبة كانت مغرمة بدراسة اللغات القديمة وكتبت عنها دراسات قيمة ..
لقد تم تحويل العديد من روايات مردوك الى افلام سينمائية لاقت نجاحا كبيرا ولكن مردوك لم تكن راضية قط عن هذه الأفلام وتحس بخيبة امل نتيجة التشويه الذى اصاب رواياتها عند تحويلها الى افلام سينمائية. ففى عالم الرأسمال، المال اهم من الفن ..
ويروي بيتر كونرادي فى هذا الكتاب الممتع حقا ، قصة زواج مردوك، وكان زواجا ناجحا وسعيدا قل نظيره الى درجة ان مردوك كانت من شدة حبها لزوجها توقع الصكوك بأسم (ايريس بايلى) وهو تقليد غربى شائع حين تتخلى الزوجة –بمحض ارادتها او بالأتفاق مع زوجها-- عن لقبها الموروث لتكتسب لقبه. ويبدو ان ايريس لم تكن تستخدم لقب زوجها الا فى الأوراق الرسمية، اما فى حياتها العامة، فلم تكن ثمة مجال لذلك، حيث أنها نالت –بفضل رواياتها- شهرة واسعة قبل الزواج وعرفت بلقب العائلة (مردوك) .
 كانت ايريس الابنة الوحيدة المدللة لعائلة موظف صغير فى بلفاست- عاصمة ايرلندة- خدم ضابطا فى الجيش البريطانى خلال الحرب العالمية الأولى، ثم رحل الى لندن مع عائلته الصغيرة واقام فيها حتى وفاته. وفى ما بعد كانت ايريس تتذكر عائلتها وتطلق عليها اسم " ثلاثية الحب المثالى " وفى لقائاتها الصحفية كانت تحب ان تؤكد اصلها الإيرلندى، فقد ولدت فى دبلن وظلت طوال حياتها تتكلم بلكنة ارلندية. تلقت ايريس تربية انجليزية ولكنها لم تكن تشعر بالفرح الطاغى والحبور الا خلال زياراتها الصيفية الى اقاربها فى ايرلندة. ويقول اصدقاء ايريس انها كانت فى طفولتها جد طيبة ورقيقة وفى الوقت ذاته منطوية على نفسها ولكنها ذات شخصية قوية وقلقة فى ان معا .
لم يكن والد ايريس ثريا ولكنه كان على درجة عالية من الثقافة الحقة، وقد اشغل – بعد تسريحه من الخدمة العسكرية فى الجيش- وظيفة متواضعة فى وزارة الصحة، وكانت ظروفه المالية صعبة ويضطر احيانا الى اقتراض المال ليتمكن من تغطية نفقات دراسة ابنته فى المدارس الراقية، فقد التحقت ايريس وهى فى الخامسة من عمرها بمدرسة فروبل اللندنية. وفى الثالثة عشر من عمرها سافرت الى ضواحى بريستول لتلتحق بمدرسة (بادمنتون) الداخلية للبنات. كانت ايريس تشعر بالغربة بين زميلاتها فى المدرسة واللواتى كن من عوائل ثرية. ومع ذلك فقد احتفظت لسنوات طويلة بعلاقات الصداقة مع زميلتها فى الدراسة" بياتريس ماى بيكر " الفظيعة –على حد تعبير الكاتبة ..
كانت ايريس خلال سنوات دراستها تلميذة جيدة تهوى الرياضة وخاصة لعبة الهوكى وتمارس الرسم، وقد تجلت موهبتها الأدبية فى سن مبكرة. وخلال السنة الأخيرة من دراستها الثانوية كانت تبدو شابة ذات شخصية ناضجة ، ذات نزعة يسارية، والى هذه الفترة تحديدا تعود اولى محاولاتها الأدبية، حين ترجمت الى اللغة الأنجليزية بعض مؤلفات سوفوكليس، ثم تعرفت على و. هـ . اودين وحصلت على جوائز عديدة وقامت بمراجعة دواوين الشعراء الشباب فى بريستول وتبادلت رسائل حب ملتهبة مع ج. هـ. سكوت، الذى كان طالبا فى بلفاست يدرس الطب ويهوى الأدب ولا بد من الأشارة هنا الى ان شخصية ايريس القوية المستقلة ظهرت بكل جلاء حين قررت تغيير مذهبها الدينى من المذهب النظامى(ميثودزم) الى المذهب الكاثولوكى ..
حصلت ايريس بعد تخرجها فى المدرسة الثانوية على منحة دراسية لمدة ثلاث سنوات للدراسة فى كلية (سوميرفيل) بجامعة اوكسفورد، ولم تكن فى الكلية فى ذلك الوقت سوى قلة من الطالبات ولم يكن التعامل معهن طيبا ، ولكن ايريس الشابة استطاعت الدفاع عن مواقفها المستقلة ورفضت ستة عروض زواج خلال السنة الأولى من دراستها، وكما يذكر احد زملائها فى الكلية فأن جميع طلبة الصف ، الذى كانت تدرس فيه وقعوا فى غرامها، فقدكانت ذات شخصية مميزة و مظهر ارستقراطى ووجه صبوح مشرق وصوت انثوى عذب وساحر .
وفى وقت لاحق كتبت ايريس عن سنوات دراستها فى اوكسفورد:" يا الهى لكم كانت تلك الأيام الذهبية رائعة "وخلال سنوات الدراسة هذه توثقت علاقتها مع العديد من زملائها الذين حافظوا على صداقتها حتى اخر يوم فى حياتها. وفى عام 1942 تخرجت ايريس فى جامعة اوكسفورد وانتقلت للأقامة فى لندن، حيث عملت موظفة فى وزارة الخزانة، وكانت قبل ذلك بوقت قصير قد تركت الحزب الشيوعى البريطانى..
بين عامى ( 1944-1946) عملت فى دائرة الهجرة التابعة للأمم المتحدة، وكانت وظيفتها تتطلب الأنتقال بين البلدان الأوروبية المختلفة، حيث زارت مناطق الأحتلال الفرنسى والأنجليزى والأميركى فى النمسا. وقد دامت رحلتها حوالى عامين وادت الى تعزيز النزعة الكوسموبوليتية لديها، وخلال هذه الفترة –ربما فى عام 1946- التقت الفيلسوف الفرنسى جان بول سارتر وقرأت كتب (سيمون دى بوفار) و (ر. م. ريلكة) واصبحت من انصار الفلسفة الوجودية .
وقد اثارت فظائع الحرب العالمية الثانية وعواقبها المأساوية مشاعر قوية مناهضة للحرب لدى الكاتبة، وكانت قلقة على مصائر ملايين البشر الذين زج بهم النظام الستالينى فى روسيا والتيتوى فى يوغسلافيا فى غياهب السجون والمعتقلات، ومنذ ذلك الحين اصبح المهاجرون والمرحلون شخصيات رئيسية فى العديد من رواياتها. وبعد عودتها الى بريطانيا بدأت مرحلة اخفاق واحباط فى حياة الكاتبة، حيث عجزت عن العثور على عمل مناسب واضطرت الى التخلي عن منحة دراسية اميركية، حين رفضت السلطات الأميركية منحها سمة الدخول الى الولايات المتحدة الأميركية لميولها اليسارية السابقة ..
وفى عام 1947 التحقت ايريس بجامعة كمبرج كطالبة دراسات عليا وتعمقت فى دراسة الفلسفة. وفى هذه الفترة استهوتها الوجودية المسيحية وقرأت نتاجات (اونامولو)و(هيدغر)و(بيردايف) وغيرهم.
 وفى عام 1948عادت الى جامعة اوكسفورد ولكن كأستاذة لمادة الفلسفة هذه المرة وظلت فى هذه الجامعة لفترة طويلة تمارس نشاطها المهنى والأدبى. كانت حياة ايريس مردوك - المرأة الجذابة والكاتبة المتقدة العاطفة- مليئة بقصص الحب، والطفلة التى ترعرعت فى ظل الحنان ألأسرى، كانت تتوق الى ان تكون محبوبة. تقول ايريس فى يومياتها المدونة فى عام1945 : "يبدو لى الوقوع فى الحب بجنون ولمرات عديدة عملا مقززا". ولكنها تعود في عام 1952 لتكتب فى مذكراتها:" لا ينبغى لى ان اعيش فى هذا العذاب العاطفى" ولكنها تضيف على الفور قائلة:"كلام فارغ –سأظل احيا على هذا النحو دائما ""
كانت اعوام الأربعينات فى حياة ايريس مردوك حافلة بالمغامرات العاطفية، الى ان التقت فى عام 1953 بجون بايلى ، الأنسان الهادىء الرقيق، وقد تزوجا في عام 1956 وكانت تبلغ من العمر 36 عاما وكان بايلى يصغرها بست سنوات، وفد عاشا فى المدينة الجامعية لأوكسفورد فى هدؤ واستقرار وكتبت تقول:"ان مهمتى –قبل كل شىء--هى الكتابة، واننى احمد الله على هذا المخرج " ."
ايريس مردوك – كاتبة غزيرة الأنتاج، فقد نشرت خلال حياتها الأدبية منذ عام 1954، ست وعشرين رواية ، من أشهرها (الجرس) وقد صدرت عام 1958 وهى عن الصراع السياسي العقائدى فى ايرلندا و(الرأس المقطوع ) فى عام 1961 وهى رواية عاطفية مثيرة و(الأحمر و الأخضر)عام 1965وتدور احداثها عشية ثورة ايستر ربيليون فى دبلن ابان الحرب العالمية الأولى، ولها رواية تجريبية رائعة هى(الأمير الأسود)، عام 1973 وتتحدث عن كاتب شديد الوعى بالذات ويرتبط الأبداع عنده بالتجارب العاطفية العارمة. ويرى النقاد ان رواية (البحر، البحر) التى فازت بجائزة بوكر لعام 1978 ربما هى من اهم روايات مردوك . واضافة الى رواياتها الناجحة التى كانت ضمن قائمة الكتب الأكثر رواجا فى بريطانيا والولايات المتحدة لسنوات عديدة، فقد كتبت مردوك مسرحيتين هما (الخدم والثلج)عام 1970 و(الفن وايروس)عام 1980 وديوان شعر(سنة العصافير)عام 1980، وبعض النصوص المسرحية الأوبرالية. حازت مردوك على اهم الجوائز الأدبية فى بريطانيا (بوكر، ووتبرد، جيمس تيت) وهى تعد فى الوقت ذاته من منظرى الفن الروائى وفيلسوفة اخلاقية بارزة.
 المغامرات العاطفية(المجنونة)هى موضوعات العديد من رواياتها، كما البحر بالنسبة الى همنغواى، ويبدو لى انها كانت دائما تبحث عن معنى الحياة وربما خيل اليها لبعض الوقت ، ان المغامرات العاطفية العارمة، بكل اشكالها وتنويعاتها، هى الملاذ الوحيد للأنسان فى هذه الحياة العابرة، ففى العديد من رواياتها نجد الأبطال غارقين فى التجارب الحسية العنيفة التى ينشدون من خلالها تحقيق الذات، ولكنهم يجدون انفسهم فى نهاية المطاف مكبلين بقيود لا يستطيعون الفكاك منها .
ايريس مردوك –طالبة الفلسفة والأدب القديم، ليست غريبة عن ايقاعات وصور الحياة المعاصرة.
ايريس خلقت للحب، وقد اسبغت هذا الحب على من حولها بسخاء واصبحت من اهم الشخصيات الأدبية فى الأدب الأنجليزى فى القرن العشرين   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق