لولا العسكر لكان حالها مختلفا/ د. عبدالله المدني

يتفاءل الشعب البورمي اليوم بالمنعطف الجديد الذي قد ينقل بلادهم التعيسة إلى حالة جديدة تجتث ما زرعه فيها العسكر على مدى عقود من الزمن من قمع وتسيب وفساد واخفاقات على مختلف الصعد، وترتقي بمستوياتهم المعيشية. ونقصد بالمنعطف الجديد إسدال الستار على البرلمان القديم الذي هيمن عليه العسكر، وبدء عمل البرلمان الجديد المنبثق عن الإنتخابات التشريعية التي جرت في مطلع نوفمبر 2015 وحققت فيها المعارضة بقيادة السيدة "أونغ سان سو تشي" زعيمة حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" فوزا كاسحا، ناهيك عن إنتخاب رئيس مدني جديد للبلاد محسوب على الأخيرة قبل أيام.
لقد كان المأمول أن تكون بورما لحظة إستقلالها عن بريطانيا في يناير 1948 نموذجا للديمقراطية التعددية في آسيا كما الحال في جارتها الهند. وهي لئن بدأت خطوات جادة في هذا الطريق عبر وضع دستور متقدم، وتشكيل حكومة مدنية منتخبة برئاسة "أونو" الذي برز في الخمسينات كأحد قادة آسيا المرموقين من خلال مؤتمر باندونغ، فإنها سرعان ما وقعت فريسة لطموحات العسكر السلطوية. ففي عام 1962 قام قائد الجيش ذو الأصول الصينية الجنرال "ني وين" (إسم حركي يعني الإبن اللامع) باستنساخ ما قام به نظراؤه في بعض الدول العالمثالثية حديثة الإستقلال. وبعبارة أخرى استولى على السلطة، وشكل مجلسا ثوريا كبديل للحكومة المدنية وأوقف العمل بالدستور، بل قام هو ورفاقه من أصحاب البزات الكاكية بأمور أكثر استهجانا وحماقة تمثلت في تطبيق نظام إشتراكي مشوه، وإطلاق برنامج للحكم والإدارة يتسم بالمركزية الشديدة، معطوفا على ممارسة القمع ضد الأقليات، وطرد الأجانب بعد تأميم ممتلكاتهم، وعزل البلاد عن محيطها الخارجي، الأمر الذي أدى الى توقف الاستثمارات الاجنبية، وانتشار الفقر، وإنهيار الإقتصاد الذي كان يتوقع له في ذلك الزمن المبكر ان يكون ضمن الإقتصاديات الآسيوية البارزة بسبب متانة البنية التحتية والإدارية وتنوع موارد البلاد.
إستمر نظام "ني وين" مذاك وحتى عام 1988 ، حينما قرر صاحبه تحت ضغط الإحتجاجات الشعبية المتأثرة بتطورات الأحداث في الإتحاد السوفيتي السابق ودول الكتلة الشرقية التقاعد وترك مسئوليات البلاد في يد حفنة من تلامذته الذين شكلوا ما عــُرف بـ "مجلس الدولة للقانون والنظام" (تغير إسمه لاحقا إلى مجلس الدولة للسلام والتنمية). غير أن التلامذة فاقوا أستاذهم لجهة القمع الوحشي، والفساد والنهب، وخرق حقوق الإنسان، وعزل البلاد عن العالم الخارجي. ولعل من أكبر جرائم الطغمة العسكرية التي خلفت "ني وين" في السلطة من عام 1988 وحتى 2011 هو تدمير الإقتصاد البورمي إلى درجة تصنيف البلاد من قبل الهيئات الأممية ضمن الدول الأشد فقرا في العالم، على الرغم من إمتلاكها لإحتياطات ضخمة من الغاز الطبيعي، إضافة إلى ثروتها الزراعية وثروتها من الأحجار الكريمة.
وقد قررت رابطة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة بإسم آسيان إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذا البلد عن طريق إغداق المساعدات عليه لتأهيل إقتصاده، غير أن العبء كان كبيرا جدا، ثم تضاعف العبء مع انفجار الأزمة الإقتصادية الآسيوية في عام 1989. وبعد ذلك قبلت آسيان على مضض منح عضويتها لبورما في عام 1997 على أمل أن يستقيم سلوك قادتها العسكريين ويقـْدموا على شيء من الإصلاحات الإقتصادية على الأقل، لكنهم سرعان ما اكتشفوا فشل رهانهم.
وهكذا تأخرت الإصلاحات الإقتصادية في بورما كثيرا ولم يلمس شعبها علاماتها إلا مؤخرا، حينما سمحت السلطات بفتح القطاع المصرفي المحلي أمام المنافسة الأجنبية، علما بأن هذا القطاع الحيوي ظل مغلقا لعقود أمام الإستثمارات الخارجية مما أدى إلى تخلف البنية التحتية المالية للبلاد، وبالتالي خشية المواطنين من التعامل مع المصارف وأدواتها كالشيكات وحسابات الإدخار، وتفضيلهم التعامل بالمبالغ النقدية.
هذا المشهد يبدو أنه الآن إلى تغير، خصوصا مع التطورات السياسية الأخيرة. ودليلنا أن السلطة التي ورثت حكم العسكر أعطت مؤخرا موافقتها الأولية لأربعة مصارف أجنبية للعمل في بورما لأول مرة منذ مطلع الستينات. وهذه المصارف هي: "بنك الإستثمار والتنمية" الفيتنامي، و"ستيت بنك" الهندي، و"سينهان بنك" الكوري الجنوبي، و"البنك التجاري" التايواني. وستنضم هذه المصارف إلى مصرف "بنك أوف طوكيو" الياباني الذي كان الأول لجهة تأسيس فرع في بورما في إبريل 2015،  وإلى "المؤسسة المصرفية الصينية لما وراء البحار" التي تتخذ من سنغافورة مركزا رئيسيا لها. ويتوقع المراقبون أن يتوسع حجم الإقتصاد البورمي أكثر من أربع أضعاف بحلول عام 2030 شريطة المحافظة على الإستقرار السياسي، والإستغلال الأمثل لموارد الطاقة والتعدين والزراعة، وخلق البنى التحتية المشجعة للمستثمرين الغربيين والآسيويين على نقل مصانع من الصين وهونغ كونغ وكوريا وسنغافورة وتايلاند إلى بورما للإستفادة من الأيدي العاملة الأرخص ومستويات المعيشة الأدنى في منطقة شرق آسيا.
د. عبدالله المدني
* أستاذ في العلاقات الدولية متخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: مارس 2016
الإيميل: Elmadani@batelco.com.bh

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق