تعيش البلاد منذ عدة سنوات حرب المناكفات السياسية بكل ما للكلمة من معنى، وتأخذ هذه الحرب عدة أشكال، لكن أخطرها النزاعات الداخلية في الحزبين الكبيرين، عمال وأحرار من أجل تولي السلطة (عمال راد - غيلارد \ أبوت - تيرنبول أحرار) وبما أن السلطة أصحبت الهدف، إفتقدت البلاد زعيماً يستطيع أن يضع النقاط على الحروف ويملأ الفراغ القيادي ويعطي الأولوية للإصلاح الإقتصادي والإجتماعي والمالي والتربوي وغيرها، حيث أصبحت البلاد بحاجة ماسة إلى تلك الإصلاحات وكل الدلائل تشير إلى أن استمرار الأمر كما هو قد يؤثر على مستقبل الأجيال القادمة وإداء الإقتصاد الأسترالي الذي ما زال يعتبر من أقوى إقتصاديات العالم.
عندما إنقلب رئيس الوزراء الحالي مالكوم تيرنبول على زعيمه رئيس الوزراء السابق طوني أبوت في أيلول 2015 ، استبشر الكثير من المراقبين السياسيين ورجال الإقتصاد والصحافة وحتى المواطنين العاديين خيراً، وانعكست موجة التفاؤل تلك في استطلاعات الرأي حيث وصلت شعبية تيرنبول الى 69% من أصوات الناخبين واستطاعت الحكومة أن تعدل لمصلحتها استطلاعات الرأي لأول مرة منذ انتخابات عام 2013 وأصبحت في موقع إنتخابي أفضل متقدمة على حزب العمال.
لكم ماذا فعل مالكون تيرنبول خلال الستة أشهر تلك؟
عدا بعض الإجراءات والتغييرات الكشلية كإلغاء الألقاب الشرفية (رتبة فارس وسيدة) التي كان أبوت قد أعاد العمل بها، إعلان نيته عن تمويل بناء البنى التحتية للنقل العام عكس سلفه الذي كان يؤيد بناء الطرقات، إعادة السماح بإستخراج الكهرباء من الرياح، رصد 100 مليون دولار لمحاربة العنف المنزلي، علماً ان أبوت كان بصدد الإعلان عن هذه الخطة قبل الإطاحة به، وأخيراً أعلن عن بعث الروح في أبحاث الطاقة المتجددة والنظيفة.
وبعكس ما كان متوقعاً منه، فقد أخفق تيرنيول في البدء في معالجة قضايا ملحّة منها الإصلاح الضريبي حيث كانت مواقفه متقلّبة ومتعارضة مع وزير الخزينة سكوت موريسن خصوصاً في ما يتعلق بضريبة السلع والخدمات (جي أس تي) التي قرر تيرنبول عدم مقاربتها لحساسيتها الإنتخابية وكذلك فعل بالنسبة إلى الإستثمار السلبي المعروف (نيكاتيف غيرينغ) والضريبة على أرباح رأس المال وفي نفس الوقت هناك مؤشرات على نية الحكومة تخفيض الضريبة على الشركات الكبيرة من 30% الى 28.5% التي تحظى بدعم 3% فقط من تأييد الناخبين وعدم تخفيض ضريبة الدخل الفردي، مع العلم أن الناخبين من يمين الوسط يريدون هذه الإصلاحات وأيضاً هذه رغبة قطاع الإعمال والإقتصاديين، بالإضافة إلى ذلك أخفق تيرنبول وحكومته بإتخاذ أي إجراء في ما يتعلق بقضايا التغييرات المناخية وتعديل قوانين الزواج للإعتراف بزواج المثليين وقضايا اللاجئين وتحويل أستراليا إلى جمهورية وبعدم إقدامه على أي إجراء في تلك القضايا مما جعل أسهمه تتراجع عند ناخبي يسار الوسط الذين يؤيدون تلك التغييرات.
لماذا حصل ذلك ولم يبادر تيرنبول؟
إلتزم تيرنبول الخط البياني لحكومة سلفه أبوت لأنه لا يريد إغضاب جناح المحافظين في الحزب، لكن تيرنبول يحاول إعادة التموضع سياسياً بعد إقرار مجلس الشيوخ تغيير قوانين إنتخاب مجلس الشيوخ المعمول به منذ ثمانينيات القرن الماضي، وذلك بعد الإتفاق مع النائب المستقل نيك زينافون وحزب الخضر الذي يطمح إلى التحكم بميزات القوى في المجلس في حال إقدام الحكومة على حل مزدوج لمجلسي النواب والشيوخ، كما هدد رئيس الوزراء في حال عدم إقرار مجلس الشيوخ إعادة العمل بمفوضية الإنشاء والتعمير حيث كما هو معروف فقد قرر تيرنبول دعوة النواب للعودة من عطلتهم في 18 نيسان القادم وتقديم موعد عرض ميزانيته على مجلس النواب إلى 3 أيار بدلاً من 10 أيار كما هو العرف.
إلى ذلك أطلق تيرنبول مقولته الشهيرة (إنتهى وقت اللعب).
هل صحيح أنتهى وقت اللعب أم بدأ وقت اللعب الجدّي وهل شرب رئيس الوزراء حليب السباع أم أنه سيعود إلى حجمه السياسي الطبيعي؟
خطوة رئيس الوزراء لاقت بعض التأييد والحذر، لكن التساؤلات لم تتبدد ولماذا اختار تيرنبول مفوضية الإنشاء والتعمير التي تحارب الفساد في قطاع البناء الذي يمارسه بعض أعضاء نقابات العمال. ولكن السؤال ماذا عن الفساد في القطاع المصرفي وقطاع التأمين خصوصاً بعد الفضائح التي تعرّضت لها شركة (سفن إيليفن) بدفع رواتب دون الحد الأدنى وشروط عمل غير قانونية بالإضافة إلى ما حصل مؤخراً مع شركة التأمين (كوم انشورينس) التي رفضت تعويض زبائنها المصابين بأمراض تغطيها بوليصات التأمين التي يحملونها، وماذا عن النصائح الغير سليمة التي قدّمها موظفو البنوك والتي أدت إلى خسارة المواطنين مدخراتهم وجنى العمر حيث وضعت مصالح البنوك وموظفيها قبل مصلحة الزبائن.
ماذا عن الفساد في نظام التبرعات الإنتخابية التي تفوح منها روائح الصفقات والسرية التي قد تؤدي بالوزير الرابع من حكومة تيرنبول الوزير آرثر سينودينوس بعد أن وجدت مفوضية الإنتخابات في نيو سوث ويلز أن حزب الأحرار أخفى اسماء المتبرعين ولم يبلّغ عن مصدر تبرعاته والتي بلغت قرابة 700 ألف دولار حيث كان سينودينوسس المسؤول المالي في فرع الحزب في نيو سوث ويلز ويصر سينودينوس على عدم قيامه بأي عمل غير قانوني، والمعلوم أن المفوضية حجزت مبلغ 4.4 مليون دولار للحزب من التكاليف الإنتخابية حتى الحصول على تفاصيل التبرعات. وماذا عن التمييز ضد النساء في أماكن العمل الذي أظهرته المحامية (أنيكا ويلز) في مقالة لها في ذي صن هيرالد 27/03/2016 ص 38 بعنوان: (القوانين الأسترالية لا تنصف نساءنا) ماذا عن الفساد القانوني في قطاع الإستثمار العقاري حيث 90 ألف شقة ومنزلاً في نيوسوث ويلز و 83 ألفاً في ملبون غير مؤجرة من أجل تحقيق أرباح في رأس المال، ويحصل أصحابها على إعفاءات ضريبة بواسطة الإستثمار السلبي، ماذا عن الفساد السياسي الذي أورث البلاد الفراغ والتناحر الحزبي من اجل المراكز والسلطةعلى حساب المصلحة الوطنية.
السؤال الأساسي الذي يطرح نفسه هنا هل هذه هي حكومة القرن الواحد والعشرين كما أسماها تيرنبول؟
ما تقدّم يفيد عكس ذلك وظهرت ردة الفعل من خيبة الأمل تلك في استطلاعات الرأي حيث استطاع العمال إعادة توازنهم السياسي حيث أظهرت تلك الإستطلاعات مؤخراً تعادل العمال والأحرار (50/50 ) من الأصوات لكل منهما وإن بقي تيرنبول مفضلاً كرئيس للوزراء متقدماً على بيل شورتن زعيم المعارضة.
وأعتقد أن الرياح لا تسير كما تشتهي سفن رئيس الوزراء لأن من لا يقدم سلّة إصلاح متكاملة ومتوازنة عليه أن يدرك أن الثمن السياسي سيكون باهظاً هذه بالإضافة إلى أن رئيس الوزراء أمام أطول حملة إنتخابية مدّتها أكثر من 100 يوم علماً أن الحملات العادية تستغرق 35 يوماً هذا بالإضافة إلى أن رئيس الوزراء يواجه في حملته الإنتخابية زعيمين للمعارضة بيل شورتن العمالي وطوني أبوت الأحراري حيث يعتقد أن أبوت سيشكل عاملاً سلبياً في الحملة الإنتخابية وهذا ما اكده زعيم الاحرار السابق جان هيوسن في مقالة نشرتها جريدة الغاردين الاسترالية الالكترونية في (28/03/2016) عدا ذلك فهناك معلومات تتحدث عن تململ سياسي داخل حزب الأحرار وعن نيّة الجناح المحافظ الإنشقاق وتشكيل حزب جديد بالتحالف مع الحزب الوطني، إلى جانب ذلك هناك الأحزاب الصغيرة التي يستهدفها رئيس الوزراء، والتي أعلنت عن نيتها عدم مواجهة بعضها البعض بل تكريس كل جهودها لمحاربة الحكومة وحزب الخضر، بالمناسبة هناك 3 ملايين ناخب أيّدوا تلك الأحزاب في الإنتخابات الأخيرة عام 2013.
إذن رئيس الوزراء يسير على حافة الهاوية الإنتخابية وحتى وقت تقديم الميزانية لنرى على ماذا ستشتمل من إنفاق واقتطاعات ووعود قد نكون أمام معطيات جديدة، وما هو الخط الذي ستسير عليه الحملة الإنتخابية والنتائح التي قد تأتي بها أهي حكومة معلَّقة، أم حكومة بأكثرية ضئيلة ومجلس شيوخ أقل عدائية او حكومة برئاسة بيل شورتن رغم تكهن بعض المراقبين بقاء الحكومة الحالية؟
وأخيراً، أختم بما قاله رئيس وزراء ولاية فكتوريا السابق جيف كنيت وهو أحراري بالمناسبة أن همّ تيرنبول هو المصلحة الشخصية وإن هذه الحكومة بدون خطة مستقبلية وأن الحديث عن إنتخابات مبكرة ما هو إلا دليل فشلها وما قاله كنيت قد ينطبق جزئياً على المعارضة التي ميّزت نفسها ببعض السياسات الضريبية والتغييرات المناخية.
Email:abbasmorad@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق