العبقرية انتباهٌ فالتقاطٌ فتشكيلٌ فتقديمٌ للإنسانية/ كريم مرزة الأسدي

 قصيدة جميل الساعدي  تلهمني بإلهامها.....!!!

العبقرية انتباهٌ والتقاطٌ للظواهر الطبيعية ، والمعاني المطروحة على طرق الحياة ، وتحليلها ، وتشكيلها ، ثم تقديمها للبشرية كإبداع ملهم ، وليست مجرد إدعاء بمعرفتها من قبل ، العبقري من يضع بالسلة عنبْ...!!!
دائماً يبدو عمل غيرنا أسهل من عملنا ... وا ويلاه ....!!   

1 - انتباه أرخميدس ونيوتن وعباس بن فرناس  للظواهرٍ الطبيعية وتساؤلاتهم عن أسباب حدوثها وإبداعاتهم  وتقديمها للبشرية :  
عبقرية أرخميدس ليست بمعرفته أن الغوص بالماء عند استحمامه يخفف من وزنه ، وترتفع قدماه عن قاع الحوض ، وإنما بالانتباه ، وتساؤله عن السبب ، وتقديم الإجابة للإنسانية كقاعدة من أهم أسس علم الفيزياء التي بنيت عليها صناعة البواخر والغواصات وحاملات الطائرات ، بل الطائرات نفسها وهي تزيح بمقدار حجمها من الهواء لتحسب بدقة إبان طيرانها ، ولا السيد نيوتن عبقريته تكمن بمعرفته أن التفاحة تسقط على رأسه ، ولا تطير للسماء ...!! كلّ الناس تحسّ بما حسّ به أرخميدس ، و تعرف ما يعرفه نيوتن ، ولكن نيوتن مثله مثل صاحبه الأرخميدس ، انتبه وتسائل ووجد الإجابة ، فوضع أعظم قوانين الحياة ،  وهو قانون الجاذبية ، وهذه الظواهر هي أساساً  موجود في الكون ، ومرّت بها الحياة ، وإنما الفضل يعود لمن انتبه إليها وقدمها للبشرية ، وكذلك  عبقرينا الخالد عباس بن فرناس انتبه أن الطيور تطير  بأجنحتها ، فلماذا لا يضع الإنسان أجنحة له ويطير ؟ بادرهو بصنع أجنحة من الشمع له ، وجرب ، وفشل في تقديم شيئاً مادياً للإنسانية ، ولكن نبّه من بعده ليختطوا نهجه ، ومن هنا جاءت فكرة الطيران ، وصنعت الطائرات ، وطارت بالناس تشقّ عباب السماء.
معرفتك للشيء دون أن تنتبه  لأهميته  سواء أكان ظاهرة طبيعية ، أو معنى مطروح على الطرق ، ومن ثم تبادر لعمل شيءٍ ،  وتُعلم الناس  بتلك الأهمية ، لا تعطيك المعرفة حق التماهي بالسبق ، واستصغار عظمة العباقرة والنابغين ...!!

2 - وفي فضاء الأدب ، يقول الجاحظ المعاني مطروحة على الطرق ، العبقرية في الانتباه إليها ،وتقديمها للإنسانية :  
وفي فضاء الأدب كما في سماء العلم ، العبقرية تكمن بالانتباه للمعنى ، وتقديمه بلفظ شائق مبين  ، وإلا فالمعاني مطروحة في الطريق كما يقول جاحظنا العظيم في ( حيوانه ) ، اقرأ قوله :  " وأنا رأيت أبا عمرو الشيباني وقد بلغ من استجادته لهذين البيتين ونحن في المسجد يوم الجمعة أن كلف رجلاً حتى أحضره دواة وقرطاساً حتى كتبهما له ، وأنا أزعم أن صاحب هذين البيتين لا يقول شعراً أبداً ، ولولا أن أدخل في الحكم بعض الفتك لزعمت أن ابنه لا يقول شعراً أبداً ، وهما قوله : 
لا تحسبنَّ الموت موت البلى *** فإنما الموت سؤال الرجالْ
كلاهما موتٌ ، ولكــــــنَّ ذا ***** أفظع من ذاك لذلِّ السؤالْ
وذهب الشيخ إلى استحسان المعنى ،  والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي ، والحضري والبدوي، والقروي والمدني ، وإنّما الشأن في إقامة الوزن وتخير اللفظ وسهولة المخرج  وكثرة الماء، وفي صحة الطبع وجودة السبك ، فإنما الشعر صناعة وضرب من النسج وجنس من التصوير "
وهكذا ترى يشير جاحظنا الكبير إلى ضرورة الانتباه إلى المعنى ، ويقتنيه من الطرق بنباهة قادر ملهم ، ويقدمه للناس بضرب من النسج  البليغ، وجنس من التصوير البديع ، هذه هي جدلية العلاقة بين المعنى واللفظ ، أو الشكل والمضمون ، فغرر القصائد لعمالقة الشعر العربي والأجنبي ، تكمن عبقريتها في الانتباه الملهم لظواهر ومعانٍ وصور تمر على مسمع ٍ ومرآى جميع الناس ، وتجري بينهم وأمامهم ، ولكن الشاطر النابغ من يلتقطها ، ويقدّمها كأعمال خالدة للإنسانية .     
3 -  الصراع بين الملائكة والسياب حول أول من انتبه إلى الجديد ، وأشهره وسجل رسمياً أنه آتى بجديد ، وكلّ من بعدهما تقليد في هذا التجديد، فهما الأكثر عبقرية ونبوغا...!!:
ومن هنا تصارعت نازك الملائكة مع السياب، إذ اندلعت حرب أدبية حول أسبقية كتابة الشعر الحر ( التسمية القديمة) ، فقالت نازك في كتابها قضايا الشعر المعاصر : " كانت بداية حركة الشعر الحر سنة 1947، ومن العراق، بل من بغداد نفسها، زحفت هذه الحركة وامتدت حتى غمرت الوطن العربي كله ، وكانت أول قصيدة حرة الوزن تُنشر قصيدتي المعنونة الكوليرا " ، وضمّت القصيدة بديوانها الثاني ( شظايا ورماد).
 قصيدة الكوليرا نظمتها نازك متأثرة بوباء الكوليرا الذي انتشر في مصر في ذلك الوقت ، وكان والدها قد عابها عليها لخروجها عن عمود الشعر المتعارف عليه ، وفي الفترة نفسها ، ولعلّها إرادة الأقدار ، نظم الشاعر العبقري ، بدر شاكر السياب قصيدته المعروفة ( هل كان حبّاً ) ونشرها في ديوانه الأول ( أزهار ذابلة ) .
ومن بعد كتبت نازك  عام 1962 في مقدمة الطبعة الخامسة من كتابها المذكور: " أدري أن هناك شعراً حراً نظم في العالم العربي قبل سنة 1947 سنة نظمي لقصيدة الكوليرا وفوجئت بعد ذلك بأن هناك قصائد حرة معدودة ظهرت في المجلات الأدبية منذ 1932،وهو أمر عرفته من الباحثين لأنني لم أقرأ بعد تلك القصائد في مصادرها ،  وإذا بأسماء غير قليلة ترد في هذا المجال منها اسم على أحمد باكثير ، ومحمد فريد أبي حديد ، ومحمود حسن إسماعيل ، وعرار شاعر الأردن، ولويس عوض وسواهم"
 بل تبعتد نازك ، إذ تقول : " ثم أن الباحث الدكتور أحمد مطلوب قد أورد في كتابه النقد الأدبي الحديث في العراق قصيدة من الشعر الحر عنوانها " بعد موتي " نشرتها جريدة العراق ببغداد سنة 1921 م تحت عنوان النظم المطلق ، وفي تلك السن المبكرة من تاريخ الشعر الحر لك يجرؤ الشاعر على إعلان اسمه ، وغنما وقع ( ب ن ) " ثم تذكر نازك جزءا من القصيدة ، وتعقب قائلة : " والظاهر أن هذا أقدم نص من الشعر الحر "
" والواقع أن الشعر الحر قد ورد في تاريخنا الأدبي، وقد كشف الأدباء المعاصرون، ومن أوائلهم عبد الكريم الدجيلي في كتابه المهم "البند في الأدب العربي، تاريخه ونصوصه"، كشفوا أن قصيدة من هذا الشعر قد وردت منسوبة إلى الشاعر ابن دريد في القرن الرابع الهجري وهذا نصها، وقد رواه الباقلاني في كتابه "إعجاز القرآن" وأدرجه كما يدرج النثر الاعتيادي؛ ولكني أوثر أن أدرجه إدراج الشعر الحر ليبدو نسق أشطره المتفاوتة الأطوال والأوزان :
رب أخ كنت به مغتبطًا
أشد كفي بعرى صحبتهِ
تمسكًاً منّي بالودِّ ولا
أحسبه يغير العهد ولا يحول عنه أبدًا
ما حل روحي جسدي
فانقلب العهد بهِ
فعدت أن أصلح ما أفسدهُ
إلا سيلقى فرجًا في يومه أو غدهِ
هذا والأستاذ الدجيلي لم يعد هذه القصيدة شعرًاً حرًّاً؛ وإنما التمس فيها شكل البند الذي رآه فيها بعض الأدباء ، والواقع الذي لم يلتفت إليه الباحث الفاضل أن أشطر ابن دريد تجمع بين بحور دائرة المجتلب جميعها ففيها أشطر من الرمل وأخرى من الهزج وثالثة من الرجز. والبند كما أثبتنا في هذا الكتاب يستعمل وزنين اثنين هما الرمل والهزج فيتداخل هذان البحران وفق قاعدة دقيقة مذهلة .
كذلك نقل عبد الكريم الدجيلي من كتاب "وفيات الأعيان" أشطرًا منسوبة إلى أبي العلاء المعري تجري هكذا:
أصلحك الله وأبقاكَ
لقد كان من الواجب أن تأتينا اليوم
إلى منزلنا الخالى
لكي نحدث عهداً بك يا خير الأخلاء
فما مثلك من غيَّر عهدًا أو غفلْ
إن هذه الأشطر شعر حر من الرجز ثم من الهزج، وهي مثل أشطر ابن دريد غير كاملة، وقد وقف الشاعر عند منتصف تفعيلة الهزج. " (6) 
ثم أين البند الرائع ؟ وهذا مثاله لابن الحلفة الحلي ، وهو أرقى بكثير ، مما يسمى بقصيدة النثر : ، اقرأ من البند ، وقارن وتأمل : 
 " أهل تعلم أم لا أن للحب لذاذاتْ ؟
وقد يعذر لا يعذل من فيه غراماً وحوى ماتْ 
فذا مذهب أرباب الكمالاتْ 
فدع عنك من اللوم زخاريف المقالاتْ 
فكم قد هذبّ الحب بليدا 
فغدا في مسلك الأداب والفضل رشيدا " 
نرجع لنقول لماذا كلّ هذه  المحاولات المتكررة من عمق التاريخ العباسي حتى سنة 1947 م  ، لم ينتشر هذا الشعر ، ولم يتخذ مداه الواسع  في أرجاء الوطن العربي ، بل تغلب على الشعر العمودي نفسه ، إلا بعد انتباه نازك والسياب ، وتبعهم الرواد بتقديمه على أنه شعر جديد ، وتضع نازك شروطاً للريادة والأولية ، ونقبلها منها ، بل المسيرة الأدبية ، واتساع مدى الحركة التجديدة في الشعر تؤيد ما ذهبت إليه ، ومما ذهبت إليه بإيجاز   : أن يكون ناظم القصيدة واعياً إلى أنّه قد استحدث بقصيدته أسلوبا وزنيا جديدا ، وأن يقدمها مصحوبة بدعوة إلى الشعراء يدعوهم فيها إلى استعمال هذا اللون في جرأة وثقة ، وأن يستجيبوا لها فوراً ، وأن تجد دعوته صدى بعيداً لدى النقاد والقراء .
    4 - قصيدة الشاعر جميل حسين الساعدي تثير تأملي ،وتحفز ذاكرتي ، وتنبّه تنبهي إلى انتباهه الفريد المجيد ...!! : 
بيني وبين صديقي الشاعر القدير جميل حسين الساعدي قراءآت لنصوصنا الأدبية بشتى صنوفها ، ومداخلات ، وتعليقات ، قد تكون مسهبة ، وقد تكون موجزة ، حسب ما تنجبه اللحظة دون مقدمات ولا تحضيرات ، ابنة لحظتها!!
نشر ساعدينا الجميل  في (العدد: 3504 السبت 09 - 04 - 2016ممن صحيفة (المثقف) الإلكترونية  الرصينة الغرّاء ، ولفت نظري وانتباهي موضوعها الجديد  النبيل الهام المنسي من أذهان ورؤى  الشعراء ، وبجرس موسيقي عذب شجي ، شديد الألم والمرارة ، تحت عنوان (اللاجـــئ والمراكشـــية) ، واختارت صحيفتنا ( المثقفة) هذا البيت كمدخل للقصيدة الرائعة :
     فقــــــدْ ضاقتْ بـــيَ الدنيـا
     وعيشــي صـارَ كالحبْــسِ
 علقت على القصيدة كعادتي مع نصوصه بالآتي :
    " الشاعر الرومانسي الكبير صديقي العزيز جميل حسين الساعدي المحترم
    السلام عليكم والرحمة
    الله الله على القصيدة الرائعة جدا ، مسيرة حياة كاملة ، معبرة أجمل تعبير ، هذا هو السهل الممتنع ، الذي يتخيل المرء أن يأتي به بسهولة ، وما هكذا الأمر ، يقول الجاحظ : المعاني مرمية على أرصفة الشوراع ، ولكن العبقري من يشير إليها وينتبه إليها ، وسأكتب ربما مقالة حول هذا الموضوع المهم : 
    ولكنْ فجـــــأةَ حدث َ الذي مــــــــا كان َ فــــــــي حَدْسـي
    لقد هربتْ وصرتُ فريــــ ــســــــة ً للغــشِّ والدسٍّ (10)
    رصيـــــــدي كلّهُ سحبتــــ ـــــهُ مــا أبْقتْ على فلْسِ(11)
    ذهلتُ لما جرى في (البنـــكِ ) ثمّ صرختُ واتعســي(12)
    وفيما بعْـــــــدُ جـاءت دفْـ ـــعةَ ٌ أخرى مـن النحـسِ(13)
    فقـــــــدتُ البيتَ فاكتملــتْ فصـولُ روايــــــــــــةِ البؤس ِ
    وكمْ حاولتُ أنْ انســــــــى وهلْ شئٌ تُرى يُنســـــــــــــي
    أحسنت غاية الحسن وأبدعت غاية الإبداع ، احتراماتي ومودتي
 قبل ساعة - 09 - 04 - 2016" 
أجابني الصديق الشاعر ، بما يلي :
 " جميل حسين الساعدي
الشاعر والأديب العلم كريم مرزة الأسدي
أفرحتني جدا أخي العزيز لملاحظتك الذكية , التي تنم عن نظرة فاحصة تتسم بالعمق وهذا دليل جلاء البصيرة وغزارة المعرفة , التي هي ميزات ملازمة لشخصكم الكريم. هذا ما لمسناه في عطائكم على صعيد البحث الأدبي واللغوي وعلى صعيد الشعر. سأكون ممتنا جدا لما وعدتم به من تناول هذا الموضوع في بحث مستقل مع الإشارة الى الشواهد. وأنتم أهل لمثل هذا العمل ومنتظر منكم وفضلكم علينا كبير وقد لمسناه فيما كتبتوه عنا سابقا من مقالات نقدية
أتمنى لك كل خير
تقديري الكبير ومحبتي الدائمة
 قبل ساعتين  - 10 - 04 -" 
وأنا أقرأ قصيدة ساعدينا الفريدة في موضوعها ، الشاهدة على عصرها ، المتألمة لناسها ، الموشحة بحزنها ، المغناة ببحرها ، الشجية برويها ، المتروية بتواتر قافيتها  ، الطليقة على سجيتها الشاعرية الفذة ، بلا تصنع ، ولا تلكؤ، ولا تكلف ، لا أكتمك سرّا أنني تذكرت قصائد عمالقة الشعر العربي كابن الرومي ، وهو يرى بأم عينيه مأساة الحمّال الإنسانية :
رأيت حمّالاً مُبينَ العمى***يعثرُ في الأكمِ وفي الوَهدِ
محتملاً ثِقْلاً على ظهره ***** تعجز عنه قــوة الجلْدِ
بين جِمالاتٍ وأشباهها*****من بَشَرٍ ناموا عن المجدِ
وكلهم يصدمه عامــــداً***** أو تائهَ اللــــبِّ بلا عمـدِ
والبائس المسكين مستسلم******أذلُّ للمكروه من عبد
وما اشتهى ذاك ، ولكنّـــــه****فرّ من اللؤم إلى الجهدِ 
 والبحتري وهو يجرُّ أذيال خيبته الجعفرية  بمعجزة سينيته الكسروية  ، بعد هروبه من سامراء بعد مقتل متوكله ووزيره الفتح بن خاقان ، وقد طعن الشاعر نفسه جليسهما بظهره في القصر الجعفري على يد ابن المتوكل نفسه ، المنتصر بالسيف ، وعند وصوله طاق كسرى قرب بغداد ، تأمل حال الدنيا ، وتقلبها ، وهو يتلمس رسوم الإيوان بأنامله ، ويتفحصها بعينه ، وطلع علينا بمطلع معجزته ، من البحر الخفيف (فاعِلاتن مستفعلن فاعلاتن) في كل شطر: 
صنتُ نفسي عمّا يدنس نفسي ****** وترفَّعت عن جَدا كلِّ جِبسِ
وتماسكت حين زعزعني الدّهـ *** رُ التماساً منه لتعسي ونكسي 
 وكأن الزمان أصبح محمـــــو**** لاً هـــــواه مع الأخسِّ الأخسِّ
والمتنبي وهو يعاني غربته وتغربه ، إذ لا أهل ولا وطنُ ، ولا كأسٌ ولا سكنُ :
  وَلا نَديمٌ وَلا كَأسٌ وَلا سَكَن ****التَعَلُّلُ لا أَهلٌ وَلا وَطَنُ***** 
    أُريدُ مِن زَمَني ذا أَن يُبَلِّغَني **ما لَيسَ يَبلُغُهُ مِن نَفسِهِ الزَمَنُ
    لا تَلقَ دَهرَكَ إِلّا غَيرَ مُكتَرِثٍ **مادامَ يَصحَبُ فيهِ روحَكَ البَدَنُ
    فَما يَدومُ سُرورُ ما سُرِرتَ بِهِ**** وَلا يَرُدُّ عَلَيكَ الفائِتَ الحَزَنُ                 
 والصافي النجفي وهو يصف حالة الفلاح العراقي المسكين المستفلس ...:
حَتَّى الحَمَامُ عَلَيْـكَ رَقَّ بِدَوحِـهِ *** فَلَـهُ  بِحَقْلِـكَ  رَنَّـةٌ  وَنُـوَاحُ          
هَذِي دُيُونُـكَ لَمْ يُسَـدَّدْ بَعْضُهَا **عَجْزَاً  فَكَيْفَ  تُسَـدَّدُ  الأَرْبَـاحُ
والرصافي وهو يمر بالأرملة المرضعة : 
لَقِيتُها لَيْتَنِـي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَــــــا *** تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا
أَثْوَابُـهَا رَثَّـةٌ والرِّجْلُ حَافِيَــــــةٌ ***** وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَـا
بَكَتْ مِنَ الفَقْرِ فَاحْمَرَّتْ مَدَامِعُهَا **وَاصْفَرَّ كَالوَرْسِ مِنْ جُوعٍ مُحَيَّاهَـا
مَاتَ الذي كَانَ يَحْمِيهَا وَيُسْعِدُهَا *****فَالدَّهْرُ مِنْ بَعْدِهِ بِالفَقْرِ أَشْقَاهَـا
المَوْتُ أَفْجَعَهَـا وَالفَقْرُ أَوْجَعَهَــــا ******* وَالهَمُّ أَنْحَلَهَا وَالغَمُّ أَضْنَاهَـا 
  نعم معاناة ومأساة لاجئ المراكشية العراقي الذي رسم ساعدينا صورته الحيوية الناطقة الفريدة بما لم ينتبه إليها غيره بريشته الفذة هي المأساة الإنسانية نفسها التي رسمها عبقرينا الخالد ابن الرومي لحماله ، والصافي لفلاحه ، والرصافي لأرملته ، وهي معاناة الغربة والتغرب  ذاتها التي رسمها لنا المتنبي العظيم ، والبحتري الفنان الملهم ، وجزماً معاناة لاجئنا  البائس التعيس أكثر إيلاماً ، لأنه جمع التغرب والغربة والإفلاس والإملاق .....!!!   
  قصيدة ساعدينا  سينية الروي بكسرةٍ شجية ، طويلة تتجاوز الأربعين بيتاً من مجزوء الوافر ، ضربها معصوب ، والقافية متواترة هادئة:
تفعيلاته : مُفَاْعَلَتُنْ مُفَاْعَلَتُنْ  **** مُفَاْعَلَتُنْ مَفَاْعَيْلَنْ 
القافية متواترة : /ه/ه
    فتـــــــىً قابلتــــــــهُ أمــــسِ         شكـــــا لـــــي حالةَ  َ البؤسِ

    وحدّثنـــــــــــــي بقصّتــــــهِ التــــي حزنتْ لهـــا نفســــــــــــــي

    وقدّمَ نفســــــــــهُ خَجــِـــــلاً        (أنـــا المتشـرّدُ المنســــي)

    فذكّرنـــــــــــي بما يلقــــــى       كثيـــــــرٌ من بنـــي جنســي

    وتــــابعَ وهْوَ من سهَــــــــرٍ      بدا فــــي صفــــــرة الورْسِ (1)

    قصــــــــدتُ بلادَ أوربـّــــا     ولمْ ترغـــــــبْ بها نفســــــــــي

    لجـــأتُ بها علـــى مضَض ٍ        هروبـــــا ً من بنـــــي عبْسِ

    فقــــــدْ أفتــــى مشـــــايخهمْ        لهــــــــمْ أنْ يقطعــوا رأسي

    لأنّــــــــــي مولـــــــــــــــعٌ بالنقْـــــــــــدِ والتحليــــــــــلِ والدرْسِ

    ورأيــــــــــــي لا يوافقُ رأْ           يَ منْ جلسـوا على الكرسي

    فصارتْ عيشتـي رُعْبـــــا ً          وألوانـــــــــــــا ً مــن التعْـــسِ

    وما أغمضتُ لي جفنـــــــا ً       ولــــــمْ ألتــذّ بالنَعْـــــــــــسِ (2)

    سهـــــامي لمْ تُصِبْ هدفي          فرحتُ محطّمــــا ً قوســـــي

    فقلتُ هو َ اللجوءُ يكــــــــو        نُ لِـــــــي بمثابــــــةِ التُرْس ِ(3)

   وطمــــأنني المحقّقُ قـــــا         رئـا ًمــــــا خُطَّ فـــــي طِرْسـي (4)

    بجسمــــــكَ يا فتى أثـــــرٌ            مــــــن اللكمــــاتِ والرفْسِ

    وهــــــــذا وَحْدهُ  يكفـــــي         دليـــــــلا ً دونمــــا لبْــــــسِ(5)

    وعشــــتُ هنــــا بلا روحٍ          وحـــــانتْ لحظــــةُ النحْــسِ

    فقرّرتُ الزواجَ لكـــــــــي            أبدّدَ ظلمــــــــة َ اليــــــــأس ِ

    وأنهـــي وحــــــدة ً طالـتْ           وأبصرُ مثمـــــــرا ً غرسـي

    فطرْتُ إلـــــى مراكـشَ ليـ           ـسَ مِـنْ هاد ٍ سوى حَدْسي(6)

    هنالكَ صادفتني فــــــــــي          طريقـــــــي مُنْيـــــة النفْــــسِ

    فتـــــــاةٌ وجههــــا طـَـــلقٌ          لـــــــــــهُ إشراقةُ  الشمـــــسِ

    تحدّثنـــــــا وقالــــــــــت آ         خــــــرَ الكلماتِ في همْــــــــسِ

    أنا ( ليلاكَ) فاتبعنــــــــــي       هلمَّ إلـــــــيّ يا( قيســـي )(7)

    فقلتُ لهــــــــا وقد ختمَــتْ           بصــــــورتها على حِسّــــــي

    أنا ( المجنونُ) يا ليلــــــى          قســـــــا زمنـي فلا تقســـــــي

    وكوني لي علـى الأيّــــــــا          مِ عونــــــا ً أرجعي أُنْســـــي

    فقــــــدْ ضاقتْ بـــيَ الدنيـا         وعيشـــي صـارَ كالحبْــــــسِ

    ***

    ومــرّ الوقتُ فــــي عَجَــل ٍ          وحــــــانتْ ليلـــــــةُ العــرْسِ

    غدتْ لـي زوجــــة ً فضّلــ          ــتُــــــها حتّى علـــــى نفســي

    لمســــتُ بها التقى تبديـــــ          ـــه ِ في صلواتــــها الخمْـــسِ

    وعنْـــــدَ الصبْحِ تدعـــواللهَ، تتلــــــــــــو الآيَ إذْ تُمْســـــــــي(8)

    ظننتُ بأنَّ رابعـــــــــــــــة ً        معي.. بُعِثتْ مــن الرَمْـس ِ(9)

    ولكنْ فجـــــأةَ حدث َ الذي           مــــــــا كان َ فــــــــي حَدْسـي

    لقد هربتْ وصرتُ فريــــ             ــســــــة ً للغــشِّ والدسٍّ(10)

    رصيـــــــدي كلّهُ سحبتــــ            ـــــهُ مــا أبْقتْ على فلْسِ(11)

    ذهلتُ لما جرى في (البنـــــــــــــــكِ ) ثمّ صرختُ واتعســي(12)

    وفيما بعْـــــــدُ جـاءت  دفْـ          ـــعةَ ٌ أخرى مـن النحـسِ(13)

    فقـــــــدتُ البيتَ فاكتملــتْ           فصـولُ روايــــــــــــةِ البؤس ِ

    وكمْ حاولتُ أنْ انســــــــى          وهلْ شئٌ تُرى يُنســـــــــــــي
    ........................

    (1) الورْس: نبت أصفر يزرع في اليمن

     (2) النعس: النُعاس الوسن

     (3) التُرْس: الدرع

     (4) طِرْس: صحيفة   ورقة   

     (5) لـَبْس: شك   شبهة

     (6) مراكش مدينة تقع في المغرب

     (7) في البيت اشارة الى قصة الحب الخالدة قيس وليلى. أو مجنون ليلى والمجنون هو الشاعر قيس بن الملوح الذي أحب بنت عمه ليلى العامرية وقال فيها شعرا كثيرا

    (8) الآي: جمع آية وهي  كل فقرة أو جملة من القرآن

    (9) رابعة: عابدة مسلمة تأريخية  من الشخصيات المشهورة في التصوف الإسلامي وهي التي أسست مذهب الحب الإلهي 

    الرَمْس: القبر

     (10) الدسّ: المكر وتدبير المكائد

     (11) فلس: عملة نقدية مضروبة من غير الذهب والفضة تستخدم في عدد من الدول العربية، ومنها العراق، وفي البيت اشارة الى النقد بشكل عام وبالتحديد العملة المعدنية

     (12) البنك: المصرف

     (13) النّحس: الضرّ والشؤم والشقاء    
ليس الهدف من هذه المقالة تحليل ونقد قصيدة شاعرنا ، وإنّما الإشارة إلى عبقرية اللحظة النابهة  ، والتقاط الصورة ، والتشكيل السهل الممتنع ، والله الموفق لكل خير ، شكراً لكم.
كريم مرزة الأسدي
أتلانتا المحروسة 11 / 4 / 2016 م الساعة العاشرة ليلاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق