صباح مناسب للقتل ... رؤية ـ قراءات/ إيمان حجازى

لن تتمالك نفسك عزيزى القارئ من اﻹندهاش المستمر على مدى قراءة قصص هذه المجموعة "صباح مناسب للقتل " للسارد والشاعر أسامة جاد
فهو يكتب بأسلوب شيق للغاية لا يخلو من الجمل الشعرية وهذا لمرجعية كون الكاتب شاعرا باﻷساس ، كما يظهر للمتخصص معرفة ودراية الكاتب بالمونتاج واضحا فى القفزات الفكرية والتصويرية لمشاهد بعض القصص والتى تستدعى التركيز التام مع سرد الكاتب حتى لا يفقد القارئ خطوط أو خيوط الحبكة الدرامية للقصة فيجد نفسه خارج سياقها رغما عنه .
وكما يجد القارئ أسامة جاد يخاطب باقتدار كافة المواهب والقدرات ، فنجده يرسم لوحة فنية معبرة جدا على مدار المجموعة توضح لنا معالم المجتمع الريفى فى الجنوب والذى لا يختلف فى كثير عن مثيله فى وجه بحرى من حيث مفردات وأدوات التعامل اليومى مثل القيروانة والساقية وماجور العجين وغيره من اﻷدوات التى يستعملها الفلاح فى أى مكان ، ونراه يلون هذه اللوحة بشكل ممتع ومريح للعيون الناظرة والقارئة المتخيلة للصورة .
كما يلمس القارئ فى أسلوب جاد للمجموعة طزاجة رائحة الخبز وعبق سحر وخبرات السنين ، كل هذا تراه أيها القارئ العزيز مغلفا بشقاوة وإندهاشة طفل يحكى ببراءة وإسترسال محبب .

سوف تجد عزيزى القارئ أن هذه المجموعة صباح مناسب للقتل ، قد إنقسمت إلى قسمين منتشرين على مدار صفحاتها ، فأولهما والذى لن تتمالك نفسك من الإنبهار به لمدى التكثيف الموجود به وكذلك اﻹيجاز الذى يجعل القصة لا تتجاوز السطرين ، فى دمج غير مستغرب لقصيدة النثر _ والتى يكتب بها أسامة جاد فى مجال الشعر حيث نشر له ديوان فى هذا اللون من الأدب بعنوان " الجميلة سوف تأتى " _ والقصة الومضة أو اﻷقصوصة ، وقد نتج عن هذا المزج هذا النوع الذى أطلق عليه النقاد حديثا اﻷقصودة
وسوف تتوقف عزيزى القارئ مع هذه الفكرة فى قصص من المجموعة نذكر منها على سبيل المثال
#بلل .. ( سكب الماء على جسمها .. ثم نام . فأخذت تصفف شعرها المبلول .. وتبكى ) ...إنتهى
#دفء.. ( لم تكن نائمة، عندما ضمها إلى صدره، فى مساء متأخر . لم تكن نائمة، عندما تحركت بعض الشئ، بعدها، ليضئ شعلتها ..فى البرد ) ....إنتهى
فى هذين النموذجين عزيزى القارئ تجد التكثيف والإختصار فى نفس الوقت واضحا جليا ، بشكل لا يخل بالمعنى ، بل يغنى عن صفحات شرح وجمل إيحائية أو صريحة تحوى الكثير من البلاغة والتفصيل .

أما النوع الثانى من القصص والتى تتسم بالطول بعض الشئ ، ولو أنها لم تزل تحتفظ بسمتها كقصة قصيرة لا تزيد صفحاتها فى الغالب على ثلاث أو أربع صفحات إلا أنها تحتاج كما ذكرنا من قبل إلى التركيز فى القراءة وذلك ﻷننا عزيزى القارئ فى حضرة كاتب غير عادى يسرد بأسلوب غير تقليدى .

ولم تخلو المجموعة القصصية من رؤية الكاتب كصحفى لا يكتفى باﻹبداع فقط وإنما يرصد ويسجل المشاكل الحياتية والمظاهر السيئة التى قد يكون لها مردودا فى الحاضر والمستقبل، ودعنا عزيزى القارئ نتعمق فى هذه السطور التى هى عبارة عن قصة تعبر عن مأساة مجتمع ، وبعدها سوف أعطى لنفسى حق يا قارئي العزيز فى أن أناقش معك بصوت عال ما يجول بخاطري حيال هذه القصة .
#بضع دمعات وبقعة دم.. ( قال اﻷب : سآخذه لموقف السيرفيس غدا، كلمت اﻷسطى ﻷجله، وقالت اﻷم : مازال صغيرا . اﻷسطى ضخم، بشارب كثيف، وذقن غير حليقة، وكف خشنة، وأمره أن يغسل السيارة، وقال لﻷب :سأجربه، وقد ينفع، ومنحه عشرة جنيهات. "يلم اﻷجرة من الركاب، ويعطيها للسائق، وأبوه وعده بآيس كريم، ﻷول يوم عمل. كانت عصافير النوم تغنى فى سعادة، وتسبح فى بحيرات من اﻵيس كريم، وكانت ﻷنفاس السائق رائحة. منحه 20 جنيها، وقال :لا تخبر والدك. قال أبوه:سأضعها فى دفتر توفيرك، ونام، وإستعارت أمه دموعها لتزيل بقعة من دم وقذارة عن ثيابه، فى صمت، وهو كان ينتظر وعد أبيه. قال للسائق: سأسلمك اﻷجرة آخر الخط، فأومأ بالموافقة. قال السائق : سيسرقنى، ولا بأس . قال لنفسه : سأشترى اﻵيس كريم من "حر مالى " ) ......إنتهى
هذه القصة عزيزى القارئ بها ما بها من الدلالات التى تشير أننا أمام كاتب مهموم بمشاكل الواقع المصرى ، هذه الرؤية الشديدة القتامة  التى تشرح ما يكابده المجتمع من أعباء تنوء بها العصبة أولى القوة ، فاﻷب لضيق ذات اليد يخرج إبنه الصغير من المدرسة _ والكاتب لم يذكر لنا هذا الموضوع صراحة وإنما نستشفه من عبارة اﻷم التى تصف الولد بأنه مازال صغيرا _ ويذهب به للعمل مع سائق ميكروباس الذى يعلن عن نفسه منذ اللحظة الأولى أنه ليس بقلبه ذرة رحمة ﻷنه طلب من الولد الصغير هذا أن يقوم بتنظيف الميكروباس ، بينما إتفق مع اﻷب على اﻷجرة ولم يعد إلا بأن يجرب الولد ، ولكنه كان ينتوى تجريبه فى شئ آخر غير العمل ، وقد ضاعف له اﻷجر مرتين ، الولد كان يحلم باﻵيس كريم ولذلك لم يرفض ولم يبكى ولم يصرخ ولكن إنصاع لطلب السائق ولم يذكر الموضوع عند أبيه ، اﻷب أخذ مبلغ ال 20 جنيها الاضافية ولم يتجرأ أن يسأل إبنه عن المصدر ، فهو كرجل فهم وأدرك ولكنه لم يرفض ، إختار أن يخون إبنه كما خان أبوته ، اﻷم مثل أى أم عندما يتغيب ضناها بعض الوقت تبدأ فى تفحصه فور عودته ، وقد عرفت من نقاط الدم وبعض القذارة العالقة بملابس إبنها الداخلية ما حدث له ، بكت وصمتت ولم تعلق ، ولكن الغريب يا قارئي العزيز ليس هو تعدد الإنكسارات فى هذه القصة وحدها ، ولكن الغريب هو موقف الولد نفسه ، الذى تحول فجأة من مفعول به ، مظلوم من اﻷب وسائق الميكروباس ، مقهور ، مغتصبة براءته ، منتهكة عذريته _ إذا جاز لنا أن نعتبر أن هناك بكارة ذكورية _ تحولا سريعا إلى فاعل وقد رد الفعل إلى أصحابه مساو ومضاد ، وخاصة حينما إضطر اﻷب فى حركة لا شعورية أو ربما محاولة منه ﻹسكات الضمير الى وضع مبلغ ال 20 جنيها الإضافية فى دفتر توفير الولد ، أما فيما يخص السائق فقد فرض الولد شروطه وقال سوف أعطيك اﻷجرة فى نهاية الخط ، رضخ السائق وهو يعلم أنه سوف يسرقه وأيضا الولد وعد نفسه باﻷيس كريم من حر ماله فقد وقع فى عقله أن أباه لم يعد كما كان فى السابق .
وأعتقد أيها القارئ العزيز أن كاتبنا حينما سرد هذه السطور كان يفكر فى المستقبل الذى ينتظر مجتمعا يضم مفردات تعيش مثل تلك الظروف ، وهذا الولد الذى تحول ما بين عشية وضحاها من مفعول به لفاعل ، كيف بعد عشر سنوات سيكون تعامله مع البشر حوله ، كيف سيآخذ المجتمع الذى قضى على رجولته ، بالتأكيد الكاتب هنا يدق ناقوس الخطر وينبه المجتمع بما ينتظره فى المستقبل إذا ظل على إنتهاك البراءة وإستمراء موات الضمير.

ولكن عزيزى القارئ ، ونحن نتصفح هذه المجموعة القصصية التى نسجت بعناية فنان فجاءت فيها العاطفة والقسوة ، الإبتسام والدموع ، الوحدة والإلتحام ، اﻷمل واليأس ، الغربة وإنتظار الغائب ، كان لنا لقاء مع الإعتياد أو الإرتباط باﻷشياء التى نملكها ، ولسوف نقرأ عزيزى القارئ معا نص جديد حزين بعض الشئ ﻷنه واقعى جدا ثم نتحدث معا فيما وراءه .
#دموع طارئة .. ( أبكاها العجز، وهى ترى الدجاجة تروح منها . وكانت السكين سريعة . وعلى الغداء كانت تبكى آخر ما يربطها بالدنيا . وتأكل ببطء.....شديد ) ....إنتهى
هذه قصة حزينة جدا لسيدة ممن يرتبطن بحاجياتهن ، هذه القصة تتناص عزيزى القارئ مع قصة أخرى فى رواية الخلود لكونديرا وتحديدا فى جزئية الجسد ، حيث كانت أسرة مكونة من زوج وزوجة يربيان أرنبا وقد علماه التقليد وإتقان بعض الحركات وكانا يعاملانه كإبن لهما ، إلى أن إضطرتهما الظروف للسفر ولم يكن مسموحا أن يحملانه معهما على الطائرة ، كما كانت المدة ربما ستطول ولم يكن من المعقول تركه عند أحد الجيران أو اﻷصدقاء ، فرسخ فى نفس الزوجة أن تذبحه وتطهوه ، ولكن على الغداء وبعد أن فطن الزوج الى أنه يتناول صديقه وحبيبه هرع الى الحمام ليفرغ ما فى جوفه ، غير أن الزوجة كان لها رأى آخر ، فكانت ترى أن قمة اﻹحساس بالحب هو أن تأكل من تحب وتفرز عليه اللعاب وتمضغه جيدا وتدعه يتوغل بداخلك حتى يصل للمعدة فتفرز عليه عصاراتها فيتحلل ويهضم تماما فيمتصه الجسم ويصبح ضمن الخلايا كما يصبح دما يسير فى العروق وبهذا كانت ترى أنها وصلت إلى قمة الحب واﻹحساس بذوبان الحبيب فى نسيج وجودها وتكويناتها الجسدية ، وهى ربما تكون فكرة فلسفية عكسية لفكرة الخلق ، فهى تعنى رجوع الجزء إلى اﻷصل ، كان هذا وفقا لرؤية كونديرا .

وإذا كان رؤية كونديرا تبدو لنا عاطفية رومانتيكية ، فإننا بصدد مجموعة قصصية لم تخلو صفحة من صفحاتها من اﻹعلان والتمسك بالعاطفة ، حقيق أن المجموعة تشتكي سفر اﻷبناء وزواج البنات والإبتعاد ولكننا نجد أنفسنا وسط خضم هائل من المشاعر الجياشة وخاصة عندما نقرأ من بين القصص قصة تشير إلى اﻷخوة برغم إختلاف العقيدة " حيث قالت المرأة المسيحية متحدثة عن جارتها المسلمة ، أختى ، جيران منذ 40 سنة ، هى أختى المسلمة " ، وهذا ما كان عليه مجتمعنا وحمله فى ذاكرته طفل أسامة جاد الذى كان يملى عليه هذه المجموعة بكرة وأصيلا حتى صارت بين أيدينا .

كما تزخر المجموعة بمواطن عديدة للمرأة اﻷم، الجدة ، الحبيبة ، الجارة ، زوجة العم ، الزوجة ، الإبنة .... وهذا يقول الكثير ويبرر اﻹهداء الذى خطه جاد إلى أمه التى أهدته أول كتاب ، الى جدته صاحبة الحواديت ، الى فيروز تغنى مصر عادت شمسك الذهب وكأنه يهدي مجموعته تلك الى مصر نفسها .

عزيزى القارئ ليت المساحة تكفى لنتصفح سويا المجموعة القصصية كلها ، لكنا أسعدنا جميعا ، لكن فى نهاية المقال لا يسعنى إلا التأكيد على موهبة هذا الكاتب وقدرته المتفردة على الإبداع .
والى كتاب آخر .....

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق