في ظل التقلبات التي باتت تسير بوتيرة متسارعة على الساحة الجيوسياسة هذه الأيام، و بعد مرور فترة شبه كافية لتقييم رؤية النظام المصري الحالي، و أداءه بات من الضروري التوقف عند أهم تلك النقاط المحورية التي تشكل ركيزة لسياساته الإقليمية، و هي الركيزة المنطلقة من مقولة "مسافة السكة" و التي سأسميها بسياسة "مسافة السكة" و التي أصبحت و انعكساتها أمر يحيق بنا من جميع الجوانب و الزوايا.
لا أنكر أنه من حيث المبدأ العام أن فكرة "مسافة السكة" فكرة محمودة بصورة شديدة العمومية و تعزز من دور مصر على الساحة العربية أو الخليجية تحديدا، و تشكل ممانعة لسياسات إيران و مشاريعها في المنطقة و ليس هدفي هنا هو تقييم سياسات إيران و إنما نقطتي هنا هي لماذا لم يعد أمن مصر من أمن سوريا و العراق و ليبيا مثلا. على الرغم من أن العراق يعاني من اختراق إيراني شديد، و أن ليبيا دولة لها حدود مشتركة معنا و مسافة السكة بين ليبيا و مصر أقصر بكثير من العديد من الدول الأخرى، و ها هي سوريا بات المد الإيراني يغمرها، حسنا دعونا إذا نؤكد أننا لم نتلقى دعوة ليبية من أجل ذلك. لكن على أية حال ما يهمني هنا أكثر من كل هذا هي انعكاسات ذلك المنطلق على مصر ذاتها من جميع النواحي السياسية و الاستراتيجية و الاقتصادية و الاجتماعية.
لا أنكر أن تفعيل التقارب العربي العربي أمر عظيم، لكن ما كنت أرجوه هو أن يكون لمصر دور أكبر من أن تكون المضيف السلبي أكثر من الفاعل المحرك. بمعنى أنني كنت أتخيل و كما كتبت سابقا أنه آن الأوان لمصر أن تتمدد من نطاق قوتها الناعمة، لكن ما يحدث في حقيقة الأمر هو العكس، فنظرا لحاجة "بتوع السكة" لإيجاد البدائل لأنفسهم في ظل تراجع الدور الأمريكي و تآكل قوة الولايات المتحدة مما أدى إلى ظهور روسيا مثلا و عودتها مرة أخرى على الساحة و هي الدولة المنافسة نفطيا، و لكن الأقوى تكنولوجيا و أمنيا و عسكريا، و هي الدولة الحليفة لإيران و نظام بشار الأسد و بالرغم و على الرغم من كل تصريحات "أصحاب السكة" بأن العلاقات الروسية- الـ "السككية" جيدة إلا أن الكل يعلم أنها ليست بكذلك و لن تكون في القريب العاجل دون الخوض في تفاصيل. نضيف إلى ذلك إلى أن انخفاض أسعار النفط و أزمة أسعاره الأخيرة - إن لم يكن "بتوع السكة" أنفسهم وراءها للضغط على روسيا و اجبارها على التخلي عن نظام بشار الأسد في سوريا – قد أفقدت الكثيرين الثقة في التنبؤ بمقدار الاعتماد عليه كمورد واحد للدخل، فإن صدق من ينادي في دول "السكة" بأنه لابد من التخلص من الإعتماد على النفط، فإن ذلك يعني ببساطة أنهم في حاجة إلى استثمارات جديدة و سوق جديدة لم تكن منفتحة بصورة كبيرة من قبل، و ها هي السوق المصرية واعدة و جديدة و تقدم لهم التسهيلات التي لن تقدمها الولايات المتحدة أو أوروبا أو حتى روسيا التي تمزقها أزمة اقتصادية حادة و التي أعلن رئيسها سابقا أنه يفضل الجوع و الألم على أن يسمح للتدخلات الأجنبية بأن تنموا في بلاده.
إذا فمصر باتت تعتمد على تصدير القوة مقابل استيراد القوة الناعمة المتنامية "لبتوع السكة"، أي أنها تقدم الالتزامات بالحماية و توطيد الأمن و التدريبات العسكرية، بل و سيكون الدفاع المباشر إن استلزم الأمر – و هذا ما عنيته بأن لا ليبيا و لا العراق و لا سوريا من تصنيف "مسافة السكة" حسب تصنيف أصحاب القرار في مصر – و هنا يجب أن نعترف بأن مصر خيار رابح لهم خاصة بعد تجاربهم الأمريكية في حروب تحرير الكويت و غزو العراق، و ضعف خبراتهم العسكرية و القدرات الديموجرافية و البشرية لبلادهم، لكن في المقابل ماذا ستستورد مصر؟ طبعا قوة ناعمة متزايدة في الداخل المصري، استثمارات في مجالات الطاقة، و الإعلام، و غيره و غيره و بالتالي قدرة على التأثير و أكثر مما هي قدرة على الإنقاذ. فمثلا أصبح واضحا أن الدعم لم يكن لمصر و المصريين في حد ذاتهم و إلا لماذا لم يقدم – حبا في المبدأ و إخلاصا له و للقيم الحميدة في عالم السياسة – إبان فترة حكم النظام السابق على وجه الخصوص؟ طبعا الإجابة واضحة، و هي الرغبة في تعميق جذورهم في الوطن المصري، لكن بعد تأمين نظام مخلص حامي لذلك العمق الذي لابد أن لا يخسروه، إذا أصبح كل هذا نفسه تعزيزا و تثقيلا لنظام بعينه في مصر مما قد يدفعه إلى احتكار السلطة التي عانينا منه لعقود الدهر، و هذا أحد أهم مكامن الخطر.
لا أعني بما سبق الإشارة إلى أي نظام راديكالي، أو متشدد تخشاه تلك الدول في الداخل المصري قد يأتي على سدة السلطة فيما بعد، لكن أقول أن مصر ليست مجرد نظامين ، نظام السيسي أو الإخوان ، و لا يمكن أن ينظر إلى الأمور بهذه الصورة إذا كنا نحلم بديموقراطية حقيقية، هذا بالرغم من أن الأمور و بعد تلك الفترة كلها لا تزال تبدوا على أنها كذلك، إما السيسي أو الإخوان. إن مصر أكبر من هذين الطرحين، مصر بها الإصلاحيين و الليبراليين و الناصريين، و السلفيين، و غيره و غيره حتى بعد إقصاء الإخوان. إذا ماذا سيكون موقف أو فكرة "بتوع السكة" من أو عن الناصريين مثلا؟ لا أعلم حقيقة، إلا أن كل هذا يعزز من ثقل جبهة سياسية واحدة، و حيدة في مصر، و قد يتطور الأمر إما إلى تشكيل لوبي أو ما يشبه اللوبي في الداخل المصري و سيكون على كل مرشح رئاسي أن يقدم فروض الولاء و رسائل الحب و الضمانات "لبتوع السكة"، أو "ومن الآخر" سيقرر نظام "مسافة السكة" البقاء للأبد و شرعنة وجوده على أساس أنه حامي حمى الاقتصاد المصري و و الانجازات الجبارة، و عوائد مشاريعه التي قطعا سيشعر بها بعض المصريون، و لاستكمال الجميل، و حماية حمى العرب في الظروف الدقيقة و الحرجة التي تمر بها المنطقة و التي لا أعلم متى لم تكن تلك الظروف دقيقة، فظروفنا دائما ما كانت دقيقة و خطيرة و دائما ما تشدق حكامنا و تعللوا بهذه الظروف بدءا من الاحتلال و الاستعمار و مرورا بإعلان قيام دولة اسرائيل و النكبة و النكسة و تحرير الأرض، و احتلال جنوب لبنان و حروب الخليج و غزو العراق و انتهاءا بما نحن عليه الآن، و هكذا.
خلاصة القول إنني لا أعلم لماذا لم يحدث العكس، فلم أسمع عن أن رجال الأعمال المصريين بدؤا بإنشاء المصانع في دول "مسافة السكة" و أن شركاتنا هي من تقدم الدعم الفني و التقني و الخبرات و غيره، و إنما العكس هو الصحيح كل الأخبار تتواتر عن أن رجال أعمالهم هم من سيستثمرون و يضخون المليارات و غيره، هل نحن على درجة من الفقر المميت التي لا تسمح بوجود طبقة رجال أعمال حقيقية في مصر تريد أن تتوسع إلى الخارج؟ هل الشركات الحكومية و الخاصة مفلسة فكريا و استراتيجيا و ماديا إلى هذا الحد؟ هل نحن بعيدين جدا حتى عن أبسط مبادئ و استراتيجيات العمل الإقتصادي و إدارة الأعمال في العصر الحديث و عصر الاقتصاد العابر للقارات؟ و إن كان ذلك صحيحا لماذا لم نسمع بأن الحكومة تعيد تأهيل القطاعين الخاص و العام ليتناسبا مع تلك المرحلة من تاريخ مصر؟
ما كنت أتخيله هو مسافة السكة التي تكون الريادة فيها لمصر بما يعزز من حرية اتخاذ قراراتها الحالية و المستقبلية، مسافة السكة التي تعزز و تصنع و تسترجع قوة مصر الناعمة، اقتصاد، واعلام و فكر و صناعة أجيال هنا و في الخارج و ليس العكس حتى و إن استغرق ذلك وقتا ما.
hady.hamdy@gmail.com
لا أنكر أنه من حيث المبدأ العام أن فكرة "مسافة السكة" فكرة محمودة بصورة شديدة العمومية و تعزز من دور مصر على الساحة العربية أو الخليجية تحديدا، و تشكل ممانعة لسياسات إيران و مشاريعها في المنطقة و ليس هدفي هنا هو تقييم سياسات إيران و إنما نقطتي هنا هي لماذا لم يعد أمن مصر من أمن سوريا و العراق و ليبيا مثلا. على الرغم من أن العراق يعاني من اختراق إيراني شديد، و أن ليبيا دولة لها حدود مشتركة معنا و مسافة السكة بين ليبيا و مصر أقصر بكثير من العديد من الدول الأخرى، و ها هي سوريا بات المد الإيراني يغمرها، حسنا دعونا إذا نؤكد أننا لم نتلقى دعوة ليبية من أجل ذلك. لكن على أية حال ما يهمني هنا أكثر من كل هذا هي انعكاسات ذلك المنطلق على مصر ذاتها من جميع النواحي السياسية و الاستراتيجية و الاقتصادية و الاجتماعية.
لا أنكر أن تفعيل التقارب العربي العربي أمر عظيم، لكن ما كنت أرجوه هو أن يكون لمصر دور أكبر من أن تكون المضيف السلبي أكثر من الفاعل المحرك. بمعنى أنني كنت أتخيل و كما كتبت سابقا أنه آن الأوان لمصر أن تتمدد من نطاق قوتها الناعمة، لكن ما يحدث في حقيقة الأمر هو العكس، فنظرا لحاجة "بتوع السكة" لإيجاد البدائل لأنفسهم في ظل تراجع الدور الأمريكي و تآكل قوة الولايات المتحدة مما أدى إلى ظهور روسيا مثلا و عودتها مرة أخرى على الساحة و هي الدولة المنافسة نفطيا، و لكن الأقوى تكنولوجيا و أمنيا و عسكريا، و هي الدولة الحليفة لإيران و نظام بشار الأسد و بالرغم و على الرغم من كل تصريحات "أصحاب السكة" بأن العلاقات الروسية- الـ "السككية" جيدة إلا أن الكل يعلم أنها ليست بكذلك و لن تكون في القريب العاجل دون الخوض في تفاصيل. نضيف إلى ذلك إلى أن انخفاض أسعار النفط و أزمة أسعاره الأخيرة - إن لم يكن "بتوع السكة" أنفسهم وراءها للضغط على روسيا و اجبارها على التخلي عن نظام بشار الأسد في سوريا – قد أفقدت الكثيرين الثقة في التنبؤ بمقدار الاعتماد عليه كمورد واحد للدخل، فإن صدق من ينادي في دول "السكة" بأنه لابد من التخلص من الإعتماد على النفط، فإن ذلك يعني ببساطة أنهم في حاجة إلى استثمارات جديدة و سوق جديدة لم تكن منفتحة بصورة كبيرة من قبل، و ها هي السوق المصرية واعدة و جديدة و تقدم لهم التسهيلات التي لن تقدمها الولايات المتحدة أو أوروبا أو حتى روسيا التي تمزقها أزمة اقتصادية حادة و التي أعلن رئيسها سابقا أنه يفضل الجوع و الألم على أن يسمح للتدخلات الأجنبية بأن تنموا في بلاده.
إذا فمصر باتت تعتمد على تصدير القوة مقابل استيراد القوة الناعمة المتنامية "لبتوع السكة"، أي أنها تقدم الالتزامات بالحماية و توطيد الأمن و التدريبات العسكرية، بل و سيكون الدفاع المباشر إن استلزم الأمر – و هذا ما عنيته بأن لا ليبيا و لا العراق و لا سوريا من تصنيف "مسافة السكة" حسب تصنيف أصحاب القرار في مصر – و هنا يجب أن نعترف بأن مصر خيار رابح لهم خاصة بعد تجاربهم الأمريكية في حروب تحرير الكويت و غزو العراق، و ضعف خبراتهم العسكرية و القدرات الديموجرافية و البشرية لبلادهم، لكن في المقابل ماذا ستستورد مصر؟ طبعا قوة ناعمة متزايدة في الداخل المصري، استثمارات في مجالات الطاقة، و الإعلام، و غيره و غيره و بالتالي قدرة على التأثير و أكثر مما هي قدرة على الإنقاذ. فمثلا أصبح واضحا أن الدعم لم يكن لمصر و المصريين في حد ذاتهم و إلا لماذا لم يقدم – حبا في المبدأ و إخلاصا له و للقيم الحميدة في عالم السياسة – إبان فترة حكم النظام السابق على وجه الخصوص؟ طبعا الإجابة واضحة، و هي الرغبة في تعميق جذورهم في الوطن المصري، لكن بعد تأمين نظام مخلص حامي لذلك العمق الذي لابد أن لا يخسروه، إذا أصبح كل هذا نفسه تعزيزا و تثقيلا لنظام بعينه في مصر مما قد يدفعه إلى احتكار السلطة التي عانينا منه لعقود الدهر، و هذا أحد أهم مكامن الخطر.
لا أعني بما سبق الإشارة إلى أي نظام راديكالي، أو متشدد تخشاه تلك الدول في الداخل المصري قد يأتي على سدة السلطة فيما بعد، لكن أقول أن مصر ليست مجرد نظامين ، نظام السيسي أو الإخوان ، و لا يمكن أن ينظر إلى الأمور بهذه الصورة إذا كنا نحلم بديموقراطية حقيقية، هذا بالرغم من أن الأمور و بعد تلك الفترة كلها لا تزال تبدوا على أنها كذلك، إما السيسي أو الإخوان. إن مصر أكبر من هذين الطرحين، مصر بها الإصلاحيين و الليبراليين و الناصريين، و السلفيين، و غيره و غيره حتى بعد إقصاء الإخوان. إذا ماذا سيكون موقف أو فكرة "بتوع السكة" من أو عن الناصريين مثلا؟ لا أعلم حقيقة، إلا أن كل هذا يعزز من ثقل جبهة سياسية واحدة، و حيدة في مصر، و قد يتطور الأمر إما إلى تشكيل لوبي أو ما يشبه اللوبي في الداخل المصري و سيكون على كل مرشح رئاسي أن يقدم فروض الولاء و رسائل الحب و الضمانات "لبتوع السكة"، أو "ومن الآخر" سيقرر نظام "مسافة السكة" البقاء للأبد و شرعنة وجوده على أساس أنه حامي حمى الاقتصاد المصري و و الانجازات الجبارة، و عوائد مشاريعه التي قطعا سيشعر بها بعض المصريون، و لاستكمال الجميل، و حماية حمى العرب في الظروف الدقيقة و الحرجة التي تمر بها المنطقة و التي لا أعلم متى لم تكن تلك الظروف دقيقة، فظروفنا دائما ما كانت دقيقة و خطيرة و دائما ما تشدق حكامنا و تعللوا بهذه الظروف بدءا من الاحتلال و الاستعمار و مرورا بإعلان قيام دولة اسرائيل و النكبة و النكسة و تحرير الأرض، و احتلال جنوب لبنان و حروب الخليج و غزو العراق و انتهاءا بما نحن عليه الآن، و هكذا.
خلاصة القول إنني لا أعلم لماذا لم يحدث العكس، فلم أسمع عن أن رجال الأعمال المصريين بدؤا بإنشاء المصانع في دول "مسافة السكة" و أن شركاتنا هي من تقدم الدعم الفني و التقني و الخبرات و غيره، و إنما العكس هو الصحيح كل الأخبار تتواتر عن أن رجال أعمالهم هم من سيستثمرون و يضخون المليارات و غيره، هل نحن على درجة من الفقر المميت التي لا تسمح بوجود طبقة رجال أعمال حقيقية في مصر تريد أن تتوسع إلى الخارج؟ هل الشركات الحكومية و الخاصة مفلسة فكريا و استراتيجيا و ماديا إلى هذا الحد؟ هل نحن بعيدين جدا حتى عن أبسط مبادئ و استراتيجيات العمل الإقتصادي و إدارة الأعمال في العصر الحديث و عصر الاقتصاد العابر للقارات؟ و إن كان ذلك صحيحا لماذا لم نسمع بأن الحكومة تعيد تأهيل القطاعين الخاص و العام ليتناسبا مع تلك المرحلة من تاريخ مصر؟
ما كنت أتخيله هو مسافة السكة التي تكون الريادة فيها لمصر بما يعزز من حرية اتخاذ قراراتها الحالية و المستقبلية، مسافة السكة التي تعزز و تصنع و تسترجع قوة مصر الناعمة، اقتصاد، واعلام و فكر و صناعة أجيال هنا و في الخارج و ليس العكس حتى و إن استغرق ذلك وقتا ما.
hady.hamdy@gmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق