رغم اختلاف الظروف والقضايا، في أرجاء البلاد العربية، فإنّ واقع حال معظمها هو بائس ويسير في حقول ألغام تُهدّد من فيها بالتمزّق إلى أشلاء. وهذا الواقع يدفع حتماً ببعض الناس لليأس والإحباط والسلبية والابتعاد عن أيِّ عملٍ عام، كما أنّه قد يكون مبرّراً للبعض من أجل استخدام العنف المسلح ضدّ "الآخر" في الوطن الواحد.
فالتداعيات الجارية في أكثر من بلدٍ عربي تحمل مخاطر وهواجس أكثر ممّا هي انطلاقة واضحة نحو مستقبلٍ أفضل. وخطورة هذه المرحلة تزداد حينما نرى هذا الفرز الحاصل الآن لدى العرب بين تيّارين: تيّار اليأس والإحباط وفقدان الثقة بنتيجة أيّ فكر أو أيّ عمل، وآخر انفعالي يحاول التغيير لكنّه فاقدٌ للبوصلة أو المرجعية الصحيحة التي تُرشده لبناء حياةٍ أفضل!.
وهناك الآن حالة "تكيّف" عربي مع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي وتقطع بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع واقع التدخّل الأجنبي، بل حتّى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية أو القومية، فقد انتقلت شعارات بعضها من عموميات "الأمّة" إلى خصوصيات "المذاهب"، كما انتقل بعض "التيّار الديني" في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح، وما يجلبه هذا الأسلوب من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.
والأوضاع السائدة الآن في عدّة بلدان عربية، هي أزمات تتجاوز وصف الكوابيس، وليس أيٌّ منها يعصف في دائرته المباشرة فقط، بل أصبحت المنطقة بأسرها ساحةً لها ولانعكاساتها. وهذه الأزمات- الكوابيس بدأت كلّها في أوطان حملت أحلاماً من أجل التغيير والحرّية أولاً، ثم تغيّرت الأحلام ولم يحصل التغيير المنشود حيث تحوّل العنف الداخلي إلى حروب أهلية عربية. فما هو مشتركٌ الآن بين هذه الأوطان أنّها تفتقد للأرض الوطنية الصلبة، وللوحدة الوطنية الشعبية، وللبناء الدستوريّ الصحيح، وللأساليب السليمة في الحكم وفي نهج المعارضة. وسيكون ختام هذه الحروب الأهلية العربية نجاح المشروع الإسرائيلي فقط، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
"لا يصحّ إلاّ الصحيح"، هو قولٌ مأثور يتناقله العرب، جيلاً بعد جيل. لكن واقع حال العرب لا يسير في هذا الاتّجاه، إذ أنّنا نجد، جيلاً بعد جيل، مزيداً من الخطايا والأخطاء تتراكم على شعوب الأمّة العربية، وعلى أوطانها المبعثرة. فهل يعني ذلك أن لا أمل في وصول أوطان العرب إلى أوضاع صحيحة وسليمة؟! أم ربّما ترتبط المشكلة في كيفية التفاصيل وليس في مبدأ هذا القول المأثور! فإحقاق الحق، وما هو الصحيح، يفترض وجود عناصر لم تتوافر بعدُ كلّها في مخاض التغيير الذي تشهده الأمّة العربية. وبعض هذه العناصر هو ذاتي في داخل جسم الأمّة، وبعضها الآخر خارجي، حاول ويحاول دائماً منع تقدّم العرب في الاتجاه الصحيح.
صحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟.
ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أيّ بلد عربي، وعن تلك القوى التي تتحدّث باسم "الجماهير العربية"، وعن المفكّرين والعلماء والإعلامين الذين يُوجّهون عقول "الشارع العربي"؟!.
نعم هو حاضرٌ عربيٌّ سيّء، لكن ماذا بعد وماذا عن المستقبل؟! وهل الحلُّ في السلبية وفي الإحباط وفي الابتعاد عن السياسة وعن أيِّ عملٍ عام؟!. وهل يؤدّي الهروب من المشاكل إلى حلّها؟! وهل سيصلح الإحباطُ واليأس، الأوطانَ والمجتمعات ومستقبل الأجيال القادمة؟!
الحقيقة هي بشكلٍ معاكس، أي أنّ الابتعاد عن السياسة وعن العمل العام سيزيد من تفاقم الأزمات ولن يحلّها، وسيصنع الفراغ لمنتفعين ولمتهوّرين يملأونه بمزيدٍ من السلبيّات، وسيترك الأوطان والمجتمعات فريسةً سهلة للطامعين بها، وسيضع البلدان أمام مخاطر الانشقاق والتمزّق إذا ما انحصر "العمل السياسي" فيها أو النشاط العام على أصحاب المفاهيم والأطر والأساليب الانشقاقية.
كذلك، فإنّ الحلّ ليس طبعاً في مزيدٍ من التهوّر، ولا هو في إشعال الغرائز الانقسامية والانقياد للعنف المسلح، الذي يُدمّر الأوطان ووحدة الشعوب ويخدم دعاة التقسيم والتدويل لأزمات المنطقة. الحلّ أساسه وقف حال الانهيار الحاصل في وحدة المجتمعات وبناء البدائل الوطنية السليمة، على مستوى الحكومات والمجتمع المدني معاً. فشعوبٌ كثيرة مرَّت في ظروف مشابهة لكنّها رفضت "الموت السريري" البطيء، فنهضت من جديد وصحّحت أوضاعها وأرست دعائم مستقبل أجيالها.
وبمقدور الأوطان العربية أن تحقّق خطواتٍ على طريق الأمل بمستقبلٍ أفضل لو وضعت باعتبارها التمييز المطلوب في حركات المعارضة ما بين تغيير الحكومات وبين مخاطر تفكيك الكيانات الوطنية، ثمّ التمييز بين الطائفة أو المذهب، وبين الطائفية والمذهبية. فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَّة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه. كذلك التمييز مطلوبٌ بين الاعتزاز بالوطنية المحليّة، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر العولمة والتكتّلات الكبرى. وكما التمييز مطلوبٌ بين الحرص على الولاء الوطني وبين التقوقع الإقليمي، فإنّ من المهم أيضاً التمييز بين الانفتاح على الخارج وبين التبعيّة له. الأمَّة العربية بحاجةٍ أيضاً للتمييز بين قدرة العرب على تصحيح انقساماتهم الجغرافية، وبين انقساماتهم التاريخية في الماضي التي ما زال البعض يحملها معه جيلاً بعد جيل، ولا قدرة له أصلاً على تغييرها!
إنّ الإنسان العربي المعاصر هو الآن إنسانٌ تائه يفتقد البوصلة السليمة، فهو لا يعرف إلى أين يسير مستقبله، أو ما هو مصير وطنه وأرضه ومجتمعه. وهذا الشعور بالتّيه يسود معظم شعوب المنطقة العربية، حيث الحاضر مذموم والغد مجهول. لا الوطن هو الوطن المنشود، ولا الغربة هي الوطن البديل!.
ومشكلة البلاد العربية، ودول العالم الإسلامي عموماً، ليست في مواجهة الجهل بمعناه العلمي فقط، بل أيضاً في حال "الجاهلية" التي عادت للعرب والمسلمين بأشكال مختلفة، وعلى مدى قرونٍ من الزمن حيث توقّف فيها الاجتهاد وسادت فيها قيودٌ فكرية وتقاليد وعادات ومفاهيم هي من رواسب عصر "الجاهلية"، وهي مسؤولة بشكل كبير عن حال العرب اليوم.
هنا تكون مسؤولية الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، لا في تحسين مستويات التعليم ومراكز البحث العلمي فقط، بل بالمساهمة أيضاً في وضع أسس لنهضة عربية جديدة، ترفع الأمّة من حال الانحطاط والانقسام والتخلّف إلى عصر ينتهج المنهج العلمي في أموره الحياتية ويعتمد العقل والمعرفة السليمة في فهم الماضي والحاضر، وفي بناء المستقبل، وفي التعامل مع ما يُنشر من فتاوى ومسائل ترتبط بالعقائد الدينية.
لقد أثبتت العقود الأربعة الماضية، أنّ بديل الهُويّة العربية، الحامل للتسميات «الدينية»، لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتّى من اتّجاهٍ سياسيٍّ آخر!
وكما فشل هذا البديل الموصوف بتسمياتٍ دينية، في توحيد شعوب الأمّة العربية، فقد عجز «البديل الوطني» وحده أيضاً عن بناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. إذ لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ غياب الهويّة العربية، وحيث الفهم الخاطئ للدين وللتعدّد الفقهي فيه، ولكيفية العلاقة مع الآخر أيّاً كان.
فتعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة، على المستوى العربي الشامل، كما يستوجب تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي، لكي يتحقق مفهوم "المواطنة" في الوطن الواحد ولكي يتعزّز الولاء الوطني الصحيح.
إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة، تبني النموذج الجيّد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير، لكنّه الأمل الوحيد في مستقبلٍ أفضل يحرّر الأوطان من الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ولا يفتّتها بعد تحريرها، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً عن قصدٍ أو عن غير قصد، لسياساتٍ أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.
*مدير "مركز الحوار" في واشنطن
Sobhi@alhewar.com
فالتداعيات الجارية في أكثر من بلدٍ عربي تحمل مخاطر وهواجس أكثر ممّا هي انطلاقة واضحة نحو مستقبلٍ أفضل. وخطورة هذه المرحلة تزداد حينما نرى هذا الفرز الحاصل الآن لدى العرب بين تيّارين: تيّار اليأس والإحباط وفقدان الثقة بنتيجة أيّ فكر أو أيّ عمل، وآخر انفعالي يحاول التغيير لكنّه فاقدٌ للبوصلة أو المرجعية الصحيحة التي تُرشده لبناء حياةٍ أفضل!.
وهناك الآن حالة "تكيّف" عربي مع ظواهر انقسامية خطيرة تنخر الجسم العربي وتقطع بعض أعضائه، كما هو الحال أيضاً مع واقع التدخّل الأجنبي، بل حتّى على مستوى الحركات السياسية ذات الصبغة الدينية أو القومية، فقد انتقلت شعارات بعضها من عموميات "الأمّة" إلى خصوصيات "المذاهب"، كما انتقل بعض "التيّار الديني" في أساليبه من الدعوة الفكرية إلى العنف المسلّح، وما يجلبه هذا الأسلوب من ويلات لأصحاب هذه الحركات ولأوطانهم وللأمّة معاً.
والأوضاع السائدة الآن في عدّة بلدان عربية، هي أزمات تتجاوز وصف الكوابيس، وليس أيٌّ منها يعصف في دائرته المباشرة فقط، بل أصبحت المنطقة بأسرها ساحةً لها ولانعكاساتها. وهذه الأزمات- الكوابيس بدأت كلّها في أوطان حملت أحلاماً من أجل التغيير والحرّية أولاً، ثم تغيّرت الأحلام ولم يحصل التغيير المنشود حيث تحوّل العنف الداخلي إلى حروب أهلية عربية. فما هو مشتركٌ الآن بين هذه الأوطان أنّها تفتقد للأرض الوطنية الصلبة، وللوحدة الوطنية الشعبية، وللبناء الدستوريّ الصحيح، وللأساليب السليمة في الحكم وفي نهج المعارضة. وسيكون ختام هذه الحروب الأهلية العربية نجاح المشروع الإسرائيلي فقط، حتّى على حساب المشاريع الدولية والإقليمية الأخرى الراهنة للمنطقة.
"لا يصحّ إلاّ الصحيح"، هو قولٌ مأثور يتناقله العرب، جيلاً بعد جيل. لكن واقع حال العرب لا يسير في هذا الاتّجاه، إذ أنّنا نجد، جيلاً بعد جيل، مزيداً من الخطايا والأخطاء تتراكم على شعوب الأمّة العربية، وعلى أوطانها المبعثرة. فهل يعني ذلك أن لا أمل في وصول أوطان العرب إلى أوضاع صحيحة وسليمة؟! أم ربّما ترتبط المشكلة في كيفية التفاصيل وليس في مبدأ هذا القول المأثور! فإحقاق الحق، وما هو الصحيح، يفترض وجود عناصر لم تتوافر بعدُ كلّها في مخاض التغيير الذي تشهده الأمّة العربية. وبعض هذه العناصر هو ذاتي في داخل جسم الأمّة، وبعضها الآخر خارجي، حاول ويحاول دائماً منع تقدّم العرب في الاتجاه الصحيح.
صحيحٌ أنّ للأطراف الخارجية، الدولية والإقليمية، أدواراً مؤثّرة في تأجيج الانقسامات، لكن ماذا عن مسؤولية الذات العربية نفسها عمَّا حدث ويحدث من شرخٍ كبير داخل المجتمعات العربية؟.
ماذا عن مسؤولية المواطن نفسه في أيّ بلد عربي، وعن تلك القوى التي تتحدّث باسم "الجماهير العربية"، وعن المفكّرين والعلماء والإعلامين الذين يُوجّهون عقول "الشارع العربي"؟!.
نعم هو حاضرٌ عربيٌّ سيّء، لكن ماذا بعد وماذا عن المستقبل؟! وهل الحلُّ في السلبية وفي الإحباط وفي الابتعاد عن السياسة وعن أيِّ عملٍ عام؟!. وهل يؤدّي الهروب من المشاكل إلى حلّها؟! وهل سيصلح الإحباطُ واليأس، الأوطانَ والمجتمعات ومستقبل الأجيال القادمة؟!
الحقيقة هي بشكلٍ معاكس، أي أنّ الابتعاد عن السياسة وعن العمل العام سيزيد من تفاقم الأزمات ولن يحلّها، وسيصنع الفراغ لمنتفعين ولمتهوّرين يملأونه بمزيدٍ من السلبيّات، وسيترك الأوطان والمجتمعات فريسةً سهلة للطامعين بها، وسيضع البلدان أمام مخاطر الانشقاق والتمزّق إذا ما انحصر "العمل السياسي" فيها أو النشاط العام على أصحاب المفاهيم والأطر والأساليب الانشقاقية.
كذلك، فإنّ الحلّ ليس طبعاً في مزيدٍ من التهوّر، ولا هو في إشعال الغرائز الانقسامية والانقياد للعنف المسلح، الذي يُدمّر الأوطان ووحدة الشعوب ويخدم دعاة التقسيم والتدويل لأزمات المنطقة. الحلّ أساسه وقف حال الانهيار الحاصل في وحدة المجتمعات وبناء البدائل الوطنية السليمة، على مستوى الحكومات والمجتمع المدني معاً. فشعوبٌ كثيرة مرَّت في ظروف مشابهة لكنّها رفضت "الموت السريري" البطيء، فنهضت من جديد وصحّحت أوضاعها وأرست دعائم مستقبل أجيالها.
وبمقدور الأوطان العربية أن تحقّق خطواتٍ على طريق الأمل بمستقبلٍ أفضل لو وضعت باعتبارها التمييز المطلوب في حركات المعارضة ما بين تغيير الحكومات وبين مخاطر تفكيك الكيانات الوطنية، ثمّ التمييز بين الطائفة أو المذهب، وبين الطائفية والمذهبية. فالحالة الأولى هي ظاهرة طبيعية إنسانية موجودة في أكثر من مجتمع. أمّا الحالة الثانية، فهي ظاهرة مرَضيَّة تؤدّي إلى تفكّك المجتمع وضعفه وانقسامه. كذلك التمييز مطلوبٌ بين الاعتزاز بالوطنية المحليّة، وبين الانعزاليّة الإقليمية التي لا تحقّق أمناً ولا تصنع وطناً قادراً على العيش في عصر العولمة والتكتّلات الكبرى. وكما التمييز مطلوبٌ بين الحرص على الولاء الوطني وبين التقوقع الإقليمي، فإنّ من المهم أيضاً التمييز بين الانفتاح على الخارج وبين التبعيّة له. الأمَّة العربية بحاجةٍ أيضاً للتمييز بين قدرة العرب على تصحيح انقساماتهم الجغرافية، وبين انقساماتهم التاريخية في الماضي التي ما زال البعض يحملها معه جيلاً بعد جيل، ولا قدرة له أصلاً على تغييرها!
إنّ الإنسان العربي المعاصر هو الآن إنسانٌ تائه يفتقد البوصلة السليمة، فهو لا يعرف إلى أين يسير مستقبله، أو ما هو مصير وطنه وأرضه ومجتمعه. وهذا الشعور بالتّيه يسود معظم شعوب المنطقة العربية، حيث الحاضر مذموم والغد مجهول. لا الوطن هو الوطن المنشود، ولا الغربة هي الوطن البديل!.
ومشكلة البلاد العربية، ودول العالم الإسلامي عموماً، ليست في مواجهة الجهل بمعناه العلمي فقط، بل أيضاً في حال "الجاهلية" التي عادت للعرب والمسلمين بأشكال مختلفة، وعلى مدى قرونٍ من الزمن حيث توقّف فيها الاجتهاد وسادت فيها قيودٌ فكرية وتقاليد وعادات ومفاهيم هي من رواسب عصر "الجاهلية"، وهي مسؤولة بشكل كبير عن حال العرب اليوم.
هنا تكون مسؤولية الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، لا في تحسين مستويات التعليم ومراكز البحث العلمي فقط، بل بالمساهمة أيضاً في وضع أسس لنهضة عربية جديدة، ترفع الأمّة من حال الانحطاط والانقسام والتخلّف إلى عصر ينتهج المنهج العلمي في أموره الحياتية ويعتمد العقل والمعرفة السليمة في فهم الماضي والحاضر، وفي بناء المستقبل، وفي التعامل مع ما يُنشر من فتاوى ومسائل ترتبط بالعقائد الدينية.
لقد أثبتت العقود الأربعة الماضية، أنّ بديل الهُويّة العربية، الحامل للتسميات «الدينية»، لم يفتح آفاقاً جديدة في الهويّة أو الانتماء، وإنّما قزَّم الواقع العربي إلى مناطق ومدن وأحياء، فتحوّلت الهويّة الدينية الشمولية إلى هويّة في مواجهة الشريك الآخر في الوطن، إنْ كان من طائفةٍ أخرى أو مذهبٍ آخر، أو حتّى من اتّجاهٍ سياسيٍّ آخر!
وكما فشل هذا البديل الموصوف بتسمياتٍ دينية، في توحيد شعوب الأمّة العربية، فقد عجز «البديل الوطني» وحده أيضاً عن بناء مجتمعٍ تكون الأولويّة فيه للولاء الوطني. إذ لا يمكن بناء أوطان عربية سليمة في ظلِّ غياب الهويّة العربية، وحيث الفهم الخاطئ للدين وللتعدّد الفقهي فيه، ولكيفية العلاقة مع الآخر أيّاً كان.
فتعزيز الهوية الوطنية يتطلّب إعادة الاعتبار من جديد لمفهوم العروبة، على المستوى العربي الشامل، كما يستوجب تحقيق أوضاع دستورية سليمة في كلّ بلد عربي، لكي يتحقق مفهوم "المواطنة" في الوطن الواحد ولكي يتعزّز الولاء الوطني الصحيح.
إنّ ذلك يحتاج حتماً إلى طليعة عربية واعية وفاعلة، تبني النموذج الجيّد لهذه الدعوة العربية المنشودة. ولن يتحقّق ذلك البناء في زمنٍ قصير، لكنّه الأمل الوحيد في مستقبلٍ أفضل يحرّر الأوطان من الاستبداد والفساد والهيمنة الأجنبية، ولا يفتّتها بعد تحريرها، ويصون الشراكة مع المواطن الآخر في الوطن الواحد، فلا يكون مُسهِّلاً عن قصدٍ أو عن غير قصد، لسياساتٍ أجنبية تفرّق بين العرب لتسود عليهم.
*مدير "مركز الحوار" في واشنطن
Sobhi@alhewar.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق