من يقف أمام المجموعة القصصية الموسومة "كناري" للأديب المصري أحمد الخميسي سيستفزه ذلك العنوان الذي لم يكن اختياره اعتباطيا، ونجد دليلا واضحا على ذلك من خلال الكلمة التي كتبتها في البداية الكاتبة نوال مصطفى، والتي اعتبرت هذا الإنجاز القصصي عبارة عن حوار خيالي جمع بين المؤلف وبين عصفوره الكناري فيما يشبه المناجاة بين حبيبين.
كلنا نعلم أن الخطاب القصصي يقوم على أسس جمالية ووظيفية تواصلية، وهذا ما نلمسه في قصص "كناري" بشكل عام، أين ينسج الخميسي سردا قصصيا يربط الواقع بالخيال، وعليه سنتوجه إلى أنموذج جاء تحت عنوان "مظروف" والذي يشير دلاليا إلى شيء مادي قد يكون رسالة ونحوها، كما قد يتسع في معناه ليعني الورقة المطوية المشتملة على رسائل أو غيرها من الوثائق.
إن تجلي دلالة عنوان هذه القصة لا يتوقف عند مستواه السطحي وإنما يتعداه إلى داخل النص، أين جعل منه الكاتب النواة الأولى التي تنبني عليها عملية السرد إجمالا.
تظهر كلمة "مظروف" منذ أول سطر كإضاءة رمزية تساعد القارئ على التغلغل في فكرة النص، وتحثه على متابعة الحدث في محاولة منه ليكتشف ذلك السر الخفي لبطل القصة: "لكن المظروف الأصفر ظل في مكانه نحو أسبوعين حتى غلفته طبقة خفيفة من غبار وفتات خبز ورماد. كان بصره يقع عليه من وقت لآخر، فيقول سآخذه أول مرة أغادر فيها البيت. بم تلهى عنه؟ لا يدري بالضبط." (ص 91).
نشهد حيرة وقلقا يسكن بطل القصة حيال ذلك المظروف، والشيء المثير للانتباه هو اللامبالاة التي عرفتها تلك الاستمارة التي ظلت سجينة في نفس المظروف لأسباب مجهولة، وهذا ما يزيد جو القصة ثراء دلاليا وحلة رمزية تبعث القلق والتفكير أيضا لدى المتلقي.
جاءت المكالمة الهاتفية لتكسر البعد الإيحائي لذلك المظروف، لنصل كقراء لاستنتاج أولي عن حالة البطل التي يسكنها الإحباط بشكل غير مباشر كما نقرأ على لسان السارد: "مرة أخرى تلقى اتصالا هاتفيا بشأن مكافأة نهاية الخدمة، وللحظة وهو يدفع ذراعه بعجل في كم القميص ومض المظروف في خياله ثم انطفأ في لهوجة ارتداء بقية ملابسه، وخرج. تذكره فقط حين رجع وهو أمام الشقة يفتح الباب، فمط شفته السفلى باستسلام." (ص 91).
ومن وحي الظروف الاجتماعية يتضح للبطل أهمية ذلك المظروف الذي ظل سجين النسيان، أين يوحي بانطواء نفسية صاحبه على أسرار الذات وعجزه عن البوح بها: "صباح اليوم فتح باب الثلاجة فلم يجد على أرففها المضاءة ما يؤكل ولا حتى قطعة جبن صغيرة. فقط كانت ثمة طبق صيني واحد على طرفه شريحة طماطم حمراء ضرب العفن الأبيض في حوافها. لا بد من شراء أي شيء. خبز، علبة سردين محفوظ، ليمون، أي شيء. وضع يده على مقبض الباب، منهكا من ثلاث ليال متعاقبة من كوابيس ونوم متقطع وصمت، وشاهد المظروف مرشوقا ونصفه العلوي مدلى لأسفل." (ص 91-92).
يحاول المبدع أحمد الخميسي تأكيد فرضية النظام البيروقراطي السائد في مجتمعنا العربي للأسف الشديد من خلال شخصية بطل هذه القصة، التي قدمها انطلاقا من رؤيته الفكرية الثاقبة كما نقرأ في المقطع الموالي: "تقدم إلى الشباك، لكن الموظف نهض في تلك اللحظة بالذات، وانسحب إلى عمق القاعة الكبيرة وبدا أقصر مما كان في سيره بين الأعمدة الطويلة في القاعة. وتوقف بعيدا قرب خزانات مرتفعة حتى السقف امتلأت رفوفها بسجلات سميكة مرتبة." (ص 92).
كما وقد ركز الخميسي أيضا على فقدان ثقة البطل بنفسه حيال ما فعله ذلك الموظف في مبنى الأحوال المدنية، الذي يسعى كغيره بشكل أو بآخر إلى عرقلة السير الطبيعي لشؤون المواطن العربي كما جاء على لسان السارد: "طال الوقت وشعر بساقيه ترتعشان من الوقفة، فلوح بالمظروف في الهواء ليذكر الموظف بوجوده، ووقعت دورة المظروف المتكررة في مجال رؤية الموظف فحاد ببصره نحو الشباك، ثم عاد إلى عمله وهو يضم أطراف أصابعه، يهزها في الهواء، طالبا منه بالإشارة أن يتريث." (ص 93).
انطلاقا من هذه التجربة التي عاشها البطل، سيدرك القارئ حتما أن الالتزام بأداء المهنة هو الحلقة المفقودة في قصة "مظروف"، وأنه بهذا التصور الذي رسمه الخميسي بدقة لا متناهية بات يعيش المواطن العربي نفس الحالة التي تفتقد إلى إستراتيجية واضحة الملامح من قبل النظام الإداري بشكل عام: "استدار إلى القاعة وخطا حتى توقف أمام الشباك. حدق في العتمة متوقعا أن يبرز مسئول من وراء حاجز أو خزانة حاملا شمعة، إلى أن أيقن أنه وحده في الظلمة والصمت. تلاحقت أنفاسه وهتف بقوة ويأس وغضب: أيعقل هذا؟" (ص 94).
كما نجح القاص في عرض مشاعر بطل قصته بطريقة جعلته يتأرجح في سماء من الوحدة والحيرة والحب الذي لا يجرأ على البوح به كذلك، وكل ذلك جاء بطريقة لا تخلو من المتعة والوضوح: "كان يعبر الجهة المقابلة للشرفة كل يوم ليسترق النظر إلى رأسها ونور اللمبة الأصفر الباهت يتشتت حوله، يخترق العتمة، صبيا عابرا دون أن يجرؤ على رفع بصره نحوها، آملا كل ليلة أن ذلك السكون الهش الرقيق يولد من أجله هو." (ص 93).
على هذا الأساس يكشف الأديب أحمد الخميسي من خلال خلفية قصصية أزمة الفكر الإداري والإيديولوجيا المتبعة في جانب الممارسات الإدارية بشكل عام، والتي تحتاج إلى معالجة فعالة لخدمة المواطن العربي بالدرجة الأولى.
المصدر
(1) أحمد الخميسي: كناري، مؤسسة أخبار اليوم، 2010.
كلنا نعلم أن الخطاب القصصي يقوم على أسس جمالية ووظيفية تواصلية، وهذا ما نلمسه في قصص "كناري" بشكل عام، أين ينسج الخميسي سردا قصصيا يربط الواقع بالخيال، وعليه سنتوجه إلى أنموذج جاء تحت عنوان "مظروف" والذي يشير دلاليا إلى شيء مادي قد يكون رسالة ونحوها، كما قد يتسع في معناه ليعني الورقة المطوية المشتملة على رسائل أو غيرها من الوثائق.
إن تجلي دلالة عنوان هذه القصة لا يتوقف عند مستواه السطحي وإنما يتعداه إلى داخل النص، أين جعل منه الكاتب النواة الأولى التي تنبني عليها عملية السرد إجمالا.
تظهر كلمة "مظروف" منذ أول سطر كإضاءة رمزية تساعد القارئ على التغلغل في فكرة النص، وتحثه على متابعة الحدث في محاولة منه ليكتشف ذلك السر الخفي لبطل القصة: "لكن المظروف الأصفر ظل في مكانه نحو أسبوعين حتى غلفته طبقة خفيفة من غبار وفتات خبز ورماد. كان بصره يقع عليه من وقت لآخر، فيقول سآخذه أول مرة أغادر فيها البيت. بم تلهى عنه؟ لا يدري بالضبط." (ص 91).
نشهد حيرة وقلقا يسكن بطل القصة حيال ذلك المظروف، والشيء المثير للانتباه هو اللامبالاة التي عرفتها تلك الاستمارة التي ظلت سجينة في نفس المظروف لأسباب مجهولة، وهذا ما يزيد جو القصة ثراء دلاليا وحلة رمزية تبعث القلق والتفكير أيضا لدى المتلقي.
جاءت المكالمة الهاتفية لتكسر البعد الإيحائي لذلك المظروف، لنصل كقراء لاستنتاج أولي عن حالة البطل التي يسكنها الإحباط بشكل غير مباشر كما نقرأ على لسان السارد: "مرة أخرى تلقى اتصالا هاتفيا بشأن مكافأة نهاية الخدمة، وللحظة وهو يدفع ذراعه بعجل في كم القميص ومض المظروف في خياله ثم انطفأ في لهوجة ارتداء بقية ملابسه، وخرج. تذكره فقط حين رجع وهو أمام الشقة يفتح الباب، فمط شفته السفلى باستسلام." (ص 91).
ومن وحي الظروف الاجتماعية يتضح للبطل أهمية ذلك المظروف الذي ظل سجين النسيان، أين يوحي بانطواء نفسية صاحبه على أسرار الذات وعجزه عن البوح بها: "صباح اليوم فتح باب الثلاجة فلم يجد على أرففها المضاءة ما يؤكل ولا حتى قطعة جبن صغيرة. فقط كانت ثمة طبق صيني واحد على طرفه شريحة طماطم حمراء ضرب العفن الأبيض في حوافها. لا بد من شراء أي شيء. خبز، علبة سردين محفوظ، ليمون، أي شيء. وضع يده على مقبض الباب، منهكا من ثلاث ليال متعاقبة من كوابيس ونوم متقطع وصمت، وشاهد المظروف مرشوقا ونصفه العلوي مدلى لأسفل." (ص 91-92).
يحاول المبدع أحمد الخميسي تأكيد فرضية النظام البيروقراطي السائد في مجتمعنا العربي للأسف الشديد من خلال شخصية بطل هذه القصة، التي قدمها انطلاقا من رؤيته الفكرية الثاقبة كما نقرأ في المقطع الموالي: "تقدم إلى الشباك، لكن الموظف نهض في تلك اللحظة بالذات، وانسحب إلى عمق القاعة الكبيرة وبدا أقصر مما كان في سيره بين الأعمدة الطويلة في القاعة. وتوقف بعيدا قرب خزانات مرتفعة حتى السقف امتلأت رفوفها بسجلات سميكة مرتبة." (ص 92).
كما وقد ركز الخميسي أيضا على فقدان ثقة البطل بنفسه حيال ما فعله ذلك الموظف في مبنى الأحوال المدنية، الذي يسعى كغيره بشكل أو بآخر إلى عرقلة السير الطبيعي لشؤون المواطن العربي كما جاء على لسان السارد: "طال الوقت وشعر بساقيه ترتعشان من الوقفة، فلوح بالمظروف في الهواء ليذكر الموظف بوجوده، ووقعت دورة المظروف المتكررة في مجال رؤية الموظف فحاد ببصره نحو الشباك، ثم عاد إلى عمله وهو يضم أطراف أصابعه، يهزها في الهواء، طالبا منه بالإشارة أن يتريث." (ص 93).
انطلاقا من هذه التجربة التي عاشها البطل، سيدرك القارئ حتما أن الالتزام بأداء المهنة هو الحلقة المفقودة في قصة "مظروف"، وأنه بهذا التصور الذي رسمه الخميسي بدقة لا متناهية بات يعيش المواطن العربي نفس الحالة التي تفتقد إلى إستراتيجية واضحة الملامح من قبل النظام الإداري بشكل عام: "استدار إلى القاعة وخطا حتى توقف أمام الشباك. حدق في العتمة متوقعا أن يبرز مسئول من وراء حاجز أو خزانة حاملا شمعة، إلى أن أيقن أنه وحده في الظلمة والصمت. تلاحقت أنفاسه وهتف بقوة ويأس وغضب: أيعقل هذا؟" (ص 94).
كما نجح القاص في عرض مشاعر بطل قصته بطريقة جعلته يتأرجح في سماء من الوحدة والحيرة والحب الذي لا يجرأ على البوح به كذلك، وكل ذلك جاء بطريقة لا تخلو من المتعة والوضوح: "كان يعبر الجهة المقابلة للشرفة كل يوم ليسترق النظر إلى رأسها ونور اللمبة الأصفر الباهت يتشتت حوله، يخترق العتمة، صبيا عابرا دون أن يجرؤ على رفع بصره نحوها، آملا كل ليلة أن ذلك السكون الهش الرقيق يولد من أجله هو." (ص 93).
على هذا الأساس يكشف الأديب أحمد الخميسي من خلال خلفية قصصية أزمة الفكر الإداري والإيديولوجيا المتبعة في جانب الممارسات الإدارية بشكل عام، والتي تحتاج إلى معالجة فعالة لخدمة المواطن العربي بالدرجة الأولى.
المصدر
(1) أحمد الخميسي: كناري، مؤسسة أخبار اليوم، 2010.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق