آفة العصر/ هادي حمودة

قد يتصور البعض من عنوان المقال أنني سأتحدث عن موضوع الإرهاب و التطرف، لكن في الحقيقة هو ليس كذلك و إن كان موضوع النطرف و الإرهاب هو أحد ثمار الموضوع الذي سأناقشه معكم بصورة مختصرة.
النسبية المطلقة هنا لا تعني و لا تشير مباشرة إلى النظرية النسبية الشهيرة لأربت أينشتاين، و إنما هي فلسفة و طريقة تفكير لها امتدادات و انعكاسات عميقة على كافة نواحي حياتنا المعاصرة و الحياة التي أصبحت تعرف بعصر "ما بعد الحداثة" على اعتبار أن الحداثة قد استهلكت أو تطورت إلى ما هو أبعد، و قد أوافق على هذا حقا. ببساطة هي فلسفة هدم المسلمات و الجدال عليها و على كافة القيم المطلقة، أو التي كان يفترض أن تكون ثابتة قيميا، فكريا، أخلاقيا، و علميا، ببساطة شديدة هي فلسفة "الا مطلق" و الا- تخصص، و قد أتفق جزئيا مع ذلك المبدأ حقا، فمن الصعب أحيانا أن نجد فكرة، أوقيمة ، أو مبدأ مطلق الخير، أو الشر، و أن ما قد نعتبره شرا قد يكون و حتما قد يكون خيرا بالنسبة للآخرين، و الأمثلة كثيرة، و ما نعتبره خطأ قد يكون صحيح طبقا لمعايير ثقافة أخرى بدءا من أكل لحوم الخنازير مثلا مرورا بالقطط و الكلاب و ما إلى غيرهم، و انتهاءا بأكل لحوم البشر في بعض المجتمعات. و قس على هذا كل شيء في المجال الفني، و الفكري، و العلمي، و ما إلى آخره.
قد أتفق في أحيانا كثيرة مع هذا، فمثلا ارتكاب كبيرة و جريمة القتل شيء فظيع في جميع الأعراف و القيم و الديانات، و القوانين، لكن مثلا و حتى في القوانين الوضعية و البشرية سنجد أن القتل في حالات خاصة أمرا يتراوح ما بين العرضي، و الغير متعمد، بل و الممجد إن كان في حالة الدفاع عن الوطن أو ما إلى غيره، إذا فالقتل بصورة عامة لا يمكن التعامل معه (حتى من المنظور الشرعي للإسلام و العديد من الديانات) بمجمله و بعمومه، و هذا صحيح، و طبعا و كما هو واضح أن موضوعي عن النسبية المطلة هو عن جانبها الأخلاقي، أو النسبية المطلقة الأخلاقية، و التي هي أكثرهم خطورة على الإطلاق، و التي لا يجب أن تعمم بصورة مطلقة، و إنما يجب أن تقيد و تخصص و بشدة طبقا لضوابط محددة قنونيا، و أخلاقيا، و شرعيا. أي من المثال السابق لا يجب أن نتعاطى جريمة القتل بصورة عامة  لتباح، و إلا ستكون النتيجة مطابقة لما نحياه اليوم من حالة فوضى و هتك و سفك مبرر أو نحاول تبريره حتى على مستوى الدول و الأنظمة الحاكمة عالميا.  لكن الأدهى هو عندما ندعي أن القتل العمد ما هو إلا مرض لا يستدعي عقوبة الإعدام و هذا بالضبط ما ينادي به الغرب حاليا على خطى المثلية الجنسية هناك!
للأسف أخذ هذا الفكر في التطور التدريجي في الغرب، و الذي - شإنا أم أبينا- أصبح المصدر الرئيسي للقيم و أساليب الحياة، و أصبحنا إما ممانع، أو مستورد، أو ما بين هذا وذاك،أي حائرين و نريد أن نجد صيغة تصالح بين قيمنا الخاصة و بين موجة ما بعد الحداثة على كافة الأصعدة و دون محاولة انتاج نموذجنا الخاص بنا و الذي يخرجنا من دائرتين تزدادان ضيقا و لا ثالثة لهما، و هما إما حبس الذات في دائرة العصور الوسطى و العصر الذهبي للحضارة الإسلامية، و ثانيتهما دائرة التقليد الأعمى و المباشر لكل ما يأتي من الغرب، و للأسف سنجد البعض حتى ممن يعدون في عالمينا العربي و الإسلامي مفكرون من الوزن الثقيل، لا يعون الكثير عن جوهر الفكر الغربي و انعكاسات الجانب المظلم على المجتماعات الغربية و كيفية تطور تلك الأفكار و الفلسفات و لا عن كيفية تطورها و لا حتى معنى عبارة الثقافة الغربية و كيف نشأت و ماهيتها و إلى أين تتجه. و لذلك سنجد أن أحد كبار مفكرينا لا يعلم لماذا هو مسلم أو مسيحي و لماذا يجب أو لا يجب عليه أن يكون، سنجد من ينادي بالمثلية الجنسية و بحتمية تقبلها كنوع من الحريات التي تصنع تطور الأمم، و سنجدهم يرددون نفس الحجج الغربية المكررة عن الحريات "المطلقة" بل و يعيشون تلك الأكاذيب على الذات بعمق و إخلاص دون أدنى محاولة لتفهم أسباب نبذ تلك العادات، و طبعا لن أتحدث عن ذلك من وجهة نظر دينية و لا يجب علينا في رأيي أن نجادلهم بالدين بصورة فجة و مباشرة لأن العديد ممن يحسب علينا بالعلماء كانوا قد قاموا بالواجب على خير وجه مما دفع العديدين ممن كانوا واعدين إلى التشكك في الفكر الديني، و وجدوا أنفسهم حائرين ليجدوا في فلسفة الغرب المعاصرة و ثقافته و حضارته ما يتخيلوا أنه الصحيح و ما يجب أن يكون، انبهارا بالجانب المادي لثقافتهم.
بعد تطور الأفكار الدارونية و فلسفتها، و بعد أن خطى الغرب خطواته تجاه العلمنة و نبذ الأديان و قيمها بصورة تدريجية و بعد محطات أخرى عديدة و تطور "النظام العلماني الديموقراطي" ، و الفكر الإلحادي - و الذي بات يغزو بلادنا سرا و علنا و علماؤنا الأجلاء مشغولون بمحاربة الفكر المتطرف دون أدنى جهد جادي لمحاربة الفكر الإلحادي بطرق عصرية و بعيدة عن العصبية و التشنج و النصوص التي لا يفهما العديد من خلق الله نظرا لصعوبتها الأكاديمية، أو لتراجع مستوى اللغة العربية في بلادنا و الفضل يرجع لأساليب التعليم الجبارة و الإعلام المتأدب الجبار -  إلى الحد الذي أصبحت الحريات بلا حدود –كذبا و بهتانا- أسلوب الحياة العصري و بعد أن نجح الغرب في تصوير الأمر على أن سر نجاحه الحضاري – و لا أقول الثقافي – هو الحريات المطلقة و مع انطماس مفهومي الحضارة و الثقافة و الفرق بينهما نظرا لاضمحلال مستوى الثقافة العامة، و من حياتي في الغرب أؤكد أن الاضمحلال الثقافي العام هو في الغرب أيضا و لكن لظروف مغايرة لظروفنا و لن أخوض في غمارها، إلا أن الاضمحلال الثقافي لدينا له حجم أكبر و نكهة خاصة، فهو إما انعزالي و رجعي و يريد أن يأخذنا إلى خارج نطاق التاريخ و ساخط، و إما مقلد فاشل و أعمى و سيقودنا حتما إلى الا مكان.
المشكلة باتت خطيرة حقا، ليس لأننا لم نعد نعي الثوابت و حتمية وجود ثوابت أخلاقية و قيمية، و لكن لأننا لم نعد نفهم أسباب كونها ثوابت، و الفضل الأكبر في ذلك يرجع إلى علمائنا الذين فقدوا الإتصال بالأمة منذ زمن بعيد، و انحصروا في إما برامجهم التي تستنسخ بعضها البعض و المملة لجيل ما بعد الحداثة المتعطش للتكنولوجيا و تطبيقاتها و لغتها، و إلى النخبة المثقفة التي تعي ما أقول و لكن لا تحاول أن تأتي بالجديد الجذاب الذي يجابه هذا الانفراط الأخلاقي و القيمي، أو لفشل المنظومة الإعلامية التي لا تعتمد على المفكرين الحقيقيين. لقد فشل علماؤنا و مثقفينا في هذا التحدي و أقول أن أغلب العلماء الذين قطعوا شوطا محمودا في التصدي لكل هذا هم علماء الغرب الذين لا يزالوا بعيدين عن واقعنا على الرغم من أننا نستورد كل ما هو غربي (إلا هذا)! إما كبرا، أو غرورا، أو لا أعرف. و بات حالنا هرج و مرج فالكل يمكنه أن يحلل أو يحرم، و الكل يبرر، و الكل صاحب حجج و طرق و أساليب سواء مؤهل، أو غير مؤهل، و لا أتكلم عن التأهيل الجامعي في عالمنا، و لا حتى المنظومة التعليمية ككل. أصبحت "الريلاتيفيزم" سواء عرفناها أم لم نعرفها، هي طريق الغربيين أو الشرقيين للتحلل و التنصل من كل حد أو مسؤولية تجاه المجتمع، ليحل الفكر الذاتي محل الفكر الجماعي و يعلو على قيم المجتمع و الانتماء إليه، لتتحلل المجتمعات، و لا عجب إن كثرت حالات الطلاق، و العنوسة، و الزنا ( الجنس المجاني دون أدنى مسؤولية)...إلخ
ببساطة ، لكل شيء سبب، و منطق حتى و إن لم تعيه عقولنا لفترة ما، و لكن عدم اكتشاف المنطق، أو السبب لا ينفي وجوده، و هذا من واقع العلم نفسه، فمثلا الجاذبية الأرضية كانت موجودة منذ فجر التاريخ و قبل ظهور الإنسان و بعد ظهوره، و لمدة زادت على العشرة الآف سنة و هي عمر الحضارات البشرية (المكتشفة) دون أي يعيها العقل البشري، حتى اكتشفها نيوتن! أليس كذلك؟ نعم، و هو نفس المبدأ الذي يجب أن نتعلمه و نعلمه للأجيال الجديدة، نعم ناقش، فكر، و ابحث حتى عن الله و ذاته و أسباب التحريم، و تعلم ، ألم يبحث نبي الله إبراهيم عن ربه؟ ألا يعلمنا الله ذلك؟ ناقش بكل وضوح، و ابحث و تعمق، لقد سمح الله تعالى لإبراهيم عليه السلام، و هو أبو الأنبياء، أن يسأله. فتش عنه، حاول أن تعرف سبب إسلامك أو مسيحيتك، أو حتى إلحادك دون ترديد لمقولات سطحية لا تعي معانيها العميقة، أنظر إلى الحياة في الغرب على المضمار الأخلاقي، و النفسي، و القيمي المعاصر، من عدة مصادر غربية لكن من كافة الإتجاهات، حاول أن تعرف لماذا حقا الإسلام هو الدين الحق، أو أيا ما تعتبره حقا حق بحق. ناقش و ابحث، قبل أن تشغل بالك و تجادل على أمور مثل كيفية دخول الحمام و كيفية الخروج منه، أجب على نفسك حقا هل تعرف لماذا أنت مسلم أو مسيحي؟ هل تستطيع أن تقنع نفسك بذلك، أو أحد الملحدين مثلا؟
أضيف إلى ذلك ما يعلمنا القرآن إياه و هو ما يمكن استنباطه بالمنطق البشري الذي يستطيع أن يستدل على الحق و الباطل، ما أود أن أضيفه هنا أيضا هو أن الحق لا يمكن أن يتقارب مع الباطل، حتى و إن صور لنا أنصار النسبية المطلقة غير ذلك عن طريق إلباس معنى كلمة الحق و الحقيقة بكلمة الواقع و هو محاولة لالباس الحق بالباطل كما يقول الله تعالى في محكم أياته :" و يجادل الذين كفروا بالباطل ليضحضوا به الحق"، و لكي أوضح ما أعني سأضرب مثالا بسيطا، و هو كوب الماء النصف ممتلئ، فمنا من سيعتبره طبقا للواقع نصف فارغ، و منا من سيعتبره نصف ممتلئ طبقا للواقع أيضا، و لا أجادل أن الواقع الذي يراه البشر مختلف فعلا و نسبي، لكن الحقيقة هي أن الكوب نصفه ممتلئ بالماء و نصفه الآخر ممتلئ بالغاز أو الهواء، و لا جدال على ذلك، قس على ذلك السياسة المعاصرة، و الحروب و النزاعات، و الاقتصاد، و العلم، و حتى القيم و الأخلاق. فكل منا أصبح يروج للواقع الذي يراه على أنه الحقيقة و التبس الحق بالواقع و أصبح الواقع هو الحق في كل الأحوال.
نحن في حاجة إلى نقاش واسع بين كافة التوجهات الفكرية بل لإعادة تقييم شاملة، دون تعصب أو عصبية، أو حجر أو كبت، نحتاج لتقبل الرأي الآخر و تعلم فنون الرد و الحوار و الإقناع، و هي أمور لا تدرس في بلادنا للأسف. و هل نظر المتغربنين إلى تعداد الغرب المتآكل؟ هل بحثوا في الأسباب بعمق؟ هل ربطوا بين ذلك و بين أسلوب الحياة في الغرب؟ هل فكروا في أن الحرية المطلقة هو أمر مستحيل و أن حدود الحريات (أخلاقيا) مقيد حتى في أكثر الدول حرية و ليبرالية و التي تدعي غير ذلك؟ هل فكر أي مقلد أو مدعي في حقيقة أنه لو نجح في الهجرة إلى إحدى تلك الدول سيكون عليه الخضوع التام لقوانين تلك الدول حتى و إن رآها مجحفة أو غير منطقية؟ هل فكر في إمكانية تغيرها و احتمالات نجاحه؟ هل تابع مجريات الأمور و كيف يتعامل الغرب مع أزمة المهاجرين و التي صنعها بنفسه و هل فكر مفكرينا و لو للحظة في أن كل تلك القيم الأوروبية باتت على المحك؟ هل حددوا و درسوا المشاكل الإجتماعية في الغرب بحق، و عرفوها و عرّفوها قبل التوصل إلى استنتاج نهائي؟ هل يعي العديد من الفريق الآخر معنى كلمة إسلام؟ و من هو المسلم؟ هل فهم حفاظ قرءاننا معاني و تفسير القرآن أم أن حفظه و ترديده كافيان؟ كم منا شغل باله ولو للحظة بتفهم أمور أبعد من دخول الحمام أو الخروج منه باتت تهدد أبنائه و بناته و تهدده هو شخصيا إلا أنه منسجم معها كلية بل و أحيانا ما يبررها – عملا بمبدأ النسبية المطلقة. أمور عن كيفية عمل المصارف، و البورصات، و القروض التي بات غارقا فيها، و ما نظرة الأديان لذلك و للجينوم، و الاستنساخ، و الثقافة المؤسسية، و ما إلى آخره و لماذا و هي الأهم؟ هل تأهل علماؤنا لهذه التحديات، هل و جد صناع قرارنا المؤهلين للتصدي لذلك؟ هل ذهبنا أبعد من أن نقرر ما إن كان هذا الإختراع الذي اخترعه غيرنا حلال أم حرام؟ كم منا انشغل بذلك؟ كارثة حقيقة.
حقيقة بتنا نجادل أمور تسوق الغرب إلى التفسخ و الإنهيار التدريجي، لكن نأبى أن نرى ذلك، و نأبى أن نعمل عقولنا لننقى كل ذلك و نأخذ الحسن منه، بتنا نأبى إعمال عقولنا و بتنا نسعى إلى استعارة نموذج كامل جاهز إما من العصور الوسطى، و إما غربي كامل و مبرر لنوفر على أنفسنا مشقة التفكير و البحث و المخاض الفكري، و الثقافي و الحضاري في كلتا الحالتين، بتنا و لا مكان لنا حتى في عقولنا و نفوسنا مع شديد الأسى و الأسف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق