عندليب الكلمة وقيثارة الشّعر الأستاذ يحيى السِّماويّ كما عرفتُه صديقًا وقرأتُه شاعرًا/ الأب يوسف جزراوي

لا غرو ولا مغالاة إذا قلت: إنّ الشّاعر العراقي يحيى السماوي هو أحد الشّعراء المهمومين بهموم الإنسان. فقد ظلّ مخلصًا لرؤيته الشّعريّة ولأسلوبه الكتابي، فإذا كانت ظروف العراق مذ اربعة عقود إلى يومنا هذا جعلت شّعره مهمومًا ومشغولاً بقضية بلاده والإغتراب، إلّا أنّ هذا لا ينفي القول بإنّ شّاعرنا قد أسس تجربة شّعريّة خلاّقة بملامحٍ إنسانيّة شموليّة، فشّعره شمولي بنكهة كونيّة، يتشرب من روافد فلسفيّة، روحيّة وصوفيّة. ذاته النقية تغوص في كوامن الأعماق، وكلمته تلامس قضايا وجوديّة، يهدف من خلالها خلق حالة من الوعي الإنساني.
للسِّماويّ محبة صادقة وجياشة يودّ بواسطتها أن يطوق بذراعيه جميع أشكال الحياة على هذه الأرض، فلو كان بوسع يده لقطف جميع بتلات القمر واهداها للآخرين لفعلَ،  فهو يسوق خبرته للقارئ، ينصحه بحبٍّ من خلال نصحِ نفسه قائلاً في ديوانه " ثوب من الماء لجسد من الجمر"عَبرَ قصيدته  "أخاف عليَّ مني، ص 5 ":
 "نَدَمي مريرٌ يا صديقي البحرَ
 جئتكَ مُستجيراً حاملاً كَفَني وكافوري
فكنْ تابوتَ أسراري
 وكاهِنيَ الشهيدَ على اعترافاتي
فقد ثَقُلتْ ذنوبي
وأبيع باللاشيءِ أشيائي الطريفةَ والتليدةَ
والبتوليّ الضفافِ
أنا عدوي ياصديقي البحرَ فانقذني
أخافُ عليَّ مني
 لم تزلْ أمّارةً بالحبِّ نفسي
 ليس ليْ أمرٌ عليها في شروقٍ أو غروبِ
 لو كان في صلبي خلاصي
ما خشيتُ من الصليبِ
حاولتُ أنصحها فقلتُ
 كفاكِ يا نفسي من العَسفِ الذي لا قيتِ
والخِلِّ المُريبِ
وأقولُ ليْ الذنبُ ذنبُكَ
 كنتَ تعرفُ أنهُ عصرُ الخطيئةِ والذنوبِ
لِمَ انحَرَفتَ عن الخطيئةِ والذنوبِ ؟
ولِمَ اشتريتَ أنينَ ناعورٍ
بصوتِ العندليبِ؟
فتُجيبني نفسي
لقد حاولتُ نَسْجاً لي قميصاً من زهور قرنفلِ النسيانِ
فاحْتجُّ القرنفلُ صاحَ بيْ
لستُ القرنفلَ لو تنكَّرَ عنفواني للطيوبِ!".

 وفي ظروف عصية عن الفهم يمرّ بها العراق والعالم، فيها القمر ضبابي والعشب أحمر متوحش، نرى صديقنا الأستاذ يحيى السِّماويّ يحمل مفتاحًا لأبواب موصدة بوجه إنساننا المُعاصر، بواسطة قصائد الحبّ التي نشرها، مؤاخيًا فيها بين الجسديِّ والروحيّ، إذ يعمل شّاعرنا العراقي على إثراء الثقافة الإنسانيّة بتوهجه الروحي ووهج عاطفته؛ فقصائده تنتشلك إلى حالةٍ يتماهى فيها الحسيُّ بالمعنويّ ، يُعبّد لك دربًا ينتظرك الحبيب في أوله والله في آخره. فلله درك أيها السِّماويّ وأنت تقف " قاب جنة من الحُبّ في أسمى تجلياته الجسديّة والروحيّة":
" ما دامَ زورقُ مُقلتي
في نهرِكِ الضَّوئِيِّ يرسو
 فالصُّبحُ ميلادٌ جديدٌ للهوى
 والليلُ عُرّسُ
وأنا وأنتِ على نوافِذِ كوخِنا
قمَرٌ وشمسُ
 مُتلازمانِ كما تَلازَمَ في الهوى
 وَتَرٌ وأُنْسُ " ( ص 16).
حقيقةً كم كان بودي لو تدرس هذه القصيدة في المناهج الدراسية للطلاب. فهنا استطاع الشّاعر الإنساني أن يعبر بطريقةٍ فريدة عن حبِّ الإنسان للحياة وللآخر ولله.
بين الألم والأمل تتواجد كلمته الشّعريّة أسيرة الحزن، معتقة بخمرة المحبة، فالمتتبع لشّعر الأستاذ يحيى السِّماويّ، يلحظ أنه يقتنص اللحظة الشّعريّة ليبوح بباطنه؛ فيقول في ص33:
"تضحكُ الدَّمعةُ في عينيَّ
 حين القلبُ يبكي
أأنا الشوكةُ في خاصرةِ الوردِ؟
 أمِ الوردةُ في حُزمةِ شوكِ؟".
 لا يكتب السِّماويّ بحبر القلم، بل بدم القلب، تجربته معجونة بعزلة إبداعيّة، يسابق الزمن ليواكبَ الإبداع، فهو قليل الخروج من المنزل، فحين يسدل الليل ستاره على أرض منفاه، تلقاه منعزلاً لا يحاور أحدًا سوى القمر، يتسامر مع القلم ليسطر تجلياته الشّعريّة، أُسسها مقومات البلاغة العربيّة، في محاولة منه للمساهمة في إضاءة المعتم،  وفي الصباح يرافق الشمس ليعلن حالة مُعانقة قلمه للورق، متأمّلاً جمال الطبيعة الخلاّبة؛ يتزين بزيِّ صفائها وجمالها، يكتب بعيدًا عن مرأى الناس، بأسلوبٍ عميق، رقيق وجذاب، يشدّ القارئ إليه، ليجعله يبحر في رحلة الحرف إلى شواطئ الكلمة الممتعة، فنقرأ في ديوانه السابق الذكر( ص 57- 58) ما يلي :
 "أمسيتُ أسْتجدي الرّمادَ لمَوقِدي
 وغدوتُ أرعى الموحِشاتِ وأحْرِسُ
وحدي وإنْ ضَمَّتْ موائِدُ مُقلتي
صحبي وضَجَّ من الجموعِ المجلِسُ
حَدَّقتُ في المرآةِ مبهورَ الرؤى
 فأنا بغير ملامحي أتفرَّسُ".
الغربةُ كان لها الدور الفعّال في تطعيم تجربة السَّماويّ الشّعريّة بجرح البعد عن وطنه الأم، فهو يكتب من نزيف الذات بعد أن فطمه العراق، لكنه لم ينفطم من حبّه.  غريب بين الغرباء في قارة متنائية، وكسفينةٍ بِلا شراع، يبحث عن شراعٍ، وجهته السماوة للعودة إلى مرابع صباه، يبحر في كلمته وحروفه المِجدَاف ليقفل عائدًا إلى بستانهِ ليجلس على ضفافِ الفرات ويتغنى بمحبوبه العراق:
"طالَ الوقوفُ على ضِفافِ الإنتظارِ
وليس من موجٍ فأطوي خيمتي
وأشدُّ أشرعةَ الإيابِ لأضلعي" ( ص 67).
 تنضح الوطنيّة العاليّة في قصيدته "وطنْ ولكن للصوص"، في الديوان المذكور سلفًا ص 94، فيبدو قلقًا ثائرًا في نقد ساسة بلده، الذين قادوا العراق من القمة إلى القاع، فربّما أن ساسة العراق ما بعد 2003 سمعوا إنّ الوطن غالٍ فباعوه لبعض دول الجوار بوصاية امريكيّة، فقد باعوا الإنسان قبل بيع آثاره وسلب حضارته القديمة قدم الإنسان! وكأنه في هذه القصيدة صوتٌ صارخٌ في بريّة الوطن وأدغال الساسة، أو أراه يرثي بلده الذي اصابه الدمار والجدب والعقم، فيقول:
"ترعى بوادِيهِ الذئابُ
 وتشكي الرَّمَدَ المآقي
لو كان ذا قدَمٍ
فقدْ فرَّ العراقُ من العراقِ!" (ص 95).
 وفي وسط تلاطم امواج هذا العالم المتخبط والمنقسم على نفسه، الذي يشكو الإنسان تصحر القيم فيه، عالم غدا البشر فيه كنبات اللبلاب، يتسلق غدرًا ووصولية؛ حيث استبدلت المحبة إلى النفعية، نرى شّاعرنا يلوح بكلمته إلى تلك الفئة من البشر بقصيدته المفتري :
" كُفّ افتراءَكَ
أنتَ آخرُ مَنْ يحقُّ لهُ التحدثُ 
باسم قيس العامريّ
فليس من طبع السرابْ
إطفاءُ جمر الواحة الظمأى
ونسج العشبِ والأزهار
ثوباً لليبابْ
أنا " يوسفُ" المغدورُ
عندي شاهدايَ: البئرُ والذئب البريءُ
 فأنتَ أخوتُهُ الكِذابْ
بعضُ الخِرافِ أشَرُّ من بعضِ الضّباعِ
فليسَ عُجباً أنَّ عصفوراً يُخبِّئُ تحتَ برقعِ ريشِهِ
 ظُفراً ونابّ
أرأيْتَ كلباً في الوفاءِ
يخونُ أخلاقَ الكلابْ ؟
إن كنتُ كوزاً من نميرِ فضيلةٍ
 فلأنتُ في كتُبِ الرذيلةِ نهرُ عابْ" ( ص 110- 113).
 ولا تغيب المقارنة في هذا الديوان القيم " ثوب من الماء لجسد من الجمر"  بين جحيم الوطن وفردوس أستراليا، فالكلمة في العراق بحاجة لفيزا مرور، يكتبها السِّماويّ من أديلايد عاصمة الجنوب الأسترالي والدمع في عينيّه بحور، يتقيأ أحزانه على شعبه المنحور:
"كالصَّ في حَذرٍ دخلتُ مدائنَ الوطنِ الجريحِ
مُفتِّشاً في زحمةِ الأيامِ عن أمسي القتيلْ
وعن السماوة والفراتِ......" (ص96).
وفي قصيدته " أديلايد...." ص 126 يقول :
" ما قادَني أحَدٌ إليكِ
أتيتُ من تِلقاءِ قلبي
حاملاُ حُزنَ الفراتِ وذلَّ دجلةَ
هارباً من جنةِ الوطنِ الشهيدِ الحيَّ
 والحيَّ الشهيدْ
 أمَلاً بموتٍ
ليس يُشبهُ موتَ أهلي في السماوةِ
أو بميلادٍ جديدْ ".
أخيرًا وليس آخرًا
 إنّ نخلة العراق الباسقة الشّاعر العربي الكبير يحيى السِماويّ، مدرسة إنسانيّة للشّعر، وقاموس لغة بليغ وجميل. تجربته الشّعريّة، سيّما في هذا الديوان " ثوب من الماء لجسد من الجمر"، تبوح بشّاعريّة إنسان أحب الكون، يرى في العالم امتدادًا  لذاته الإنسانيّة.  ولأن الشّعر يلغي الحواجز والأوطان، نلقاه يلفّ العالم بدواوينه كقبطانٍ يحمل مشعل الحرف وبوصلة الكلمة الجميلة، مساهمة منه في إضاءة  الطريق نحو الغد المرتجى؛ فإنّ ذلك الشّاعر الإنسان كان ولم يزل يطمح ليرى مدينته السماوة وبلده العراق، بل العالم أجمع نقيًّا خالصًا وذلك لنقاء سريرته.
الشّعر والمحبة والنقاء، بهذه  الشروط الثلاثة يُبنى الإنسان ويتكامل العالم رائعة الله، لهذا لن يتخلى أستاذنا  السِّماويّ في القادم من الدواوين الشّعريّة عن حروف المحبة وكلمات النقاء، إيمانًا منه بإنّ في لغة المحبة الكونية يكمن الدواء، فالحبّ لا يعرف إلّا الحبّ.
فإلى شّاعر الإنسانيّة الأستاذ يحيى السمِّاويّ عندليب الكلمة وقيثارة الشّعر أقول:
دمت قصيدة تحمل رؤيا شّعريّة باذخة بالحداثة وبالإبداع الإنساني كما عهدناك دومًا، تعجن الحرف وتخبز الكلمة في فرن المحبة الكونيّة، لتطعم الجياع على مائدة الرُقّي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق