الأديبّة نوميديا جرّوفي.... محراب في كلّ روح/ الاب يوسف جزراوي

يضم الكتاب  67 قصيدة نثريّة ،  عبّرت المؤلّفة خلاله عن أصالتها وحبّها الروحي العميق ونظرتها للذات والإنسان، لله وللحياة، برؤية خاصّة، وأسلوب مشوق، وبفلسفة شّعريّة تختلف عن الطرق التقليديّة المألوفة، تستهوي الكثير من هذا الجيل، ليقدموا ما تكنّه أفئدتهم من حبٍّ ومعانٍ.
مجموعة  فخمة وممتعة، سرقتُ الوقت لاطالعها بتروٍ، فهي بمثابة منجم يحتاج إلى أيدٍ أدبيّة تُخرج معادنه النفيسة على طبق شهي للقارئ.
تركت نوميديا الساسة يتناقشون ويتجادلون مع بعضهم، وتركت الحكماء والفهماء يتنافسون على الحكمة، وحاولت هي التسلل مع الحبيب إلى ملكوت الحبّ، وفتحت للقرّاء المجال ليتسللوا معها:
" وعيناي تهربان إلى أرض غريبة
حيث يبتلعهما الماء
وأغمضت عينيك على سرّ
على حلم أخضر
و رغبت عن الكلام ".
حرصت الشّاعرة على حسن اختيار المفردة المُعبّرة عن الارتباط الحميم بربها، وكأني بها متصوفة في زماننا هذا:
"أحببته حب الهوى
 وكل ما به يُهوى.....
أعشق كلّ ما به
-        كيف ذا؟
لا تسألوني
فأنا أراه بعين قلبي الذي
 لمْ يرَ مثله في الكون".

إنَّ مسيرة الإيمان لدى نوميديا هي علاقة شخصيّة بحتة مع الرب، إلهها ليس موجودًا فحسب، بل هو خبرة محبة ورحمة قبل كلّ شيء، لا تتجلى صورته البهية الجلية في الخطبة والموعظة والبحث والمطالعة فقط، بل عَبرَ ارتباط شخصي ولقاء فردي في صومعة القلب، اساسه صوت يدوّي في عمق الأعماق: لا تنسَ أيها الإنسان أنّ لك أبًا في السماء، وأنّ كلّ حياة، حتّى تلك التي تبدو سطحيّة وتافهة، قيمة ثمينة وخالدة، لأن الوجود دعوة إلى  الحبّ والفرح والكمال.

لا تتردد  شّاعرتنا قيد انملة في وصف شّعريّتها بأنها ضاجّة بارهصات الحياة، وتعقد الظروف، ومشروعيّة البحث عن الذات ولقاء الحبيب ومناجاة الله، وسط تراكمات: الخوف، القلق، التشاؤم، فهي " بانوراما" للواعجها وفضاءآتها المضيئة والسوداويّة، تعكسها من خلال نياسم لغتها الشفافة، ولذة التضاد بتعابير تخلق صورًا جميلة تهيمن على القارئ، من خلال تخطي البنية العامة، وجعلها سائبة تقبل التأويل:
" ذات مرة رسمتك على الرمل
قلبا يحاصرني
لك رسمة في حدود الروح
 أحصرها وتحصرني
أما ذاب الرمل؟
أما تبخر البحر؟
أما نطقت أنا؟
أما تنفست وشهقت و عطست؟
لا ترسم على الرمل شخصي
آتيك عدد الرمل
دعوة واحدة و أناديك
وأمشي على الماء و على الهواء
ترسم على الرمل إذن؟
لم الرمل فتنتي و أنا الواقفة في يديك؟
هناك على يمينك وعلى شمالك و بين هواجسك
لحظة اعتراف جارفة
تلك التي نطقت فيك
لغة الشعور
أعرف تلك اللغة التي
لا تعترف بالحروف
لغة تختص بالتشكل و بالحركة و الفعل
على الرمل وعلى الماء وعلى الهواء
ليتك ما رسمت وما شكلت الرمل
كان عليك أن تتشكل لي
أن ترسم طيفك و تنحت في حيزي وجعك
تصقل في ضبابي الفصول
 و تسكب أنهار دفئك
 وثمار مواسمك
لم الرمل ولم الرسم؟
و أنت المرسوم فيّ و المتشكل بلغتي
لم الرسم و أنت الهارب في الروح؟
لم الرسم و أنت الاسم و الفاعل؟
النحو والصرف و الرسم و الفن
كم أحاول رسمك بالصورة و الفكرة و النظرة
كم أحاول رسمك هناك
و عفريت ما يحملك
يرسمك هنــا شكـلا و حركـة !".

يظهر في القصائد أيضًا إستعمال أسلوب المفارقة في الحضور الواعي الشديد مع غياب عنصر الوعي في أحيانٍ أخرى، مشكلاً نزعة جدليّة متحركة مقرونة بخيالٍ شّعري مرهف متأثر بالوجود الإنساني الواضح في الأحداث المرتبطة زمانًا ومكانًا:
"إخترت أن أضع حبلا من الحرير الهندي حول عنق قلبي
قررت أن أمضي عمري بالوقوف تحت بناية قلبك
أنت الشيء و ضده
سعادته و حزنه وألمه و متعته
رحمته و عذابه وجنونه و تعقله
دمعته و ابتسامته
أنت قدرتي على الاستمرار
و عجزي عن البدء".
كما تثير الشّاعرة في قصائدها العديد من التساؤلات في نفوس القرّاء، مستعينة أحيانًا برموز كتابيّة " الملكوت، ليلة القدر، الأبديّة...."، فضلاً عن إبداعات الخالق من المخلوقات والطبيعة " الطيور، الورود، البحر، السماء، الشمس، الشاطئ، الكواكب، النجوم والقمر). ونتاج ثمار الأرض من جماد ونبات.

خاتمة قراءتي
حقيقةً كان هذا السفر القيم رفيقي المصاحب على مدار الأيام الماضية، أشبه شيء بنهرٍ يُطفيء حرائق عالمنا الملتهب. واعترف هنا على الصعيد الشخصي، بإنّ اسهامة الشّاعرة نوميديا بحاجة إلى تسليط أضواء كثيرة في الأوساط الأدبيّة، من أجل تعميق دور هذه الموهبة  الرفيعة في رفع مستوى التذوّق الأدبي لدى القرّاء أينما كانوا، لأنها عقلية إنسانيّة ونزعة ثقافيّة يستظل بها الجميع، تسعى في العطاء الدائم في محاولة للتفرّد وتحريك الساكن .

إلى الأخت والصديقة والأبنة الروحيّة الأديبّة الجزائرية نوميديا جرّوفي أقول: طوبى لمن يُرزَق لأن يكون الإبداع والإمتاع والإصلاح على يده لخير الإنسانيّة، فإنَّ له ملكوت السماء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق