في هذا الجزء الأخير من الجزء الثاني للتحليل و الذي نشرنا جزئيه الأول و الثاني سنقوم بإلقاء الضوء على التالي:
الانعكاسات على السياسة الخارجية لروسيا و العواقب: (حافة الهاوية)
يمكن رصدها من خلال التغيرات التي قد تشكل حجر الزاوية في السياسة الروسية الخارجية و التي بدأت تتجلى أكثر و أكثر من خلال الإعلام الروسي الذي أصبح فعالا في إقناع الغالبية الكبيرة من الروس بأن من يجب أن يلام هو الغرب و الولايات المتحدة الذين ينشرون الشرور في ربوع العالم، و الذين يقفون عائقا أمام الحلم الروسي و حياة الروس الكريمة، و إن كنت أتفق مع ذلك إلى حد كبير جدا إلا أنني أرى شيئا آخر و هو ما لا يقوله الإعلام الروسي، و هو أنه قد أسيء تقدير الموقف الغربي و العربي الخليجي للمشكلتين اللتان سببتا كل هذا، و هما مشكلة ضم إقليم القرم، و الأزمة السورية و اللتان ألما بروسيا، و هذه هي تبعات الأزمة السورية تلقي بظلالها على الإقتصاد الروسي ليس فقط من خلال انخفاظ أسعار النفط، و الضغط على روسيا، و استنفاذ الميزانية في القتال الذي بات لا يعلم أحد متى سينتهي في سوريا و إنما أيضا في تدهور العلاقات الروسية التركية و التي ألقت بظلال قاتمة على الاقتصادي لروسيا. و كنت أرى أن الرد الروسي كان يمكن أن يؤجل لكن هذا يعني أن السياسات الروسية الخارجية أصبحت أكثر صرامة عندما تتعلق الأمور بمركز روسيا الذي تريده الإدارة الروسية، و هذا جد خطير من وجهة نظري، و ذلك لأنني أرى أنه من الواضح جدا أنه كلما ازداد الضغط على الإدارة الروسية، كلما زادت من تمسكها بمشروعها الذي أرى أنهم لم يكونوا مستعدين تمام الاستعداد له على عكس الصين التي كانت و لا تزال في حالة بناء طويل الأجل و متسارع لنفسها مع تقليل اعتمادهم على الغرب على عكس النموذج الروسي الذي فتح البلاد على مصرعيها – لظروف كثيرة يطول شرحها عقبت الانهيارات الاقتصادية في التسعينات و الافلاس – للمستثمر الأجنبي بما أوجد قوة ناعمة للضغط على روسيا مع الوقت و ارتبط اقتصادها في عصبه بالاقتصاد الغربي الدولاري في نخاعه، بينما نجد أن الصين لا تزال أكثر تحفظا في التعامل مع أزمات العالم الداخلية مع تزايد حجم تداخلاتها شيئا فشيئا بما يتناسب مع حجم التطور الذي يحققوه تدريجيا بما يُصَعب مهمة من يريد توجيه ضربة قاضية واحدة للصين كما هو الحال مع روسيا، و بهذا نرصد تزايد حجم الصين شيئا فشيئا إقليميا و دوليا.
و لا أرى أن الغرب سينال مراده من العقوبات الإقتصادية المتثلة في توليد حالة من الغضب الشعبي على الإدارة بما يطيح بها، و ذلك أن غالبية الروس و الإعلام لا يلومان إدارتهما بأي قدر على ما حدث، كما أن شخصية الرئيس الروسي أقوى بكثير من أن تتأثر أو تهتز أو تفقد الهدوء، و أثبتت الأيام أنها شخصية قوية بمواقفها ، و بفن و علم الخطاب العام، و لغة الجسد و إدارة كل ذلك على عكس الكثيرين من المسؤولين الحاليين في الغرب الذين أعدهم من جيل الرفاهية، و لهذا سنجد أن الرئيس الروسي لا يلبث في كل مرة إلا في أخذ زمام المبادرة من الغرب و يفاجئهم بما كانوا يستبعدونه. لذا سنجد أن ما يعول عليه الغرب هو الفئة التي لا تزيد عن 18 % من الشعب الروسي المتمثلة في الشباب الأعلى تعليما و المعارض لأسلوب إدارة الدولة و الحالمين بالنموذج الغربي للديموقراطية و الإصلاحات السياسية لكنهم شرذمة ضعيفة حتى هذه اللحظة و غير شديدة التأثير ومنهم من ينادي بأفكار غربية مثل المثلية الجنسية و ما إلى خلافه و هي أفكار لا تزال مرفوضة من غالبية الشعب الروسي بما يضعف من قدرة تلك الفئة على التواصل و اكتساب الأتباع. أو أن ما يريده الغرب هو ثورة جياع قد تؤتي ثمارها، لكن من خبرتي في الشأن الروسي و الروس، و التاريخ المعاصر لروسيا أستبعد ذلك لأن الروس قد تعودوا على الأزمات و الإفلاسات بصورة لم يعتادها الغربيون أنفسهم، فها هو اقتصادهم الذي أصبح على المحك مرة أخرى كان قد مر بأزمات عديدة منذ مطلع التسعينيات حتى هذه الفترة، أي أن الأجيال التي مرت بهذه الأزمات لاتزال على قيد الحياة و قد وجدوا أنهم خرجوا منها أحياءا و لن يلوموا سوى العالم على ذلك بصورة عامة، و أتوقع أن تنجح الإدارة الروسية هذه المرة في توجيه الغضب الشعبي الروسي إلى الخارج مما قد يكون له أسوء الأثر على العالم و استقراره لأن روسيا دولة نووية تملك أكبر الترسانات النووية في العالم من حيث عدد الرؤوس النووية بما يجعلها قوة لا يستهان بها حتى و إن كانت قوة ليست على قدر الإتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة.
معنى ما أقوله هو أنني أتوقع إن ازدادت الأزمة بما يزيد من صرامة السياسات الخارجية الروسية و التي لا أرى أنها قد تتراجع بعد كل هذا و بعد "خراب مالطا"، بما قد يدفعهم إلى الإنتقام أو رد الاعتبار – كما حدث ذلك مع تركيا – أو تهديد الناتو أو اتخاذ سياسات أكثر صرامة ضد الغرب و هذا ما يحدث رويدا رويدا بالفعل فعلى سبيل المثال قد فرضت روسيا عقوبات مضادة على الشركات الأوروبية و الأمريكية لأول مرة، و تضيق على البعض الآخر، و تدخلت في سوريا عسكريا، و فرضت قيود و تشريعات جديدة تحد من القوة الناعمة للغرب في روسيا مستهدفة مجالات الإعلام و المعلومات خصوصا.
لكن ما أخشاه حقا هو أن تجد روسيا نفسها في وضع يجبرها على عملية اجتياح شاملة لأوكرانيا خاصة لتوجيه ضربة - انتقامية أو إجهاضية أو دفاعية - للمشروع الغربي الساعي لتضييق الخناق على روسيا التي ترفض أن تصبح تابعا للولايات المتحدة و الغرب أو أن تدجن. أو قد تتخذ تدابير عسكرية أكثر شراسة في سوريا ساعية لتقليص النفوذ العسكري المتزايد للغرب هناك حتى و إن كنت أستبعد هذا الاحتمال في الوقت الراهن إلا أني لا أنفي إمكانية حدوثه، خاصة بعد نشر روسيا لصواريخ مضادة للطائرات هناك، بينما كان الغرب يدرس فرض منطقة حظر جوي على سوريا بما سيشكل تضارب في الأساليب و الاستراتيجيات التي يفترض أن تكون موحدة، إلا أنه و بالرغم من الترحيب المعلن من قبل الغرب للتدخل الروسي في سوريا سنجد أن نبرة التصريحات قد تغيرت خاصة الغربية منها، فبعد أن هدأت الضجة التي أعقبت العمليات الإرهابية في باريس سنجد أن فرنسا نفسها أصبحت تنتقد التدخل الروسي و كذا الغرب كله و تصويره على أنه تدخل لضرب جميع فصائل المعارضة المسلحة في سوريا و ليس الإرهابيين فقط، و أخذت حدة التصريحات و تتزايد بشأن استهداف روسيا للمدنيين هناك بما يوضح أن الغرب كان مستاء من التدخل الروسي في سوريا و مساندة نظام الرئيس بشار الأسد، إلا أن روسيا تبدو ثابة في مواقفها بما قطع الطريق على الحلول التي تستبعد وجهة النظر الروسية، و أخذت تفرض الرؤية التي تحد من الرؤية الغربية و العربية النفطية، و هذا ما كنت أتوقعه، فليس بعد أن نزفت روسيا أموالها و أصبح اقتصادها مهدد كانت لترضى بما هو ليس في مصلحتها لرد الاعتبار و تحقيق نصر استراتيجي على الولايات المتحدة، و هنا سنجد أن محاولة الإقصاء السلمي لروسيا قد باءت بالفشل حتى و الأن و سنجد أن روسيا رفضت التعاون االسعودي معها الذي تمثل في مليارات الدولارات التي كانت ستجنيها روسيا من وراء الإستثمارات الروسية في السعودية و السعودية في روسيا في حالة ما إن تخلت عن بشار الأسد و انتهى لقاء وزير الخارجية السعودي مع نظيره الروسي سيرجي لافروف في مطلع هذا العام بصورة ليست بالجيدة لو نذكر منذ عدة شهور، عندما اضطر الوزير السعودي أن يصرح في موسكو نفسها أن بشار الأسد سيرحل سواء سلما أو حربا! و لا أعول على العرض السعودي لروسيا هذه المرة من شهر يوليو من هذا العام.
هذا يذكرني بنفس ما حدث مع الرئيس الراحل صدام حسين في مطلع التسعينيات من القرن الماضي عندما كان الاتحاد السوفيتي يمر بأحلك فتراته قبيل انهياره، عندما دعمت السعودية الإتحاد السوفيتي بمليارات الدولارات التي احتاجها مقابل تخليه عن الرئيس السابق صدام حسين و عدم استخدام حق الفيتو في حالة التصويت على أية قرار دولي يخول التدخل العسكري ضد العراق عقب غزو الكويت و قد كان، إلا أن هذه المرة لم تفلح المحاولة لأن الروس قد يكونوا عازمين على تغيير الصورة التي ظهر عليها الاتحاد السوفيتي في فترات ضعفه و التى تمثلت في تخليه عن حلفائه و تضاؤل قدراته على الساحة الدولية، خاصة إذا ما تيقن الروس من حالة الضعف التي بدأت تدب في جسد الولايات المتحدة منذ عقود اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا، و تصاعد قوى جديدة تريد روسيا أن تكون من عدادها و في عدادها.
هذا كله يتوازى مع تصريحات المسؤولين الروس، و الحالة العالمية و تأكد الروس من أن أوكرنيا ليست بسبب كافيا للأمريكيين لبدء صدام عسكري، و كذا لتأكدهم من أن سوريا ليست بنفس قدر الأهمية (المادية المالية) للغرب كما هي ليبيا، بما يطمئنهم و يشجعهم على رد أكثر صرامة ضد المشروع الأمريكي، خاصة إذا ما أضفنا رغبتهم في اثبات الذات و رد الاعتبار، ناهينا عن شخصية الرئيس بوتين الصلبة القوية، و عن تيقن الإدارة الروسية من أن الهدف الذي سيأتي بعد سوريا هو إيران بما يعني رفع يد روسيا عن الشرق الأوسط تماما بما يضعفها و يزيد من تطويق الغرب لها. و أخشى إن ازداد الضغط الغربي على روسيا أن يضع ليس فقط الاقتصاد الروسي على حافة الهاوية و إنما قد يضع العالم كله على حافة الهاوية لحرب عالمية ثالثة ستكون نووية – في رأيي - في الوقت الذي بات واضحا أن هناك قوى دولية و إقليمية تسعى بوضوح للتخلص من الهيمنة الأمريكية التي باتت لا تطاق حقا، و أتكلم عن الصين، و كوريا الشمالية، وإيران، و كثير من شعوب العالم الإسلامي بجانب الروس. هذا سيعتمد بدرجة كبيرة على رد الفعل الروسي في المستقبل القريب و على خططهم التي أعتقد باتت جاهزة خاصة بعد أن أيقن صناع القرار الروسي أن الانهيار الغربي قادم لا محالة، لكن نتمنى أن تحدث تلك النقلة بصورة هادئة و سلمية.
لا أرجح سيناريو الانسحاب الروسي لأسباب عديدة أهمها، أن الروس لن ينسحبوا بعد أن فقدوا الكثير و إذا لكان من الأجدر أن ينسحبوا قبل هذا بكثير، و بعد رفع ميزانية الدفاع إلى أقصى مستويات لها منذ عقود طويلة لتتضاعف ثلاث أو أربع مرات في ظل أزمة اقتصادية ، إذا فالإشارة باتت واضحة، حتى و إن استخف بها الغرب. كما أن سيناريو الحل الوسط لا يبدو معقولا حتى الآن، فروسيا لا تبدي أي تراجع فيما يخص قضيتي القرم و سوريا، و أصبحت أكثر تشددا في التعامل مع طموح الناتو حولها و في جوارها خاصة و في العالم إلى حد ما، إذا فلن ترضى روسيا في حال الإفلاس بشروط الدائنين، الذين سيفرضون شروط مؤكدا أنها ستمس أزمتي القرم و سوريا، و لأن ستكون القروض فادحة التكاليف من حيث نسبة الفائدة للمخاطر و عدم الإستقرار الذي بات يعاني منه الإقتصاد الروسي... إذا فأين الحل!
بات واضحا لي أننا نسير في اتجاه صراع عالمي كبير أو حرب عالمية ثالثة، و ليس خيالا، أو رجما بالغيب، أو تشاؤما، و إنما هناك العديد من المحلليين الأمريكيين ممن يرون أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل عند اجتياح أمريكا للعراق و ما تلاه من مشاريع تعيد تغيير شكل و نظام العالم الحالي، بدءا من الشرق الأوسط و تصاعد الصين، و كوريا الشمالية في وجه تايوان و اليابان و فيتنام أو التحالف الأمريكي الأسيوي ، إلا أن الحرب العالمية الثالثة لم تصل بعد إلى مستوى كامل و شامل - و هكذا بدأتا الحربان العالميتان الأولى و الثانية تدريجيا حتى تورط الجميع فيهما - و إنما قد تصل إلى درجة الشمول و العالمية التي ستكسبها قدرها العالمي عن جدارة, و أرى أن ذلك بات يلوح في الأفق، و أن نذرها و طبولها باتت تضرب شيئا فشيئا، إلا أنني لا أتفق مع المفكر الأمريكي و مهندس السياسات الذائع الصيت فوكوياما في أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة سيتخلص من الأشرار خاصة المسلمين بالدرجة الأولى له، و الصين و روسيا بالدرجة الأولى لصاحب نظرية رقعة الشطرنج الجيوسياسية الكبرى، لأن القرن الأمريكي آخذ في الزوال، و لأنني أرى أنه لن يكون هناك منتصرا من وراء تلك الحرب التي ستأتي على الكل ليخسرها رابحها لفداحة ثمنها على الكل لأنها ستكون حربا نووية ، و لا أعلم أين نحن من كل هذا، و ماذا أعددنا لهذا، و هل هناك تصور لما قد يحدث! في ظل وجود إسرائيل في قلب العالم العربي كقوة نووية إقليمية و التي هي نتاج هذا النظام العالمي الحالي و الذي سبق و الذي أتوقع انهيار أعمدته بصورة نهائية و أعني الولايات المتحدة و أوروبا الذان يضمنان وجود إسرائيل ككيان على وجه الأرض، و هذا يعرفه المسؤولون الإسرائيليون في أعماق نفوسهم، و أعني أنهم يدركون أن تغير النظام العالمي الحالي ليس في صالحهم، أو أن أي سقوط سريع للغرب لن يأتي بعواقب محمودة عليهم.
إذا بات واضحا أن الأزمتين السورية و الأوكرانية باتتا تمثلان أجندتان مختلفتان لمعسكرين مختلفين يسعى كل واحد منهما لفرض رؤيته على شكل العالم الجديد، و هذا جد خطير و هذا ما يضع العالم على حافة الهاوية التي لا أرى أي سبب لعدم الانزلاق فيها، بينما أرى العديد و العديد من الأسباب لحتمية الانزلاق إليها، لكن هذا موضوع طويل سنحتاج إلى دراسة أخرى لنتحدث عنه.
الانعكاسات على السياسة الخارجية لروسيا و العواقب: (حافة الهاوية)
يمكن رصدها من خلال التغيرات التي قد تشكل حجر الزاوية في السياسة الروسية الخارجية و التي بدأت تتجلى أكثر و أكثر من خلال الإعلام الروسي الذي أصبح فعالا في إقناع الغالبية الكبيرة من الروس بأن من يجب أن يلام هو الغرب و الولايات المتحدة الذين ينشرون الشرور في ربوع العالم، و الذين يقفون عائقا أمام الحلم الروسي و حياة الروس الكريمة، و إن كنت أتفق مع ذلك إلى حد كبير جدا إلا أنني أرى شيئا آخر و هو ما لا يقوله الإعلام الروسي، و هو أنه قد أسيء تقدير الموقف الغربي و العربي الخليجي للمشكلتين اللتان سببتا كل هذا، و هما مشكلة ضم إقليم القرم، و الأزمة السورية و اللتان ألما بروسيا، و هذه هي تبعات الأزمة السورية تلقي بظلالها على الإقتصاد الروسي ليس فقط من خلال انخفاظ أسعار النفط، و الضغط على روسيا، و استنفاذ الميزانية في القتال الذي بات لا يعلم أحد متى سينتهي في سوريا و إنما أيضا في تدهور العلاقات الروسية التركية و التي ألقت بظلال قاتمة على الاقتصادي لروسيا. و كنت أرى أن الرد الروسي كان يمكن أن يؤجل لكن هذا يعني أن السياسات الروسية الخارجية أصبحت أكثر صرامة عندما تتعلق الأمور بمركز روسيا الذي تريده الإدارة الروسية، و هذا جد خطير من وجهة نظري، و ذلك لأنني أرى أنه من الواضح جدا أنه كلما ازداد الضغط على الإدارة الروسية، كلما زادت من تمسكها بمشروعها الذي أرى أنهم لم يكونوا مستعدين تمام الاستعداد له على عكس الصين التي كانت و لا تزال في حالة بناء طويل الأجل و متسارع لنفسها مع تقليل اعتمادهم على الغرب على عكس النموذج الروسي الذي فتح البلاد على مصرعيها – لظروف كثيرة يطول شرحها عقبت الانهيارات الاقتصادية في التسعينات و الافلاس – للمستثمر الأجنبي بما أوجد قوة ناعمة للضغط على روسيا مع الوقت و ارتبط اقتصادها في عصبه بالاقتصاد الغربي الدولاري في نخاعه، بينما نجد أن الصين لا تزال أكثر تحفظا في التعامل مع أزمات العالم الداخلية مع تزايد حجم تداخلاتها شيئا فشيئا بما يتناسب مع حجم التطور الذي يحققوه تدريجيا بما يُصَعب مهمة من يريد توجيه ضربة قاضية واحدة للصين كما هو الحال مع روسيا، و بهذا نرصد تزايد حجم الصين شيئا فشيئا إقليميا و دوليا.
و لا أرى أن الغرب سينال مراده من العقوبات الإقتصادية المتثلة في توليد حالة من الغضب الشعبي على الإدارة بما يطيح بها، و ذلك أن غالبية الروس و الإعلام لا يلومان إدارتهما بأي قدر على ما حدث، كما أن شخصية الرئيس الروسي أقوى بكثير من أن تتأثر أو تهتز أو تفقد الهدوء، و أثبتت الأيام أنها شخصية قوية بمواقفها ، و بفن و علم الخطاب العام، و لغة الجسد و إدارة كل ذلك على عكس الكثيرين من المسؤولين الحاليين في الغرب الذين أعدهم من جيل الرفاهية، و لهذا سنجد أن الرئيس الروسي لا يلبث في كل مرة إلا في أخذ زمام المبادرة من الغرب و يفاجئهم بما كانوا يستبعدونه. لذا سنجد أن ما يعول عليه الغرب هو الفئة التي لا تزيد عن 18 % من الشعب الروسي المتمثلة في الشباب الأعلى تعليما و المعارض لأسلوب إدارة الدولة و الحالمين بالنموذج الغربي للديموقراطية و الإصلاحات السياسية لكنهم شرذمة ضعيفة حتى هذه اللحظة و غير شديدة التأثير ومنهم من ينادي بأفكار غربية مثل المثلية الجنسية و ما إلى خلافه و هي أفكار لا تزال مرفوضة من غالبية الشعب الروسي بما يضعف من قدرة تلك الفئة على التواصل و اكتساب الأتباع. أو أن ما يريده الغرب هو ثورة جياع قد تؤتي ثمارها، لكن من خبرتي في الشأن الروسي و الروس، و التاريخ المعاصر لروسيا أستبعد ذلك لأن الروس قد تعودوا على الأزمات و الإفلاسات بصورة لم يعتادها الغربيون أنفسهم، فها هو اقتصادهم الذي أصبح على المحك مرة أخرى كان قد مر بأزمات عديدة منذ مطلع التسعينيات حتى هذه الفترة، أي أن الأجيال التي مرت بهذه الأزمات لاتزال على قيد الحياة و قد وجدوا أنهم خرجوا منها أحياءا و لن يلوموا سوى العالم على ذلك بصورة عامة، و أتوقع أن تنجح الإدارة الروسية هذه المرة في توجيه الغضب الشعبي الروسي إلى الخارج مما قد يكون له أسوء الأثر على العالم و استقراره لأن روسيا دولة نووية تملك أكبر الترسانات النووية في العالم من حيث عدد الرؤوس النووية بما يجعلها قوة لا يستهان بها حتى و إن كانت قوة ليست على قدر الإتحاد الأوروبي و الولايات المتحدة.
معنى ما أقوله هو أنني أتوقع إن ازدادت الأزمة بما يزيد من صرامة السياسات الخارجية الروسية و التي لا أرى أنها قد تتراجع بعد كل هذا و بعد "خراب مالطا"، بما قد يدفعهم إلى الإنتقام أو رد الاعتبار – كما حدث ذلك مع تركيا – أو تهديد الناتو أو اتخاذ سياسات أكثر صرامة ضد الغرب و هذا ما يحدث رويدا رويدا بالفعل فعلى سبيل المثال قد فرضت روسيا عقوبات مضادة على الشركات الأوروبية و الأمريكية لأول مرة، و تضيق على البعض الآخر، و تدخلت في سوريا عسكريا، و فرضت قيود و تشريعات جديدة تحد من القوة الناعمة للغرب في روسيا مستهدفة مجالات الإعلام و المعلومات خصوصا.
لكن ما أخشاه حقا هو أن تجد روسيا نفسها في وضع يجبرها على عملية اجتياح شاملة لأوكرانيا خاصة لتوجيه ضربة - انتقامية أو إجهاضية أو دفاعية - للمشروع الغربي الساعي لتضييق الخناق على روسيا التي ترفض أن تصبح تابعا للولايات المتحدة و الغرب أو أن تدجن. أو قد تتخذ تدابير عسكرية أكثر شراسة في سوريا ساعية لتقليص النفوذ العسكري المتزايد للغرب هناك حتى و إن كنت أستبعد هذا الاحتمال في الوقت الراهن إلا أني لا أنفي إمكانية حدوثه، خاصة بعد نشر روسيا لصواريخ مضادة للطائرات هناك، بينما كان الغرب يدرس فرض منطقة حظر جوي على سوريا بما سيشكل تضارب في الأساليب و الاستراتيجيات التي يفترض أن تكون موحدة، إلا أنه و بالرغم من الترحيب المعلن من قبل الغرب للتدخل الروسي في سوريا سنجد أن نبرة التصريحات قد تغيرت خاصة الغربية منها، فبعد أن هدأت الضجة التي أعقبت العمليات الإرهابية في باريس سنجد أن فرنسا نفسها أصبحت تنتقد التدخل الروسي و كذا الغرب كله و تصويره على أنه تدخل لضرب جميع فصائل المعارضة المسلحة في سوريا و ليس الإرهابيين فقط، و أخذت حدة التصريحات و تتزايد بشأن استهداف روسيا للمدنيين هناك بما يوضح أن الغرب كان مستاء من التدخل الروسي في سوريا و مساندة نظام الرئيس بشار الأسد، إلا أن روسيا تبدو ثابة في مواقفها بما قطع الطريق على الحلول التي تستبعد وجهة النظر الروسية، و أخذت تفرض الرؤية التي تحد من الرؤية الغربية و العربية النفطية، و هذا ما كنت أتوقعه، فليس بعد أن نزفت روسيا أموالها و أصبح اقتصادها مهدد كانت لترضى بما هو ليس في مصلحتها لرد الاعتبار و تحقيق نصر استراتيجي على الولايات المتحدة، و هنا سنجد أن محاولة الإقصاء السلمي لروسيا قد باءت بالفشل حتى و الأن و سنجد أن روسيا رفضت التعاون االسعودي معها الذي تمثل في مليارات الدولارات التي كانت ستجنيها روسيا من وراء الإستثمارات الروسية في السعودية و السعودية في روسيا في حالة ما إن تخلت عن بشار الأسد و انتهى لقاء وزير الخارجية السعودي مع نظيره الروسي سيرجي لافروف في مطلع هذا العام بصورة ليست بالجيدة لو نذكر منذ عدة شهور، عندما اضطر الوزير السعودي أن يصرح في موسكو نفسها أن بشار الأسد سيرحل سواء سلما أو حربا! و لا أعول على العرض السعودي لروسيا هذه المرة من شهر يوليو من هذا العام.
هذا يذكرني بنفس ما حدث مع الرئيس الراحل صدام حسين في مطلع التسعينيات من القرن الماضي عندما كان الاتحاد السوفيتي يمر بأحلك فتراته قبيل انهياره، عندما دعمت السعودية الإتحاد السوفيتي بمليارات الدولارات التي احتاجها مقابل تخليه عن الرئيس السابق صدام حسين و عدم استخدام حق الفيتو في حالة التصويت على أية قرار دولي يخول التدخل العسكري ضد العراق عقب غزو الكويت و قد كان، إلا أن هذه المرة لم تفلح المحاولة لأن الروس قد يكونوا عازمين على تغيير الصورة التي ظهر عليها الاتحاد السوفيتي في فترات ضعفه و التى تمثلت في تخليه عن حلفائه و تضاؤل قدراته على الساحة الدولية، خاصة إذا ما تيقن الروس من حالة الضعف التي بدأت تدب في جسد الولايات المتحدة منذ عقود اقتصاديا و سياسيا و اجتماعيا، و تصاعد قوى جديدة تريد روسيا أن تكون من عدادها و في عدادها.
هذا كله يتوازى مع تصريحات المسؤولين الروس، و الحالة العالمية و تأكد الروس من أن أوكرنيا ليست بسبب كافيا للأمريكيين لبدء صدام عسكري، و كذا لتأكدهم من أن سوريا ليست بنفس قدر الأهمية (المادية المالية) للغرب كما هي ليبيا، بما يطمئنهم و يشجعهم على رد أكثر صرامة ضد المشروع الأمريكي، خاصة إذا ما أضفنا رغبتهم في اثبات الذات و رد الاعتبار، ناهينا عن شخصية الرئيس بوتين الصلبة القوية، و عن تيقن الإدارة الروسية من أن الهدف الذي سيأتي بعد سوريا هو إيران بما يعني رفع يد روسيا عن الشرق الأوسط تماما بما يضعفها و يزيد من تطويق الغرب لها. و أخشى إن ازداد الضغط الغربي على روسيا أن يضع ليس فقط الاقتصاد الروسي على حافة الهاوية و إنما قد يضع العالم كله على حافة الهاوية لحرب عالمية ثالثة ستكون نووية – في رأيي - في الوقت الذي بات واضحا أن هناك قوى دولية و إقليمية تسعى بوضوح للتخلص من الهيمنة الأمريكية التي باتت لا تطاق حقا، و أتكلم عن الصين، و كوريا الشمالية، وإيران، و كثير من شعوب العالم الإسلامي بجانب الروس. هذا سيعتمد بدرجة كبيرة على رد الفعل الروسي في المستقبل القريب و على خططهم التي أعتقد باتت جاهزة خاصة بعد أن أيقن صناع القرار الروسي أن الانهيار الغربي قادم لا محالة، لكن نتمنى أن تحدث تلك النقلة بصورة هادئة و سلمية.
لا أرجح سيناريو الانسحاب الروسي لأسباب عديدة أهمها، أن الروس لن ينسحبوا بعد أن فقدوا الكثير و إذا لكان من الأجدر أن ينسحبوا قبل هذا بكثير، و بعد رفع ميزانية الدفاع إلى أقصى مستويات لها منذ عقود طويلة لتتضاعف ثلاث أو أربع مرات في ظل أزمة اقتصادية ، إذا فالإشارة باتت واضحة، حتى و إن استخف بها الغرب. كما أن سيناريو الحل الوسط لا يبدو معقولا حتى الآن، فروسيا لا تبدي أي تراجع فيما يخص قضيتي القرم و سوريا، و أصبحت أكثر تشددا في التعامل مع طموح الناتو حولها و في جوارها خاصة و في العالم إلى حد ما، إذا فلن ترضى روسيا في حال الإفلاس بشروط الدائنين، الذين سيفرضون شروط مؤكدا أنها ستمس أزمتي القرم و سوريا، و لأن ستكون القروض فادحة التكاليف من حيث نسبة الفائدة للمخاطر و عدم الإستقرار الذي بات يعاني منه الإقتصاد الروسي... إذا فأين الحل!
بات واضحا لي أننا نسير في اتجاه صراع عالمي كبير أو حرب عالمية ثالثة، و ليس خيالا، أو رجما بالغيب، أو تشاؤما، و إنما هناك العديد من المحلليين الأمريكيين ممن يرون أن الحرب العالمية الثالثة قد بدأت بالفعل عند اجتياح أمريكا للعراق و ما تلاه من مشاريع تعيد تغيير شكل و نظام العالم الحالي، بدءا من الشرق الأوسط و تصاعد الصين، و كوريا الشمالية في وجه تايوان و اليابان و فيتنام أو التحالف الأمريكي الأسيوي ، إلا أن الحرب العالمية الثالثة لم تصل بعد إلى مستوى كامل و شامل - و هكذا بدأتا الحربان العالميتان الأولى و الثانية تدريجيا حتى تورط الجميع فيهما - و إنما قد تصل إلى درجة الشمول و العالمية التي ستكسبها قدرها العالمي عن جدارة, و أرى أن ذلك بات يلوح في الأفق، و أن نذرها و طبولها باتت تضرب شيئا فشيئا، إلا أنني لا أتفق مع المفكر الأمريكي و مهندس السياسات الذائع الصيت فوكوياما في أن الغرب بقيادة الولايات المتحدة سيتخلص من الأشرار خاصة المسلمين بالدرجة الأولى له، و الصين و روسيا بالدرجة الأولى لصاحب نظرية رقعة الشطرنج الجيوسياسية الكبرى، لأن القرن الأمريكي آخذ في الزوال، و لأنني أرى أنه لن يكون هناك منتصرا من وراء تلك الحرب التي ستأتي على الكل ليخسرها رابحها لفداحة ثمنها على الكل لأنها ستكون حربا نووية ، و لا أعلم أين نحن من كل هذا، و ماذا أعددنا لهذا، و هل هناك تصور لما قد يحدث! في ظل وجود إسرائيل في قلب العالم العربي كقوة نووية إقليمية و التي هي نتاج هذا النظام العالمي الحالي و الذي سبق و الذي أتوقع انهيار أعمدته بصورة نهائية و أعني الولايات المتحدة و أوروبا الذان يضمنان وجود إسرائيل ككيان على وجه الأرض، و هذا يعرفه المسؤولون الإسرائيليون في أعماق نفوسهم، و أعني أنهم يدركون أن تغير النظام العالمي الحالي ليس في صالحهم، أو أن أي سقوط سريع للغرب لن يأتي بعواقب محمودة عليهم.
إذا بات واضحا أن الأزمتين السورية و الأوكرانية باتتا تمثلان أجندتان مختلفتان لمعسكرين مختلفين يسعى كل واحد منهما لفرض رؤيته على شكل العالم الجديد، و هذا جد خطير و هذا ما يضع العالم على حافة الهاوية التي لا أرى أي سبب لعدم الانزلاق فيها، بينما أرى العديد و العديد من الأسباب لحتمية الانزلاق إليها، لكن هذا موضوع طويل سنحتاج إلى دراسة أخرى لنتحدث عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق