هوية... وضغط مرتفع/ عبد العالي غالي

أجمل ما كان يمكن ان يثير انتباهي، ويخرجني من حالة الانبهار والاحباط التي جعلتني انزوي في ركن مقهى بجانب المصحة التي ظلت محافظة على اسمها الأوروبي بجانب اسمها الجديد بعد مغربة الأسماء والأطر، والتي اممتها وجهي فما أعطت الاعتبار الا لجيبي، ولعلها أولى حسنات المغربة أن أصبحت القدرة على امتصاص الجيوب بطاقة انتماء لهذا العصر الوضيع... جلست احتسي على غير عادتي فنجان قهوة سوداء بلا سكر، علها تنسيني مرارة ابتزاز طبيب قدرت فيه الرصانة والتجربة الطويلة وهدوء الملامح.... فما كان منه الا ان رد التحية بأحسن منها فطلب مني مبلغا محترما تحت الطاولة بعد أن نال ما طلبه من الصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي، وأديت للمصحة ما قالت عنه "فارق القيمة".... وحتى لا يجرني الكلام ذي الشجون اعود الى أجمل ما أثار انتباهي وهو مشهد أطفال امامي، قدرت أنهم من طينة خاصة، رأيتهم يصطفون بشغب هادئ ليلجوا مدرسة السيدة العذراء بما يحمله الاسم من معاني الطهارة والصفاء وسبيل خلاص للمصطفين من جراثيم الانتماء والهوية التي لا تنفك تغرسها وتعمق جذورها مدارس التعليم العمومي المعوق فتحا وكسرا.... وان كان من عجائب الزمان أن الكل مجمع ان من تلامذتها من تفوقوا في كل ميادين المدارك والمعارف على اقرانهم الذين فضل آباؤهم أن يخبئوهم في مدارس البعثات ومدارس الخمس نجوم الخصوصية... وعذرهم في ذلك أن الأهالي من المدرسين قد تشددوا حبا واشتطوا غيرة حتى اتهموا بجهلهم لأصول التربية الحديثة، وبضعف تكوينهم وهي اتهامات لا تنقصها الوجاهة بالقدر نفسه الذي لا تنقصها الوقاحة....

علمت، بعدما تلصصت سمعا، أن المدرسة قبالتي وقبالة المصحة، قد فتحت أبوابها ليلا لتعليم اللغة الفرنسية بأثمنة ليست رمزية لطينة أخرى من التلاميذ قدرهم دائما أن يتسللوا ليتسلقوا. فما كان مني الا ان هيأت جوارحي وحواسي لاستقبال مشهد اللقاء ‑ الفراق بين مجموعة الطينة الخاصة والطينة الأخرى من بني البشر، فكان مشهدا له جمالية الغرابة والطرافة....

اصطفت عند السادسة مساء سيارات فارهات وامهات يلبسن آخر صيحات الألبسة تنتظرن أبناء وبنات الخاصة... وخلال هنيهات الانتظار القليلة يتم الكلام عن قاعات الرياضات والتجميل وعن أستاذ البيانو والكمان الذي ينتظر الابن او البنية بعد لحظات لدرس في الموسيقى، ولا شك انهن يعنين ذاك الكمان المحمول على الكتف لا ذاك المتربع على الركبة.... ويتواصل الحديث الرطب عن كرة المضرب وملعب الغولف الذي لم يفتح بعد ابوابه.... كل هذا جعلني أسأل نفسي: ماذا يا ترى تركوا للآخرين والأخريات؟ ... لأتذكر انه بقي لنا الكمان المتربع على الركبة والرقص ما أفلح فيه الجسد... هكذا وختم المشهد الدسم بابتسامات ترتسم على وجوه المدرسين الأجانب اذ يودعون أطفال الطينة الخاصة وانفض جمع الأمهات الأنيقات وهن يصحبن أطفالا مبرمجين لا مكان لانفلات في سلوكهم...

وقبلهن طبعا كانت قد تجمعت أمهات بجلاليبهن يصحبن أطفالا منهكين بفعل المشي وازدحام الحافلات... يفترشن عشب الحديقة الأنيقة بعد ان احترمن المسافة بينهن وبين الأخريات... ووسطهن يجلس الأطفال ليتلقوا حصة محترمة من النميمة التي قد تبدأ بالجار السكير الى المطلقة اللعوب... والأطفال قد ألهاهم كل هذا عن اللعب....

وبعد أن يأتي مدرسون انهكتهم القروض وانتظار الترقيات فبحثوا لأنفسهم عن تزكية تعطيهم حق إعطاء دروس للدعم في المدرسة المعلومة فيدخل الأطفال شاهرين وصولات الأداء، لترفع معها الرقابة عن الأمهات فينخرطن في أحاديث بلا تحفظ.... وان كنت لا أدري أي تحفظ بعد كل الذي قيل... وهكذا يخرج الأطفال وقد لقنوا حصة لغة فرنسية أدى الآباء صكوكها لتبدأ رحلة العودة الموغلة في صخب الحافلات وازدحام سيارات الأجرة الكبيرة...

اخرجني من كل هذا رنين الهاتف اذ كانت ممرضة من المصحة على الطرف الآخر تطلب مني بغير قليل من الصرامة الحضور العاجل للتكلف بإحضار ثلاثة أكياس دم من مركز تحاقن الدم، مؤكدة علي ان أحضر معها وصل الأداء لأثبت للمصحة انني قد اديت ثمن الدم كاملا غير منقوص ... مع ضرورة الإسراع لأن المريض موضوع العملية الجراحية الذي هو والدي في حاجة مؤكدة للأكياس الثلاثة قبل خروجه من غرفة العمليات... فوقفت مهرولا ابحث عن شباك اوتوماتيكي اسحب منه ما به اشتري لوالدي دما كثيرا ما تبرعت به ونظمت حملات للتبرع به في بلدتنا المنزوية نسيانا حد القذارة... وطارت بي الذاكرة اللئيمة واللائمة الى آيات قرآنية وأحاديث نبوية كانت موضوع ملصقات تحث المواطنين على التبرع بالدم قبل وصول البعثة الصحية لمركز تحاقن الدم التي أتقنت لغة كلها تبشير للمتبرعين بالجزاء الأوفى في الآخرة مع الشهداء والصديقين وحسن أولئك رفيقا... وقبل ان يرتد اليها طرفها كنت بباب المصحة شاهرا وصل الأداء ومعي أكياس من دم متبرع له مني اصدق الدعوات... أليست الأعمال بالنيات؟؟...

ورغم كل القرف وسوء الأحوال الوجودية الا أنني لم اتلعثم اذ أقول لرفيق وجدته بباب المصحة في انتظاري، وقد جاء كعادته متضامنا في المحن، وهو الذي عرفته بعينين مشعولتين بغد تمنيناه معا ونحن شباب في ساحات الجامعة، نبني وطنا بأحلام ضاربة الجذور في الممكن المستحيل، فما اسعفتنا جهودنا ولا مكر اللئام... أقول له بحزم ما تبقى من حنين زمن التوهج الانساني الذي بدأت أخشى خفوته، أنني ما زلت وسأبقى دائما أومن بوطن هادر رائع لا يموت مهما صنع نعشه من يطربهم زواله... فكان أن أخذنا الحديث ذات الشمال وذات اليسار بحثا عن جواب لسؤال "ما العمل؟" وقد زاد يقيننا أن اليمين يملك ملكات فائقة اللؤم... لنختتم معا تلك الليلة الليلاء تائهين في شوارع المدينة بحثا عما نسد به رمقا ونحن نتذكر معا ذاك الذي علق على باب مرآب يافطة كتب عليها بخط يد متعلم "اصلاح هياكل السيارات والعجلات وأكلة خفيفة" متمنين عليه أن يضيف الصحة والتعليم بين العجلات الأكلة الخفيفة...  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق