عمان هي الجمر والماء/ جواد بولس

دائمًا أحببت أن أزور عمان، فهي عدا عن كونها قريبة إلينا ووصولها يعد نسبيًا سهلًا علينا، أشعرتنا، نحن الفلسطينيين الجليليين الأقحاح، أنها الأقرب لمن حُمّلوا شارة النكبة الكبرى ورقم النحس الأشهر الذي "وسمنا" به الأخوة وأسمونا (عرب ٤٨) بعد أن كنا عندهم عرب إسرائيل حاف!، واستقبلتنا دومًا بإلفة تلقائية ودفء طبيعي لافت ؛ مع دخولنا اليها كنا نذوب مباشرة  بين أهلها ونحس بأمن وأمان.
 عمّان كانت لكثيرين منا بمثابة الرئة التي أعادت لصوتنا إيقاع "العين" في العُرَب. في كل مرّة كنت أغادرها إلى حضن الوطن كان يتملكني، وأنا على ذلك الجسر الخشبي، حنين ورغبة بزيارتها مجددًا لأنني أحببتها ولم يفتش قلبي فيها عن سبب.
وصلتها قبل أسبوع ملبيًا دعوة د. أسعد عبد الرحمن، رئيس منتدى المدارس العصرية ومؤسسة فلسطين الدولية في عمان؛ صديق عرفته منذ منتصف التسعينيات، حين عاد إلى فلسطين مع من عادوا على أجنحة تلك "الأوسلو" التي ما زالت تغرق في بحر الالتباس، وبخلاف كثيرين عرفتهم لم يترك هو للتفاصيل، مهما كانت محزنة أو مخيبة ، قاسية أو مهمة، مجالًا لتحدّ من نشاطه الدؤوب وتمنعه من أن يستمر في مسيرة عطائه وتقديم ما يتيحه صدر عمان وغيرها لصالح قضيته الفلسطينية التي واكب محطاتها في الصدارة منذ الستينيات الأولى، وما زال حتى يومنا هذا .
اخترنا عنوانًا مرنًا لا يقيّدني بأحكام الأكاديمية التي لا أميل إليها منذ آثرت شغب المحاماة على برود النصوص الجاهزة والخطابة الرتيبة، ويتيح لي الخروج عن نص"المفكر" والمشي حافيًا حتى على أرصفة شائكة، فحيث يكون الوجع يكون التحدي أجدى وأنفع.
 "هل الحركة الفلسطينية أمام منزلق خطير"  كان تساؤلنا الذي حاولت معالجته أمام جمهور مميز حضر في  ندوتين متتاليتين، الأولى في قاعة المدارس العصرية، والثانية في النادي الأرتوذكسي.
ما أهون الإجابة على هذا السؤال، يقول المتعجل. فمن يتابع مجريات الأحداث في الأراضي الفلسطينية قد يحسم جوابه بأن القضية الفلسطينية  قد وصلت إلى ما بعد مرحلة المنزلق الخطر، وهي لذلك تواجه سؤال المصير أو: ماذا بقي من مشروع التحرر الوطني في زمن يعيش فيه الاحتلال الإسرائيلي، هكذا يبدو من بعيد وقريب، حقبته الذهبية ويمارس سيادته على الأرض الفلسطينية وأهلها بخفة وسهولة ومن دون مقاومة تذكر أو ثمن يدفعه. وهو يستفيد بالطبع من حالة انقسام فلسطينية داخلية دامية، لا يبدو أن الأطراف معنيون برأبها أو قادرون على ذلك؛  فحركة حماس المستأثرة والحاكمة في قطاع غزة فاقدة لقدرتها على اتخاذ قراراتها باستقلالية، لأنها عمليًا هي جزء من كل، أو حركة أسيرة للحركة الأم، وتخضع لمحاور القوة والدول الشريكة في رسم خوارط الشرق الجديدة، حيث تراجعت مكانة فلسطين فيها ولم تعد قضيتها الوطنية هي الواجهة والصمغ الموحد العربي والإسلامي، على الأقل ليس على مستوى اهتمام معظم الأنظمة اللاعبة في منطقتنا وبين كثير من الشعوب العربية والإسلامية المتشظية لقبائل متناحرة وحمائل متحاربة وملل متصارعة حتى الدم.
من جهة ثانية نجد حركة فتح، وهي الأكبر والأقوى والمرشحة لتكون راعية الوحدة وصانعتها، تعاني من ضعف شديد وتمزقات داخلية كثيرة تحول دون قدرتها على أن تقود عملية إعادة وحدة شطري الوطن المحتل واستعادة وحدة الشعب المنقسم بشكل عمودي خطير وأفقي أخطر . هذا علاوة على ضعف فصائل اليسار الفلسطيني التي فقدت مجتمعة من قوتها بشكل ملموس وكبير حتى كاد دورها يتلاشى أو يصبح هامشيًا بشكل مؤسف ومحزن.
ما أصعب الجواب على هذا التساؤل! يقول المتفكر. فمن يتايع ما يجري في الدول العربية وما آلت إليه أحوالها المتداعية، ومن يقرأ كيف تحولت الجامعة العربية من قلعة أريد لها أن تحمي العروبة وتجمع دولهم في وحدة من شأنها أن تصد عنهم كل شر وبلية، أصبحت عمليًا وكالة تابعة لتأثيرات خارجية وأداة يضرب بها الأخ أخاه في العروبة، ويجلد من خلالها المسلم أخاه المسلم، فلم تعد جامعة ولا عربية.
من يشاهد هذه التطورات الخطيرة المحيقة في فلسطين وبمصالحها الوطنية قد يتوصل، من خلال استقراء البواطن ومقابلة البدائل، إلى نتيجة أن القضية الفلسطينية ، رغم ما خططوا لها، لم تصل إلى نقطة اللاعودة أو إلى ذلك القاع الذي يؤدي إليه ما أسميناه بالمنزلق الخطير، ففي خوابيها ما زال بعض الزيت.
يالمقابل، إذا لم تجر الحركة الفلسطينية الوطنية بكل مركباتها الفصائلية وتلك النخب المستقلة مراجعة جذرية وإعادة حسابات شاملة، فقد ينجح مشروع من خطط لإنهائها  أو على الأقل سينجح بإبقائها تراوح على محاور الدم والوجع وضياع الأمل القريب. فنحن الذين نعيش في فلسطين نعي ونشعر، وعلى الرغم مما سيق أعلاه من تشخيصات صحيحة لضعف الحالة الداخلية الفلسطينية، وهو غيض من فيض، أن  إمكانيات النهوض الوطني الفلسطيني ما زالت واردة، وقد نشهد على ما يدعم هذه الاحتمالية قريبًا ونحن نقترب على بلوغ الاحتلال سن الخمسين.
كان تفاعل السادة الحضور في الندوتين مثريًا ولافتًا. وقد تكون مساهمة السياسي العريق والشخصية الفذة السيد عدنان أبو عودة في الندوة الأولى كاشفًا لما لمسه البعض قاسمًا مشتركًا ظهر بين العديد من المحاورين والسائلين، وذلك حين نبّه في مداخلة قصيرة، إلى غياب عامل " الزمن " في التفكير العربي السائد وخلو الذهنية العربية من أثره وتأثيره، على الرغم من أن السياسة مذ كانت أقرت بان " الزمن يغيّر الأولويات" ، فكيف لقوم لا يكترث لوجود هذا العامل في حياته أن يضع أولوياته النضالية السليمة .
 كل الحاضرين كانوا من داعمي الحق الفلسطيني،  لكنني نجحت بتشخيص محورين بارزين من هذا الجمهور المساند الكريم - رغم أنني كنت في عمان لكنني أفترض أنها حالة قائمة بتفاوت مقاديرها في جميع الدول العربية-  الأول: مجموعة رغم مرونتها في استيعاب الطاريء وتمييزها بين الثابت والمتحول إلا أنها تشكو من نقص في المعلومات الأساسية خاصة بما يتعلق من مستجدات وتغييرات أخذت مجراها في بلادنا منذ كانت فيها إسرائيل بنظر أكثريتهم ليست أكبر من درنة طارئة أو دويلة مزعومة أجزموا في حينه على أن محوها سيكون مهمة هينة، وبين واقع هذه الدولة كما هي عليه الآن؛ فنقص المعلومات بهذه المقادير يحجب عن هؤلاء الداعمين قدراتهم على ممارسة عملية تحليل سليمة وتفكير صحيح واتخاذ المواقف الصائبة التي من شأنها أن تساعد الفلسطينيين على صمودهم ومقاومتهم للاحتلال الإسرائيلي بشكل عملي ناجع ومؤثر .
الفئة الثانية: هي من تلك الأجيال التي عاصرت النكبة والنكسة معًا أو إحداها، وخزنت في نفوسها رفضًا بنيويًا يحول دون خروج أصحابه من معادلات الماضي وقوالبه.  بعضهم يعرفون المستجدات بحذافيرها لكنهم يقاومون بإصرار هو أقرب علميًا إلى كونه حالة إنكار نفسية واضحة يعيشونها مقدّسين ذهنيات "تخثرت" منذ عقود ومقولات حفرت عميقًا في بئر الهزيمة الأولى؛ فمنهم من آمن باشتراكية عظمى رغم سقوطها ما زالوا يستجيرون بها وكأن خروتشوف وجيوشه تخيم على ضفاف النهر، ومنهم من آمن بالوحدة العربية وبالعروبة ماردًا رغم هزيمته ما زالوا يستحضرونه روحًا منقذة على أناشيد محمد سلمان وصحبه من ذلك الزمن الجميل حين كنا ننام ونصحو على "لبيك يا علم العروبة كلنا نحمي الفدا، لبيك واجعل من جماجمنا لعزك سلّما" .
 إنهم يعشقون فلسطين وفلسطين تحبهم كذلك، لكننا نؤكد أن هذه الدولة المارقة، إسرائيل، لن تهزم بالعشق والدعوات وأناشيد الحماسة وبالشعارات الجميلة، فالفلسطينيون الذين يعيشون في ظل أعقاب بنادق الاحتلال الإسرائيلي وموبقات سوائب المستوطنين يعرفون هذه الحقيقة برسم دمائهم المسفوكة وحياتهم البائسة وقهرهم وصمودهم بما يستطيعون إليه سبيلا.
كانت زيارتي لعمان هذه المرة بطعم شهي مختلف. قابلت فيها الأصدقاء والأقرباء الأحباء وأناس يهيمون حبًا ويتفانون بدعمهم لفلسطين الكئيبة. تبادلنا الأحاديث. توافقنا واختلفنا باحترام ومحبة وتقدير، ففي عمان وجدت كل القلوب تأخذك إلى فلسطين.
عدت إلى القدس، وفي صباح اليوم التالي أفقت على نبأ اغتيال الكاتب ناهض حتر. خفت على عمان وهي التي قلت فيها قبل سنوات:
 "في كل مرة أعود إليها تنسيني همومي وتأخذني إلى رصيف الفرح، ففيها لا أكون سائحًا يتوجس صيد الليالي. رحبة تكفي لإيواء الأمل. وديعة كما يشتهي عصفور. عمان أسقتنا حين جفف الأخوة البئر وتركونا فرائس" للصدأ" فإليها نخف كلّما احلولكت ليال وتثاقل عبث". أغضبني هذا القتل.
خفت على فلسطين، فعمان في القلب هي الجمر والماء.
يتبع..     
                   

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق