تبوح السعداوي منذ الصفحات الأولى على لسان الساردة عن صراعها الدائم مع أنوثتها والتي لم تكتشف معالمها إلا مع مرور الوقت، وذلك لارتباط المحكي بالمؤشرات التي نقرأها فيما يلي: "ما هذا الجسم الغريب الذي يفاجئني كل يوم بعار جديد يزيد ضعفي وانكماشي؟! ترى أي شيء آخر سينبت في الغد على جسدي؟ أو ترى أي ظاهرة أخرى جديدة تتفجر عنها أنوثتي الغاشمة!" (ص 8).
واجهت الساردة ما كان يحدث لها من تغير فيزيولوجي بالرفض، حتى أنها كرهت كونها أنثى منذ نعومة أظافرها، لأنها وجدت نفسها تحت حماية جبرية فرضتها عليها والدتها: "وإذا كانت أمي تحبني حبا حقيقيا هدفه سعادتي وليست سعادتها، فلماذا تكون كل أوامرها ورغباتها تتعارض مع راحتي وسعادتي؟! أيمكن أن تحبني وهي تضع السلاسل كل يوم في قدمي وفي يدي وحول رقبتي؟!" (ص 14).
كتاب "مذكرات طبيبة" يرتكز على ذاكرة نوال السعداوي وما تحاول استعادته بما يسمى الشذرات من سيرتها الذاتية التي تفوح بالألم، حيث أنها فضلت التمرد على أنوثتها بعد تفوقها الدراسي لتدخل مجال الطب: "الطب شيء رهيب... رهيب جدا... تنظر إليه أمي وأخي وأبي نظرة احترام وتقديس. سأكون طبيبة إذن... سأتعلم الطب... وسأضع على وجهي نظارة بيضاء لامعة... وسأجعل أصابعي قوية مدببة أمسك بها إبرة طويلة حادة مخيفة..." (ص 22).
يستولي جنون المعرفة على كيان السعداوي لتكتشف أسرار الإنسان، وهذا ما يحفزها على إلغاء تلك الفروق التي رسمتها لها الذكريات بينها وبين أخيها الذكر، كما جاء على لسان الساردة: "أثبت لي العلم أن المرأة كالرجل والرجل كالحيوان... المرأة لها قلب ومخ وأعصاب كالرجل تماما... والحيوان له قلب ومخ وأعصاب كالإنسان تماما... ليست هناك فروق جوهرية بين أحد منهم وإنما هي فروق شكلية تتفق جميعا في الأصل والجوهر." (ص 32).
تتعجب الساردة من تلك القطعة البيضاوية الصغيرة من اللحم والتي جعلت الإنسان جبارا على وجه الأرض، كما نستشف ذلك في المشهد السردي الآتي: "وأمسكت المشرط وقطعت المخ إلى أجزاء... ثم قطعت الأجزاء إلى أجزاء... ونظرت وتحسست وبحثت ولم أجد شيئا... مجرد قطعة من اللحم الناعم التي تذوب تحت أصبعي..." (ص 28).
استطاعت السعداوي حبك الحوادث وجعلتها تتفاعل مع الأمكنة التي مرت بها، حيث انتقلت من المدينة إلى الريف وتركت كل شيء خلفها، لتجد لنفسها مكانا آخر لاستعادة روحها الممزقة: "وتركت الهواء يرفع عني أرديتي... وأحسست في تلك اللحظة أنني ولدت من جديد وولدت معي عاطفتي... ولدت لتوها حقا، ولكنها ولدت عملاقا جبارا يريد أن يعيش ويطالب بحقه في أن يعيش..." (ص 47).
هناك امتداد زمني بين الماضي والحاضر في "مذكرات طبيبة" حيث استعانت السعداوي بتكنيك الاسترجاع، لتعود بالمتلقي بين الحين والآخر لطفولتها وعلاقتها بوالدتها وعائلتها في العموم: "ضاعت طفولتي في صراع ضد أمي وأخي ونفسي... والتهمت كتب العلم والطب مراهقتي وفجر شبابي... وهأنذى الآن طفلة في الخامسة والعشرين من عمرها.. طفلة تريد أن تجري وتلعب وتنطلق وتحب..." (ص 51).
تكشف لنا الساردة عن علاقتها بذلك المهندس الذي زارها يوما في عيادتها، ليشكرها على واجب مهنتها كطبيبة بعدما فحصت والدته، والتي صارحته فور ذلك بموتها: "نفذت كلماته إلى أعماقي الثائرة فهدأتها ودخلت إلى قلبي الحائر فطمأنته... وأحسست أن الصراع الذي كان بيني وبين الرجل يذوب حتى آخر قطرة فيه..." (ص 61).
تبوح لنا البطلة بندمها الشديد لزواجها بذلك المهندس، حتى أنها فكرت في أن الحرية هي خلاصها من ذلك الرجل الضعيف، لكنها سرعان ما تقع في شباك الوحدة لتجد نفسها تبحث من جديد عن الحب، كما نقرأ ذلك على لسان الساردة: "أليس من الضروري أن أبحث عنه بين الرجال؟ وكيف أبحث عنه إذا لم أنتقل هنا وهناك أنظر في وجوه الرجال وعيونهم... وأسمع أصواتهم وأنفاسهم... وألمس أصابعهم وشواربهم... وأكشف عن أعماق قلوبهم وعقولهم؟ هل يمكن لي أن أعرف رجلي في الظلام أو من وراء الشيش أو من على بعد كيلومتر؟" (ص 76).
تمزج السعداوي حكايتها بأسلوب ساخر على عجز العلم للحفاظ على حياة الإنسان بشكل عام، وهذا لحظة توقف قلب تلك المرأة التي وضعت وليدها وماتت أمامها: "هذا الإنسان المغرور الجبار... الذي لا يكف عن الحركة والضجيج والتفكير والابتكار... هذا الإنسان يحمله على الأرض جسد بينه وبين الفناء شعرة رفيعة جدا... إذا قطعت... ولا بد لها أن تقطع... فما قوة في العالم تستطيع أن توصلها..." (ص 40).
قارئ "مذكرات طبيبة" سيعيش حتما لحظة بلحظة تمرد المبدعة نوال السعداوي -كما تشهد على ذلك معظم أعمالها- في وجه مجتمع يرفض فكرة أن تعيش المرأة بدون رجل، لا يخلو من جمالية اللغة البسيطة التي ساعدت البطلة في عملية البوح البادي ما بين ذات الكاتبة/الشخصية ومحيطها.
المصدر
(1) نوال السعداوي: مذكرات طبيبة ، دار المعارف، ط2،1985.
*كاتب وناقد جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق