وجدت نفسي أسير وحيدا. وجوه المارة تمر أمامي كالأشباح. وجوه أكل ملامحها التعب والحاجة. ليست بالضرورة حاجة مادية بل قد تكون معنوية.
أشعر أن روحي تتمزق كلما تذكرت أزمة السكن والبطالة التي تعيشها أسرتي. أبي المقعد وأمي المريضة. أخواتي العوانس. فكرت في الهروب أو بالأحرى بالهجرة السرية. لكن فشلت طبعا. تذكرت صديقا لي قديما يوما ونحن نجلس في مقهى "الحرية". سألني بنبرة لا تخلو من الفضول:
- ماذا يعجبك أكثر وطنك أم بلد الأجانب؟
تملكتني الدهشة. أجبته كطفل بريء:
- أكيد بلد المليون ونصف مليون شهيد..
قال:
- أنت فعلا مجرد طالب مسكين.. بعد سنوات قليلة ستقول عكس ذلك عزيزي..
عدت والتقيت به مرات ومرات. وفي كل مرة يقول لي بثقة كبيرة:
- سأترك هذا البلد الذي يقهر أناسه الأقوياء فئة الضعفاء.. سأحاول ذات يوم ركوب البحر نحو اسبانيا..
كان هذا آخر ما بلغني عنه أنه سافر رفقة مجموعة شباب قرروا المغامرة بحياتهم أملا في فرصة أفضل. انقطعت أخباره لمدة سنتين.
داهمني العطش. دخلت مقهى يكاد يخلو تقريبا من جملة الزبائن كالعاطلين أمثالي. أرفض فكرة دخولي المنزل فارغ اليدين كل يوم. طلبت كوب ماء. حياتي أصبحت جحيما لا يطاق.
إنها الساعة الرابعة مساء. أفواج الطلبة يغادرون الثانوية المقابلة للمقهى. تأملت وجوههم البريئة في زمن لا يرحم. شعلة العلم تكاد تطفئها سياسة التقشف والتقنين الجديدة. كنت دوما متحمسا للعلوم والمعرفة. الآن أرى أن صاحبها تلتهمه أمواج البطالة مع سبق الإصرار والترصد.
للحظة توقفت سيارة من طراز رفيع. تبعت عيوني البائسة صاحبها بفضول. لوح لي بيده. ربما كنت أحلم. لا ليس كذلك. كان ذلك الصديق الذي عاد من المرية المتواجدة بإقليم الأندلس منذ شهر تقريبا. عرفني منذ الوهلة الأولى. مد يده لي بالسلام. جلس إلى جانبي وأردف ضاحكا يقول:
- لا تزال ذلك الطالب المسكين الذي عرفته يوما.. أتزال تحب بلدك؟!
فضلت الصمت. عاد يضحك من جديد:
- لا تزال ساذجا كما عرفتك..
حينها تركته متحججا بتأخر الوقت. مشيت بخطوات متثاقلة وحيدا. أدركت للتو أني بدأت أفهم ما تجاهلت فهمه كطالب علم من قبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق