ماذا سيقول لبنان اليوم للعالم؟/ الدكتور فيليب سالم

يلقي رئيس حكومة لبنان مساء اليوم كلمة لبنان في الدورة الحادية والسبعين للجمعية العمومية للأمم المتحدة. فماذا، يا ترى، سيقول؟ هل سيجرؤ ويقول بصراحته المعهودة "ها انا أقف بينكم ورأسي مطرق خجلاً من أداء حكومتي؟" و"ها أنا اعترف لكم بأن الذين قتلوا بلادي، لم يكونوا أناساً غرباء عنها، بل كانوا أناساً من أهلها. كانوا أمراءَها. أمراء الحرب والطوائف فيها؟". قف يا دولة الرئيس وتمرد على التقليد المتبع. قل لهم إنك لن تتكلم اليوم باسم حكومتك ولا باسم القوى السياسية الممثلة فيها، بل ستتكلم باسم شعب لبنان. فقط، عندما يكون كلامك باسم شعب لبنان، تكون كلمتك كلمة لبنان. عند ذلك سيكونون كلهم آذاناً صاغية اذ ان العالم يعرف لبنان من خلال شعبه لا من خلال سياسييه.

عُد بهم الى الذاكرة، الى ثمانٍ وخمسين سنة مضت. الى الدورة الثالثة عشرة للجمعية العمومية، وفي هذه القاعة بالذات. كان يومها رجل من لبنان يرأس تلك الدورة. وكان الرجل واحداً من صانعي أهم انجازات الأمم المتحدة ألا وهي شرعة حقوق الانسان. من بعده لم تعرف الأمم المتحدة رجلاً دافع عن كرامة الانسان الفرد والحرية الكيانية مثله.
ان ممثلي الدول الاعضاء الذين يصغون اليك اليوم يعرفون شعب لبنان من معرفتهم في التاريخ. لقد قرأوا في الكتب عن صيدا وصور وجبيل وبعلبك. انهم يعرفون هذا التراث المتراكم هنا في أرضنا لآلاف السنين. هذا التراث الذي تعتبره الأمم المتحدة جزءاً مهما من البنية التحتية للحضارة الانسانية. لقد قرأوا عن لبنان في الكتب المقدسة. ومنهم من يعتقد ان الأرض في لبنان فيها شيء من القداسة. فيها شيء من رائحة الرسل والأنبياء.
انهم يعرفون ويحبون شعب لبنان لأنهم يعرفون المنتشرين اللبنانيين ويعرفون ما قدمه هؤلاء للحضارة. لم يكتب جبران لأهله في لبنان وحدهم بل كتب للعالم كله. ولم يكن مبضع مايكل دبغي في خدمة الاميركيين بقدر ما كان في خدمة جميع البشر، ولم يؤسس داني توماس مركز سانت جود لتكون مستشفى لأطفال مدينة ممفيس بل لجميع الأطفال المصابين بالسرطان في العالم. لم يُغنِ شعب في العالم حضارة العالم كما أغناها شعب لبنان. لذا يستحق هذا الشعب ان تصغوا إليه. يستحق هذا الشعب ان توقفوا الحروب عليه. يستحق هذا الشعب ان يعود الى الحياة.
وجئنا لنقول لكم إن الحل في الشرق هو النموذج الفريد الذي صنعه شعب لبنان. نموذج التعددية الحضارية في اطار الحرية والديموقراطية. انه نموذج مغاير للدول التي تحد لبنان من الشرق والشمال كما هو نموذج مغاير للدولة التي تحده من الجنوب. ولذلك فهو مصلوب في الارض. مأساته في جغرافيته. أربعون سنة من الحروب ولا تزال المسيحية في عناق مع الاسلام، ولا تزال حضارة الشرق في عناق مع حضارة الغرب، ولا تزال حضارة العرب في عناق مع حضارات العالم الاخرى. لم تتمكن الحروب من فك هذا العناق. ولم يتمكن أمراء الحرب والطوائف من تدمير هذا النموذج. إن الحروب التي يملأ ضجيجها سماء هذا الشرق هي نتيجة ايدولوجيات ترفض معانقة الآخر. ترفض حضارة الآخر. ترفض وجود الآخر. أتريدون السلام؟ فهذا هو لبنان، ادعموا التعددية الحضارية. أتريدون محاربة الإرهاب؟ فهذا هو لبنان، ادعموا نموذج معانقة الآخر. لقد جئنا لنطلب من الأمم المتحدة ان تعلو بمسؤوليتها من الحفاظ على التراث الى الحفاظ على النموذج.
هذا اللبنان الذي اعطاكم الكثير وهذا اللبنان النموذج الحضاري العظيم، يعيش أياماً صعبة ويمر في أزمة مصيرية تهدد هويته وواجب وجوده. لذا جئنا اليوم نطلب دعمكم لاستصدار قرارين من مجلس الأمن. الأول يتعلق بحل مشكلة اللاجئين السوريين في لبنان والثاني يتعلق بحماية حدود لبنان مع سوريا. يواجه لبنان اليوم تحديات كثيرة لكن أهمها على الاطلاق وجود أكثر من مليون وثماني مئة ألف لاجئ سوري على اراضيه. هذا الوجود لا يهدد أمن لبنان واقتصاده فحسب، بل يهدد أيضاً النموذج الذي تحدثنا عنه. فمشكورة الأمم المتحدة وكل الدول التي تساعد لبنان بتوفير الدعم المالي لهذا الوجود، لكن الحل هو باستصدار قرار من مجلس الأمن لإيجاد مناطق آمنة داخل سوريا يعود اليها جميع اللاجئين السوريين. ان الاتفاق الجديد بين أميركا وروسيا في شأن سوريا يفتح نافذة أمل ويوفر فرصة جديدة لصنع هذا القرار. ان الوجود السوري في لبنان هو مسؤولية دولية كما هو مسؤولية لبنانية؛ فهذا الوجود هو نتيجة لفشل السياسات الدولية في حل النزاع في سوريا، كما هو نتيجة لفشل الحكومة اللبنانية في وضع استراتيجية للدفاع عن سيادة لبنان. أنه لمن العيب ألا نتفق على سياسة تحمي لبنان من تداعيات الحرب في سوريا ولكن العيب الأكبر اننا أعطينا هذا الفشل اسماً تمويهيا. لقد سميناه سياسة النأي بالنفس. ولماذا يا دولة الرئيس لا تقول "نحن نعرف ان الموقف الرسمي للأمم المتحدة اليوم هو مساعدة النازحين السوريين حيث هم. هذا موقف انساني لكنه لا يؤسس لحل. لذا نريد من الامم المتحدة موقفاً حاسماً لمساعدتهم على العودة الى بلادهم". وقل لهم أيضاً "إن شعب لبنان لا يقول لا فقط للتوطين، بل يقول أيضاً لا لاقتراح توزيع اللاجئين لان هذا الاقتراح قد يعني توطين بعض اللاجئين، ويقول لا لما تقترحه الادارة الاميركية على لبنان بالسماح للاجئين السوريين بمزاولة الاعمال بصورة قانونية والعيش في شكل طبيعي. ان شعب لبنان يرفض أي حل لا يؤمن إعادة اللاجئين، كل اللاجئين، الى بلادهم". هذا لسيادتنا. هذا لكرامتهم.
والمشكلة الثانية هي ضمان أمن الحدود بين لبنان وسوريا. كانت هذه الحدود ولا تزال مصدر تهديد دائم لسيادة لبنان ولاستقراره. وأما اليوم فقد اصبحت هذه الحدود، حدوداً بيننا وبين الارهاب. ان الجيش اللبناني يقوم بعمل رائع على الحدود الا ان الجيش وحده هناك لا يكفي. نريد استصدار قرار ثان من مجلس الأمن بنشر قوات دولية على طول الحدود اللبنانية - السورية. ولكن بينما يعمل الجيش اللبناني لمساندة القوات الدولية على الحدود بيننا وبين اسرائيل بموجب القرار 1701، نريد في القرار الجديد أن تعمل القوات الدولية لمساندة الجيش اللبناني.
نحن نعرف الصعوبات والعوائق للوصول الى هذين القرارين. ان القرارات التاريخية والمفصلية صعبة ومؤلمة وتحتاج الى نفس طويل واصرار على المثابرة، ولكن من يخاف الفشل لا يمكنه صنع النجاح. على الديبلوماسية اللبنانية ان تخرج الى العالم الواسع. وفي رأينا ان الديبلوماسية ليست فن الممكن كما يعتقد الكثيرون، انها فن جعل ما هو غير ممكن اليوم ممكناً غداً. لقد اتكلنا على الله كثيراً وسئم الله اتكالنا عليه. ان الله لن يكون معنا إلّا اذا كنا نحن مع أنفسنا. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق