لـــــذة المحــــاولـة/ صبحـه بغـوره

كان يصنع مشهدا للجنون بمشهد أخر مجنون أو ربما كان يريد أن يكون هو الجنون بذاته ، عندما أغلق عينيه هاجمته تخمة الأفكار المتتالية، أسئلة كثيرة تستفزه، تتعبه ، يتأمل غرفته مرارا و تكرارا ، غرفته المسكونة بأشباح عواطفه والمؤثثة بمن سبقوه ،إنها تحوي أقدم خزانة عرفها تاريخ البشرية فيها صورة لأمه وبقايا من رذاذ الشاي، يحز في نفسه أن يراها تهوي يوما من شدة قدمها . هنا تقبع أطيافهم وتعزف لحنا حزينا يسايره ضوء الشمعة  أشلاء حروف متناثرة على بقايا الكلمة ، كلمة تفاصيلها كبيرة وحرة طليقة كانت في كل مكان بل كانت هي المكان ، آه.. متى سأكبر وأصبح صحفيا مرموقا؟ قلب صفحات الجريدة التي يكتب فيها عموده الأسبوعي الذي لا يكفيه عائده لكي يمني نفسه بحياة الرفاهية، عاد مرة ثانية إلى ساحل العذاب والإلهام وغطس هو وعيناه في  الشاطئ الممنوع ،كانت الرحلة في الحلم طويلة وجميلة، لكن أحداثها متتالية ولامتناهية ، تراه مرة داعية يتقرب إلى الله معترفا بأخطائه،ومرة أخرى معلما يصنع من نفسه نموذجا يختصر تجارب الحياة،وأخرى فيلسوفا يصل إلى قناعات جديدة عن الحياة والتي ليست إلا ثرثرة خفافيش تخاف من المواجهة ولا تظهر إلا في الظلام ، ضرب على الطاولة ضجرا من ما حوله قائلا لنفسه :  " أنه مجرد درس واحد لا ينسى سيعلمك الجرأة على أن تصرخ بأعلى صوتك ، لا ..لا للألم ، لا للعجز إن شكك الدائم في قدراتك أقعدك عن العمل ،لا للكسل الذي خدعك وأسلمك إلى الأماني الجميلة، وبدل أن تجتهد و تكتشف سر الحياة صرت إنسانا متواكلا لا ينفع غيره ولا نفسه "  ينبعث ضجيج عارم من دار خالته مريم يفضح هدوئه المصطنع ويبعثر أفكاره بل جعله يتخلص من أنانيته وينصت للآخرين كان قبل هذا منهزما في كل الأحوال  زحمة الأفكار تحاصر أنفاسه المتوهجة و تسيطر على أحاسيسه، يصنع الخنجر من دمه و ينسل منه عند غفلته لكن الفشل يدرك كل طعنة تخترق ذاكرته ، يؤنسه نباح الكلاب وعواء الذئاب حين تختفي النجوم ، نشوة الوحدة هي رعشته الأولى ، إنها أفكار رزع و خبط تصيب الرأس بالصداع و الروح بالضيق بدلا من أن تكون وسيلة لسكينة النفس وهدوء الأعصاب ، يقوم بواجباته المهنية بانتظام، يصل إلى مقر عمله غالبا قبل مرؤوسيه وينصرف بعدهم ، لديه من البصمات الشخصية ما يمكنه من القدرة على تجاوز الروتين واتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب وتحمل مسؤوليات قراراته،  تنهد وهو يردد شعر إيليا أبو ماضي :ا
             أيها الشاكي وما بك داء           كن جميلا ترى الوجود جميلا 
صمت وعاد يردد وهو يلوح بقلمه يمينا و يسارا كيف يرى الوجود جميلا وهو منذ زمن يسابق  أثار أقدامه المغمورة في الرمال ويحاول اجتياز خطواته، ترسل الشمس أشعتها فتحوي وتغازل أهدابه ويكسو جسمه الدفء المعتاد منها ، مشى بضع خطوات تأمل الكون من حوله وأعجبه موقع بلاده على الخريطة ، تساءل هامسا أن كان بإمكانه اختصار الأبعاد، ما أجمل أن يحلم وهما جميلا ويصنع له طريقا مختصرة من الممكن في بحر المستحيل ، أنانية هي الكلمات، كل واحدة تريد أن تأخذ لها موقعا استراتيجيا في الصفحة وتتفق مع الجملة على أحداث انقلاب ضد اللغة ، صمت قليلا وهو يتأفف من رطوبة غرفته التي تبتره برائحتها الجريئة، يطل عليه من غار بالحائط فأر أجرب، يبتسم في وجهه ، همه الوحيد كسب صداقته رغم أنه يبالغ في تدليل قطه ، فجأة يلمع البرق ويقصف الرعد فتهتز أركان الغرفة ، كل شيء يرقص في مكانه ثم ما لبث أن سقط على أرض قاسية ويتفتت ، صورة أمه وهي محمومة ، كأس البطولة المصنوع من الألومنيوم والذي اتخذه أخوه رمز الأمجاد المزيفة ، صحن جدته المصنوع من الفخار ، إبريق الشاي ، وحدها الخزانة بقيت صامدة في وجه الزمن المنصهر بذاكرتها المفجعة وشموخها المائل أمامه تقاوم ما أعقب الهزة من ارتدادات متوالية شديدة، وبعد سنين طويلة هبت نسمة باردة ضربت نخاعه الشوكي فأحدثت فيه فجوة عميقة ثم مضت حاملة معها فتات الأشياء ، وهكذا انهار الصمود  فهوت الخزانة بشدة وتناثر ما كان بداخلها ،انتبه إلى ارتطامها بالأرض وفزع من الضجة العارمة وحينها علم أنه استفاق من وهم محاولة كانت فيها كل متعته . 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق