فاجأتني طالبة الدكتوراه الكويتية المبتعثة إلى الولايات المتحدة سارة المطيري، والتي تعد حاليا رسالة حول علاقات دول مجلس التعاون الخليجي الست مع الصين بسؤال، ضمن أسئلة كثيرة أخرى، حول مدى إستعداد بلداننا الخليجية للإستفادة القصوى من مشروع طريق الحرير الذي أطلقته بكين في عام 2013 تحت إسم مبادرة "حزام واحد ،طريق واحد" بهدف السماح لمنشآتها وشركاتها العامة والخاصة بالإستثمار والعمل في 65 دولة في آسيا الوسطى وأوروبا والشرق الأوسط من تلك الواقعة على هذا المسار، بل وأسست لهذ الغرض "صندوق الحرير" برأسمال 40 بليون دولار، إضافة إلى تأسيسها للبنك الآسيوي للإستثمار برأسمال 500 بليون دولار، دفعت منه مائة بليون وذلك للإنفاق على المبادرة.
وبطبيعة الحال فإن إجابتي كانت مقتضبة لأن دول الخليج، على الرغم من ترحيبها بالمبادرة ومساهمة بعضها في رأسمال البنك المشار إليه، لاتزال مترددة في الاستفادة القصوى منها، بل لا توجد لديها رؤية إقتصادية واضحة للتعامل مع بكين، علما بأن فوائد اقتصادية وجيوسياسية جمة تنتظرها إذا ما هيأت نفسها للإنخراط الجدي في المبادرة الصينية، خصوصا وأنها تمتلك مميزات قد لا تتوفر للدول الأخرى التي تستهدفها هذه المبادرة. فهي مثلا أكبر مصدر للطاقة في العالم، وتملك موقعا جغرافيا مهما على مسار الطريق، وهي الأقل من جهة المخاطر التشغيلية بسبب إستتباب أوضاعها الداخلية، ناهيك عن إمتلاك بعضها للمناطق الاقتصادية الحرة الضرورية للمبادرة، ووجود إستثمارات متبادلة بينها وبين الصين منذ أعوام في قطاعات الطاقة والاتصالات والانشاءات وغيرها، ووجود الآلاف من طلبتها في الجامعات والمعاهد الصينية، وهذا طبعا يجسد جزءا من المشهد الثقافي للمبادرة.
فإذا ما علمنا أن المبادرة الصينية تسعى إلى: إقامة البنى التحتية من طرق وشبكات اتصال وخطوط كهرباء ومرافق خدمية وأمنية على طول الطريق وربطها مع بعضها البعض، وخلق بيئة جديدة للإستثمار والسياحة والتجارة الدولية والاقليمية خالية من الحواجز، وتعميق التعاون المالي من أجل بناء نظام مستقر للنقد والصرف والتحويلات، وربط شعوب الدول الواقعة على الطريق بمصالح وروابط نفعية مشتركة، والتصدي لأعمال القرصنة على الجانب البحري للطريق من أجل استتباب أمن الممرات المائية الناقلة للمبادلات التجارية. وإذا ما علمنا أيضا أن هذه الأهداف كفيلة بخلق الآلاف من فرص العمل، وتنمية المجتمعات، وإزدهار المدن الواقعة على الطريق، فإن دول الخليج سوف تجني الكثير، خصوصا في ظل ما تتعرض له حاليا أو مستقبلا من تهديدات، وما تواجهه من صعوبات إقتصادية، وما تعانيه علاقاتها مع حلفائها التقليديين من هواجس، وما يسود أوساط شبابها من بطالة، وما تسعى إليه من تنويع في مصادر الدخل.
والحقيقة التي لا بد أن نستوعبها في هذا السياق هي أن الصين، مثلها مثل القوى الدولية الأخرى، لاتطرح مبادرات ضخمة من هذا النوع إلا ورائدها هو مصلحتها الخاصة. بل أن الصينيين، فيما يتعلق بهذه الجزئية تحديدا، أثبتوا في العديد من المنعطفات أن مصالحهم هي فوق كل إعتبار، وأن مصلحة الطرف الشريك لا أهمية لها عندهم. ومن هنا يمكن القول إن مشروع إحياء طريق الحرير(تأسس في عام 1877 ولعب دورا في إزدهار الحضارات الصينية والهندية والمصرية والرومانية القديمة) هدفه الأساسي هو أن تلعب الصين دورا أكثر تأثيرا في إستراتيجيات العالم بما يتوافق مع صعودها الاقتصادي المذهل، ويعيد إليها أمجادها الغابرة يوم أن سيرت القوافل التجارية إلى العالم لتسويق الحرير الذي اكتشفته حوالي سنة 3000 قبل الميلاد. إذ أن حضورها في المنطقة التي يمر بها الطريق، وهي منطقة واسعة تقع بين بحر قزوين والخليج العربي والبحرين الاحمر والابيض، وتتميز بمواردها الاقتصادية الضخمة وممراتها التجارية الاستراتيجية سوف يحقق لها ذلك.
غير أن هذه الحقيقة يجب ألا تحبطنا. فبقدر من الدهاء والسياسة يمكننا تطويع الاهداف الصينية بطريقة تفيد دولنا أيضا. فمثلا بالامكان إقناع الصينيين بالإستثمار في مشاريعنا غير النفطية (مثل مشاريع التكنولوجيات الجديدة والطاقة المتجددة والتصنيع الحربي وتطوير القدرات البشرية والنقل الحديدي والشحن البحري والاقمار الصناعية) مقابل تزويدهم بالنفط والغاز والبتروكيماويات.
ومن جهة أخرى، بإمكاننا أيضا إقناع الصينيين بالضغط على شريكهم الإيراني للحد من تطرفه وإرهابه مقابل السماح له بلعب دور أكبر في منظمة شنغهاي للتعاون الإقليمي، والإستفادة من مشاريع طريق الحرير، ولاسيما مشروع بناء خط أنابيب النفط المقترح من كازاخستان عبر تركمانستان وصولا إلى إيران. ولعل ما يصب في صالحنا ولا يصب في صالح طهران هو أن مبادرة طريق الحرير معنية أساسا بإزدهار وصعود مدن جديدة على خط الحرير مثل دبي وأبوظبي والدوحة وجدة والقاهرة ومومباي وكراتشي وشنغهاي، تاركة خلفها مدن إستراحة القوافل القديمة مثل مدن بلاد فارس والشام واليمن وما بين النهرين.
وأخيرا فإن على دول الخليج ألا تنصاع للضغوط الأمريكية التي قد ترى في هذه المبادرة مساسا بمصالحها في المنطقة وفرصة للصينيين لمد نفوذهم العالمي إليها. فالمبادرة إذا ما تحققت بالشكل المأمول كفيلة بخلق واقع جديد يموج بفرص العمل والتنمية والازدهار، وبمراكز الأموال والأفكار والصناعات والأعمال، وبالتالي قطع دابر الإحباط المؤدي إلى التطرف والإرهاب الذي نشكو منهما.
د. عبدالله المدني
* استاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أغسطس 2016
الايميل:Elmadani@batelco.com.bh
عبارة الهامش:
لاتزال دولنا مترددة في الاستفادة القصوى من المشروع، بل لا توجد لديها رؤية إقتصادية واضحة للتعامل مع بكين،
وبطبيعة الحال فإن إجابتي كانت مقتضبة لأن دول الخليج، على الرغم من ترحيبها بالمبادرة ومساهمة بعضها في رأسمال البنك المشار إليه، لاتزال مترددة في الاستفادة القصوى منها، بل لا توجد لديها رؤية إقتصادية واضحة للتعامل مع بكين، علما بأن فوائد اقتصادية وجيوسياسية جمة تنتظرها إذا ما هيأت نفسها للإنخراط الجدي في المبادرة الصينية، خصوصا وأنها تمتلك مميزات قد لا تتوفر للدول الأخرى التي تستهدفها هذه المبادرة. فهي مثلا أكبر مصدر للطاقة في العالم، وتملك موقعا جغرافيا مهما على مسار الطريق، وهي الأقل من جهة المخاطر التشغيلية بسبب إستتباب أوضاعها الداخلية، ناهيك عن إمتلاك بعضها للمناطق الاقتصادية الحرة الضرورية للمبادرة، ووجود إستثمارات متبادلة بينها وبين الصين منذ أعوام في قطاعات الطاقة والاتصالات والانشاءات وغيرها، ووجود الآلاف من طلبتها في الجامعات والمعاهد الصينية، وهذا طبعا يجسد جزءا من المشهد الثقافي للمبادرة.
فإذا ما علمنا أن المبادرة الصينية تسعى إلى: إقامة البنى التحتية من طرق وشبكات اتصال وخطوط كهرباء ومرافق خدمية وأمنية على طول الطريق وربطها مع بعضها البعض، وخلق بيئة جديدة للإستثمار والسياحة والتجارة الدولية والاقليمية خالية من الحواجز، وتعميق التعاون المالي من أجل بناء نظام مستقر للنقد والصرف والتحويلات، وربط شعوب الدول الواقعة على الطريق بمصالح وروابط نفعية مشتركة، والتصدي لأعمال القرصنة على الجانب البحري للطريق من أجل استتباب أمن الممرات المائية الناقلة للمبادلات التجارية. وإذا ما علمنا أيضا أن هذه الأهداف كفيلة بخلق الآلاف من فرص العمل، وتنمية المجتمعات، وإزدهار المدن الواقعة على الطريق، فإن دول الخليج سوف تجني الكثير، خصوصا في ظل ما تتعرض له حاليا أو مستقبلا من تهديدات، وما تواجهه من صعوبات إقتصادية، وما تعانيه علاقاتها مع حلفائها التقليديين من هواجس، وما يسود أوساط شبابها من بطالة، وما تسعى إليه من تنويع في مصادر الدخل.
والحقيقة التي لا بد أن نستوعبها في هذا السياق هي أن الصين، مثلها مثل القوى الدولية الأخرى، لاتطرح مبادرات ضخمة من هذا النوع إلا ورائدها هو مصلحتها الخاصة. بل أن الصينيين، فيما يتعلق بهذه الجزئية تحديدا، أثبتوا في العديد من المنعطفات أن مصالحهم هي فوق كل إعتبار، وأن مصلحة الطرف الشريك لا أهمية لها عندهم. ومن هنا يمكن القول إن مشروع إحياء طريق الحرير(تأسس في عام 1877 ولعب دورا في إزدهار الحضارات الصينية والهندية والمصرية والرومانية القديمة) هدفه الأساسي هو أن تلعب الصين دورا أكثر تأثيرا في إستراتيجيات العالم بما يتوافق مع صعودها الاقتصادي المذهل، ويعيد إليها أمجادها الغابرة يوم أن سيرت القوافل التجارية إلى العالم لتسويق الحرير الذي اكتشفته حوالي سنة 3000 قبل الميلاد. إذ أن حضورها في المنطقة التي يمر بها الطريق، وهي منطقة واسعة تقع بين بحر قزوين والخليج العربي والبحرين الاحمر والابيض، وتتميز بمواردها الاقتصادية الضخمة وممراتها التجارية الاستراتيجية سوف يحقق لها ذلك.
غير أن هذه الحقيقة يجب ألا تحبطنا. فبقدر من الدهاء والسياسة يمكننا تطويع الاهداف الصينية بطريقة تفيد دولنا أيضا. فمثلا بالامكان إقناع الصينيين بالإستثمار في مشاريعنا غير النفطية (مثل مشاريع التكنولوجيات الجديدة والطاقة المتجددة والتصنيع الحربي وتطوير القدرات البشرية والنقل الحديدي والشحن البحري والاقمار الصناعية) مقابل تزويدهم بالنفط والغاز والبتروكيماويات.
ومن جهة أخرى، بإمكاننا أيضا إقناع الصينيين بالضغط على شريكهم الإيراني للحد من تطرفه وإرهابه مقابل السماح له بلعب دور أكبر في منظمة شنغهاي للتعاون الإقليمي، والإستفادة من مشاريع طريق الحرير، ولاسيما مشروع بناء خط أنابيب النفط المقترح من كازاخستان عبر تركمانستان وصولا إلى إيران. ولعل ما يصب في صالحنا ولا يصب في صالح طهران هو أن مبادرة طريق الحرير معنية أساسا بإزدهار وصعود مدن جديدة على خط الحرير مثل دبي وأبوظبي والدوحة وجدة والقاهرة ومومباي وكراتشي وشنغهاي، تاركة خلفها مدن إستراحة القوافل القديمة مثل مدن بلاد فارس والشام واليمن وما بين النهرين.
وأخيرا فإن على دول الخليج ألا تنصاع للضغوط الأمريكية التي قد ترى في هذه المبادرة مساسا بمصالحها في المنطقة وفرصة للصينيين لمد نفوذهم العالمي إليها. فالمبادرة إذا ما تحققت بالشكل المأمول كفيلة بخلق واقع جديد يموج بفرص العمل والتنمية والازدهار، وبمراكز الأموال والأفكار والصناعات والأعمال، وبالتالي قطع دابر الإحباط المؤدي إلى التطرف والإرهاب الذي نشكو منهما.
د. عبدالله المدني
* استاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: أغسطس 2016
الايميل:Elmadani@batelco.com.bh
عبارة الهامش:
لاتزال دولنا مترددة في الاستفادة القصوى من المشروع، بل لا توجد لديها رؤية إقتصادية واضحة للتعامل مع بكين،
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق