وفقا للتعريفات القانونية، فإن المجرم هو الشخص الذي تتم إدانته استنادا لحكم قضائي نتيجة ارتكابه لفعل ما (او احيانا الامتناع عن فعل ما) يعاقب عليه القانون..
وكي يتم التأكد من إرتكاب الفعل (او عدمه) فينبغي العودة الى القوانين الوضعية (العقوبات الجزائية وغيرها..) كي يتبين للقاضي ما اذا كان هذا الفعل مصنفا في قائمة الافعال المجرمة وفقا للقانون ام لا..
لكن مثل هذا الكلام هو فقط بالمعنى القانوني المجرد وفي اطار نظام سياسي تحترم فيه السلطات صلاحيات بعضها البعض بحيث يتمتع القاضي بالنزاهة والشفافية ولا يدين بالولاء سوى الى ضميره المهني والانساني ولا يطلق احكامه بشكل كيدي او استجابة لرغبة سياسي او زعيم.
لذلك، فالذي يرتكب جرما بحق شعبه، فإن كان مواطنا عاديا لا واسطة له ولا ينتمي لحزب السلطة فسيف القانون بانتظاره وربما يصل الامر الى درجة الاعدام، بينما من يغتال حقوق سياسية وقانونية ومدنية واجتماعية وثقافية .. اقرتها قوانين الطبيعة والدين والاخلاق والانسانية فيطلق عليه في احيان كثيرة مصطلح القائد او الزعيم او الاب الروحي.. وغير ذلك من المصطلحات التي تؤله الشخص فقط لانه زعيم هذه الفئة او الحزب او الجماعة..
وفقا للتصنيف القانوني السابق، يمكن ان تنطبق شروط الاجرام على الكثير من زعماؤنا، السابقين او الحاليين، الذين اما تنازلوا عن حقوق شعبهم دون اي تفويض من هذا الشعب او انهم تراخو ولم يتخذوا من الاجراءات والافعال ما يقلل من الخسائر، بل ان هناك من يصرح ويتحدث بشكل يومي عما فعله، وعما لم يفعله، وهي مواقف اشبه باعترافات مباشرة يمكن ان تشكل لوحدها ادانة كافية على هذا الاجرام .. لذلك وجب معاقبتهم اليوم وغدا كمجرمي سياسة ومنتهكي حقوق.. حتى هناك بعض الدول سنت قوانين خاصة تطبق على كل من مارس او عمل او سعى الى إفساد الحياة السياسية.. هذا ما حصل مثلا في كل من مصر وتونس بعد ثورتيهما ضد نظامي مبارك وبن علي..
الحالة الفلسطينية تزخر بالشواهد والنماذج والروايات التي تشكل كل واحدة منها سببا كافيا لمعاقبة هذا وإدانة ذاك تحت مسمى الجرم السياسي:-
- عندما يترك الشباب والفتية من ابناء الشعب الفلسطيني فريسة لجنود الاحتلال الاسرائيلي ليتفننون بهم في طرق القتل بالاعدامات اليومية التي نشاهدها يوميا، فهذا اجرام سياسي بحق ليس من ارتكب الجريمة فقط، بل وبحق من صمت وشارك بها بطريقة غير مباشرة، كأن نمجد القاتل ونسعى للتقارب معه ليل نهار ونعتبره صديقا وشريكا لشعبنا وغير ذلك من الممارسات والاشارات التي تتناقض مع حالة اننا نعيش فوق ارض لا زالت محتلة ومن المعيب حماية المحتل والتغطية على جرائمه لأسباب متعددة سياسية وغير سياسية!
- حين تترك المخيمات في سوريا ولبنان لمصيرها وقدرها دون ان يوفر لها الحد الادنى من الغطاء السياسي، ودون حتى ان نحتد او ان نغضب ولو قليلا على ما يحصل لها ، او ان نحاول امتصاص نقمة جماهيرية هنا وامتعاض هناك، فهذا ايضا يمكن ان يسمى اجرام سياسي ! وقد يكون الامر مقصودا ومتعمدا بذريعة عدم التدخل بالشؤون الداخلية للدول المضيفة، فيما الاستهداف واضح للاجئين والمخيمات وحق العودة.. خاصة وان بعضهم يعلن العداء الصريح لشيء اسمه حق العودة وقضية اللاجئين..
- عندما تصبح الثوابت الوطنية الفلسطينية والتي اصطلح على تسميتها بالخطوط الحمراء تكرست بتضحيات وعذابات الآلاف من الشهداء والجرحى والمعتقلين، مجرد وجهة نظر نغّيبها ساعة نشاء ونستحضرها ساعة نشاء في سوق المزايدات السياسية، فهذا يدخل في خانة الجرم السياسي الذي يجب ان يحاسب عليه شعبيا ووطنيا..
- عندما نرى في الانقسام الذي كسر ظهر الشعب الفلسطيني في جميع الساحات فرصة لفرض السيطرة والنفوذ والتحكم بمقدرات الشعب هنا في الضفة الغربية وهناك في قطاع غزه .. فهو ايضا اجرام سياسي ! فنكاية بحماس لا نريد وحدة وطنية حتى لو كلفنا ذلك المزيد من الضياع والمزيد من الشرذمة للحالة الفلسطينية، خاصة اننا جزء من عالم لا يعر الوقت اهمية كبيرة، بحيث كل ما نملك هو المراهنة على عامل الوقت علّ حزب شقيق ينتصر او دولة حليفة يزداد نفوذها، وبين هذا وذاك تسرق الارض ثانية بثانية ودقيقة بدقيقة ويراكم العدو انجازات تلو انجازات ومكاسب تلو اخرى.. وعلى الجهة المقابلة لسان حال الآخر يقول لا نريد وحدة وطنية مع الرئيس ابو مازن حتى لو كان الثمن استمرار حصار غزه بكل ما لذلك من مآسي.. ويتفاخر بأن نصر المقاومة في غزه على العدوان الاسرائيلي عام 2014 حدث خلال سنوات الانقسام، وكأن المطلوب هو النضال من اجل ادامة هذا الانقسام كي ينعم الشعب الفلسطيني بنعمه..
- حين يحاصر شعب بأكمله في قطاع غزه ونقف متفرجين على دول شرقية واخرى غربية، إسلامية واعجمية، تتفاوض مع بعضها وباسم الفلسطينيين تحت عنوان "رفع الحصار عن غزه" فيما اصحاب القضية غارقون في سبات عميق ينتظرون.. فهذا هو اجرام السياسة ! فنرى بعضهم يتوسل التدخل الخارجي تحت شعار العمل الانساني وفي اطار مفاوضات اسموها "مفاوضات غير مباشرة". وبعضهم الآخر يعمل سرا مع هذه الدولة او تلك لإطالة عمر الحصار "لابعاد حماس عنا وبلا وجعة راس". وتبقى الحقيقة الماثلة امامنا ان جميع الدول تتاجر بنا وبقضيتنا وبتسهيل مباشر من مناضل هنا وقائد هناك..
- عندما تكون المؤسسات الفلسطينية الموجودة اصلا لخدمة الشعب وقضيته خاوية لا تحوي الا الفساد والبطالة السياسية ولا نفعل شيئا سوى تغذية نزعات الفساد والبطالة، هو ايضا بالتوصيف القانوني اجرام سياسي.. وهذا ينطبق على مؤسسات السلطة في الضفة الغربية ومؤسسات منظمة التحرير في الشتات وايضا على المؤسسات التي تديرها حركة حماس في قطاع غزه. ويخطيء من يعتقد ان سياسة الاحتكار والاستئثار حتى لو كانت مربحة فئويا لفترة معينة الا انها خطيئة كبرى على المستوى الوطني ووجب محاسبة من يمارسها..
- حين نجد انفسنا عاجزين عن فعل شيء الا فعل المشاهدة والفرجة على شعب قضيته وحقوقه الوطنية في مسار انحداري.. ايضا هو اجرام سياسي! وفي مقارنة بسيطة بين واقعنا اليوم والواقع السياسي للقضية الفلسطينية قبل نحو عشرين عاما مثلا بامكاننا ان نسرد كم من الاثمان قد دفعنا وكم من الاثمان سندفع بسبب هذه السياسة الانتظارية التي جربت، ورغم ذلك هناك اصرار على تبنيها واعتمادها خيارا وحيدا. صحيح ان واقعنا الراهن لا تتحمل مسؤوليته القيادة الرسمية وحدها، الا ان هذه القيادة تتحمل مسؤولية عدم المبادرة لمحاولة تغيير هذا الواقع، وهي مسؤولة عن السياسات التي تتبعها والتي تزيد اوضاعا سوءا وتأزما..
- عندما يخدع الرأي العام الفلسطيني الف مرة في اليوم، وتقدم التنازلات على انها مكاسب وانجازات، وتضيع الحقوق واحد تلو الآخر تحت عناوين "يا وحدنا" فهذا اجرام سياسي.. تراهم يكذبون في مواقفهم اليومية العلنية والتي تتعاكس مع ما يفعلونه سرا في هذه الدولة او تلك.. وايضا يكذبون في تعاطيهم مع المبادرات الدولية عندما يقدمونها الى الشعب بغير صورتها واهدافها الحقيقية ..
- عندما وعندما وعندما..
فكم من الجرائم ترتكب يوميا باسم الشعب والحقوق .. وبدلا من محاسبة ومعاقبة مرتكبيها يصبح المجرمون رموزا وقامات وطنية .. ومنطق الامور يفرض المراجعة الدائمة، وما احوجنا نحن الفلسطينيون الى مثل هذه المراجعة، بحيث نستفيد من المرحلة الماضية بكل سلبياتها وايجابياتها.. خاصة وان هناك تسليم من قبل الجميع، من مع ومن ضد، بان وصول عملية المفاوضات إلى الطريق المسدود وضع مجمل الحالة الفلسطينية أمام مفترق طرق وأمام سلسلة من الخيارات يتوقف على القرار بشأنها المسار اللاحق للقضية الوطنية الفلسطينية. ورغم ذلك فالمؤكد للجميع ايضا أن المازق الذي وصلت اليه عملية التسوية هو نتيجة سياسات العدوان الاسرائيلية وايضا نتيجة السياسات الفلسطينية والعربية الخاطئة بالمراهنة على الادارة الامريكية.
رغم كل الذي حصل، بانتقالنا من فشل الى فشل والمراكمة على هذا الفشل في جميع القضايا الوطنية، فما زال الخيار الاستراتيجي بالنسبة للرئاسة الفلسطينية هو المفاوضات التي ما زالت متواصلة منذ نحو ربع قرن في اطار سلطة فلسطينية تدين بالولاء في بقاءها للدعم الخارجي الدولي والعربي والاقليمي. لانها لا تستطيع بحكم تركيبتها وتوازناتها وعناصر تشكلها ان تعتمد خيارا آخر غير الخيار الذي زجت به.. او ان تضع خيار الوحدة الوطنية بنفس الاولوية التي تطرح فيه قضايا اخرى مصيرية وذات اهمية، كالمفاوضات مثلا بجميع عناصرها وفي مقدمتها التنسيق الامني الذي يبدو انه الملف الوحيد الذي لم يمس حتى الآن او الذي غير مسموح لأحد ان يمسه.. لذلك مطلوب منها مراجعة شاملة لكل مسيرتها وخيارها الآحادي في ضوء المكاسب السياسية والدبلوماسية التي تحققها اسرائيل وبالمقابل المسار الانحداري للسلطة الفلسطينية..
نحن قادرون على ان نتقدم بقضيتنا الوطنية الى الامام اذا ما اجدنا في ادارة معاركنا الوطنية التي يقع في مقدمتها استراتيجية جديدة تستند الى تفعيل نقاط القوة الداخلية والخارجية وفي مقدمتها انهاء الانقسام وضرورة الشراكة الوطنية القائمة على مشاركة الجميع في صنع القرار وعدم تفرد اي طرف بامور تتعلق بالكل الفلسطيني بما يمكننا من خوض معاركنا بشكل موحد وبالاستناد الى سياسة وطنية واحدة وبمرجعية موحدة.. وبذلك نحمي شعبنا ومصالحه كما نحمي قضيتنا الوطنية ونصون انجازاتنا ونفشل الأهداف والمخططات الاسرائيلية..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق