"العزيز تامر، سعدت بالتعرف عليك ليلة أمس . تأثرت من مشاهدتي لفيلم "مفرق ٤٨" وذلك بكونه تجربة لافتة وهامة لأسباب سوف أتناولها لاحقًا. لقاؤك والانكشاف على تجربتك قربتني من فضاءات كنت أجهلها وعشت عنها بعيدًا ربما بسبب فوارق السن واهتمامات مغايرة، فلم أع ما يشغل بال الأجيال الناشئة وكيف يحاولون مواجهتها. على جميع الأحوال فلقد قضينا معكم ليلة مميزة وأملي أن نلتقي قريبًا لإتمام الحديث وتربية الود الغافي بيننا". كان هذا نص رسالة بعثتها إلى الفنان تامر نفار بعد مشاهدتي لفيلمه "مفرق ٤٨"، والذي استضافته في القدس "جمعية مبادرات صندوق ابراهيم" وعرضته أمام عشرات من ضيوفها الوافدين من عدة دول أجنبية في ليلة تعمدت فيها إدارة الصندوق اطلاعهم على فيلم يروي قصة فرد، عائلة، مدينة ووطن بلغة تشبه أهل المدينة ومثلهم بسيطة وخالية من تنميقات البيان المفرط وزركشات البديع الذي لا تعرفه تلك الحارات وأهلها وبألوان تتحرك من قتامة موجعة إلى حمرة صادمة فبياض مستفز ومبك، لكنها لا تتركك بدون بقع ضوء وأمل مرتجفَين، يتحدث عنها مع الجمهور بعد العرض بطلا الفيلم الممثلان تامر نفار وسمر قبطي.
في الحقيقة لم أكن أعرف تامرًا بشكل شخصي من قبلُ ولم أتابع نتاجه الفني، مع أنني كنت أسمع باسمه وباسم فرقة "دام" المتخصصة بغناء "الراب" يتردد في لقاءات أولادي وأصحابهم، لكن الصورة اختلفت بعد أن استهدفته نيران ميري ريغف، وزيرة الثقافة في حكومة إسرائيل التي شنت عليه حملة شعواء ونادت بوجوب مقاطعة أعماله وعروضه بحجة أنه يحرض على الدولة ويعادي اليهود مستشهدة ببعض كلمات أغانيه الاحتجاجية و"تجرئه" على ترديد صرخة محمود الدرويش القديمة "سجل أنا عربي" وما تلاها من وجع الروح والقسم في وجه من أراد أن يبقي المحمود ذليلا ويجوّع أهله ليجبرهم باللحاق بمن اختاروا الشرق ملاذًا عندما وقفت الريح على ذلك المفرق في العام ١٩٤٨.
في القاعة تجمع عشرات من الشخصيات اليهودية بفئات عمرية مختلفة، والداعمين لتلك الجمعية التي تهدف إلى إحداث تغيير إجتماعي وتعمل في اتجاه الدمج والمساواة بين الشعبين مواطني دولة إسرائيل وبناء مجتمع مزدهر وآمن وعادل. وحضر بعض العرب، منهم أصدقاء لثابت أبو راس المدير المشارك في جمعية ابراهيم، الذين لبوا دعوته وشاركوه تلك الأمسية الجميلة.
ينتهي الفيلم ويسود في القاعة صمت كذاك الذي يصاحب الصدمات، فمن الصعب أن تخرج كمشاهد وتتحرر من ذلك "المفرق" الذي يضعك عليه كتاب السيناريو وأصحاب الفكرة ، فبطل القصة "كريم" يواجه في حياته اليومية وفي سبيل حبه لفنه أعداءه الكثيرين ويمضي في التحدي، حتى شفا الهاوية، عنيدًا بايمان لا يخلو من سذاجة وطيبة محسوبتين وصارمًا كما يتقن العشاق والمبدعون .
قصته في الفيلم قريبة من قصة تامر اللداوي الحقيقي ورغم تصريحه أمامنا أنه أدخل عليها بعض التغييرات لكنها تبقى في النهاية شبيهة لواقع عاشته وتعيشه أجيال لم تفلح بالنجاة من الجحيم ولسيرة شاب طموح ذكي استطاع أن يفلت من السقوط رغم تلك النيران التي أحاطت بطفولته وبعائلته؛ وهي، كذلك، قصة اللد مدينة سقطت، كأخواتها، من خارطة وطن لكن بعضها لم ينجح بالخروج من ذلك المفرق، بل عانى من بقي فيه من نسيان الأشقاء وإهمالهم ومن ظلم الأغراب الجدد الذين وطأوها وعاملوها كمحظية لهم، والباقون من أهلها كانوا مجرد ذوات تعيش على ضفاف سكة حديد تقتل قطاراتها أطفالهم وصفيرها يذكر الصاحين منهم بأن "المفارق" ما زالت تنتظر رحيلهم إلى تخوم الصحراء أو سقوطهم في الغيم .
يجلس على يمين المسرح ليس فيه من شكل الفلسطيني حصريًا إلا حنطيته، واضعًا ساقه اليمنى على يسراه في حركة تكمل مشهد الفنان الواعي لدوره المحسوب وتشي بشخصية إنسان مجرب ناضج لا يعير مظهره الخارجي اهتمامًا خاصًا، رأسه مغطى بقطعة قماش تشبه القبعة لكنها أقرب إلى كيس يلم شعره، لونها كالأخضر الموحل تمامًا كلون ياقة بلوزته الرمادية، وجهه جميل رغم ما يغطيه من شعر ذقن خفيفة يذكر بشعراء البادية الوسيمين وتعلوه سهوة لافتة يستبدلها أحيانًا ببسمة واثقة. بنطاله جينس أزرق محكر ببياض فوضوي ينتهي عند حذاء رياضي بلونين. كان حاضر البديهة سريع الخاطر واثقًا في إجاباته على جميع الأسئلة التي حاورته بها المحامية بشائر الفاهوم وتلك التي وجهها الجمهور وكان يتنقل بين الانكليزية والعربية والعبرية بخفة ووفق ما تطلبته الضرورة والحاجة من دون أن تبدو عليه علامات حرج أو ضيق أو تردد فهو فلسطيني بلا مساءلة ويغني من شعور داخلي ضد القهر والقمع والاضهاد مؤكدًا أنه غير سياسي بمعناها البسيط الطبيعي ولا يغني باسم التعايش فهذه ليست وظيفة المضطهدين الذين يسعون من أجل تأمين بقائهم على قيد الحياة والنجاة من الجحيم.
بجانبه تجلس سمر حبيبته في الفيلم وشريكة أحلامه على الشاشة. فتاة من الناصرة سمراء مليحة تملأ كرسيها ضوءًا، بسمتها ساحرة تجيب على الأسئلة من دون تأتاة وبوضوح تمليه نفس تربت على العزة والثقة والإقدام فتحرك يسراها بغنج كأنها تبعد نجمات تساقطت من عينيها الناعستين وتضحك كما لم تستطع أن تضحك في نهاية الفيلم عندما هددها أولاد عمّها بالأسوأ اذاما أصرت على مشاركة حبيبها، كريم، الغناء في حفلته الكبرى.
صفق الحضور لهما بحرارة آدمية واضحة واحترام إنساني مميز لا يشبه برودة الاحتفاء الهوليوودي الباهت ولا بهرجته الزائفة. لقد كانا خير سفيرين لأهلهما ولأقلية مقهورة مقموعة ومضهدة في زمن يتخبط قادتها كاللاعبين على "الترامبولينا"، يقفزون في الهواء عاليًا ويحطون على رقعتها فترمي بهم إلى الأعلى هكذا من دون وجهة مدروسة محددة ومن غير هدى وسلامة. لم يتحدثوا بلغة السياسيين اللعوب أحيانًا والمنفّرة أحايين، بل كانوا بسطاء كالوجع، حقيقيين كالجمر، رقيقين كالحمام.
لقد كانت قصة الفيلم صادمة تماما كما هو واقع أحياء اللد العربية الفقيرة، تلك الأحياء التي ولد فيها تامر ابن فوزي النفار وسط عائلة متوسطة الحال وتحت رعاية أب يضحي كي لا يشعر أبناؤه بنقص أو بعوز وأم أحاطته بالحنان والدفء وبالشدة فمنعت سقوطه وسقوط اخوانه في حقول الألغام المنتشرة في محيطه؛ كانت رقابة الوالدين أحزمة أمان وسلامة حافظت على أن يبقى على مسافة من الجمر لكنه لم يصح تمامًا إلا عندما سقط صديقه حسام بنيران الجريمة والطيش والعبث، فاللد كانت تعيش حالة من "اللخة والسلطة الدامية"، عندها قرر أن يطلق حنجرته في وجه الظلم والخفافيش.
لقد مست قصة الفيلم معظم محاور العبث الذي نعيشه في مواقعنا، ولقد تم استعراضها بجرأة مشهودة تمكننا أن نتبين بسهولة بواطن مآسينا ومفاعيلها الأهم، فالدولة وسياساتها تبقيان في الصدارة ومسؤوليتها عما لحق ب"كريم" وأهله وجيرانه من تشرد وتهجير وفقر وملاحقة وقمع واضحة لا لبس فيها، وكذلك استفحال الجريمة والعنف والاجرام المنظم فكلها مرايا لواقع متشظ تعيشه قرانا ومدننا وتبقى الدولة هي المسؤولة الأولى عنه، لكن مجتمعاتنا ليست بريئة منه. وأما المرأة بيننا، فهي ضحية الضحايا، ذبيحة القهر والمفاهيم الموبوءة والتخلف المعتق .
هذه وغيرها من القضايا استعرضها فيلم "مفرق ٤٨" بصنعة راقية وبمشاركة عربية يهودية لفنانين سخروا الفن ومهاراتهم من أجل رسالة إنسانية عظمى. لم يسعفنا الفيلم بحلول لجميع ما استعرضته القصة من قضايا ومسائل، فصنّاعه يعون أن الحلول لهذه الاشكالات والمعضلات لا تتحقق في فيلم مهما كان دقيقًا ومحكمًا، لكنهم استكفوا بأن يضعوا أمامنا مرايانا لنرى واقعنا بجروحه وندبه ونيرانه عسى يفيق كل واحد منا ليطفئ النيران حوله كما حاول كريم/ تامر النفار أن يفعل.
لقد حصل الفيلم على بعض الجوائز العالمية لكن جمهور السينما في الدول العربية سيحرم من مشاهدته على الأغلب، فعلى الرغم من إصرار تامر وسمر وسلوى نقارة التي جسدت في الفيلم دور أم كريم، على تعريفهم كفلسطينيين وهكذا فعل جميع من مثل معهم من العرب، وعلى الرغم من أن الفيلم يتحدث بالعربية وعن مشاكلنا نحن الأقلية العربية، إلا أن مخرجه يهودي وكذلك المشارك بكتابة السيناريو ووضع الموسيقى وغيرهم، وهذه الحقيقة ستمنع تصنيفه كفيلم فلسطيني وسيحظره لهذا السبب العرب في بلادهم .
ومرة أخرى نجد أنفسنا بين نارين: بين مطرقة العرب وسندان ميري ريغيف وسياسة الإقصاء المضاعفة؛ فنحن عرب العرب ما زلنا نتلقى ضربات القمع من مضطهدينا وطعنات الجهل من المزايدين علينا، لكننا رغم ذلك وذاك، سنبقى صامدين على مفرق ال ٤٨، وسنزور اللد وأخواتها ونحميها، كما دعاني تامر ووعد أن يبقى البيت بيتنا واللد ستبقى لدّنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق