نحن وهم والحريق/ رائف حسين

رغم انني أعيش آلاف الكيلومترات بعيداً عن وطني، بعيداً عن اهلي الا ان كل صغيرة وكبيرة تحدث في فلسطين الحبيبة تهز كياني وتزيد من اهتمامي وتتبعي... كان هذا في الماضي وحصل هذا في اليومين الاخيرين عندما اندلعت الحرائق في مناطق عديدة في الوطن وأسعرها كانت تلك النيران التي هاجمت حيفا عروسة البحر. 
تابعت الأحداث أولاً بأول بقلق واهتمام... قلق على وطني وقلق على زيوتنتنا وقلق على أشجار الوطن وبيئتنا وقلق مخيف على أصدقاء غاليين على قلبي يعيشون في مناطق قريبه من الحرائق ... تابعت الأحداث باهتمام مهني لمراقبة ردات فعل الدوائر الرسمية وردات فعل الانسان العادي والمثقف  هناك وردات فعل ابناء شعبي وأمتي في الوطن وخارجه. تابعت الاحداث عبر التلفزيون والإذاعات وعبر النت ومراسلة الأصدقاء بشتى الوسائل، ورأيت انه من واجبي الوطني والمهني ان أشارككم انطباعاتي واستخلاصات الاوليه حول الحريق وردات فعلنا وردات فعلهم لنفكر سوياً اين نحن وأين هم؟ 
1. ليس كل ما يلمع ذهب مقولة اثبتت باليومين الاخيرين صدقها. نفوس البشر وخفايا قلوبهم ونواياهم وتوجهاتهم تراها جلياً وقت المحن. المصائب الفجعه مرأه لقلوب الناس، وكلامهم وأعمالهم صفحة مفتوحة تقرأ منها وبها ما يدور حقاً في ذهنهم ومنهم تستخلص من هم حقاً وأين هم من الانسانية! 
2. ان كانت الحرائق قد نشبت عن عمل بشري فهو عمل إجرامي لا يغفر له بغض النظر عن من قام بهذا العمل. ان كان فلسطيني عربي فهو مجرم وان كان يهودي إسرائيلي فهو مجرم وان كان سائح او عامل أجني فهو مجرم ايضاً. 
3. امتلأت صفحات التواصل الاجتماعي وبعض الفضائيات العربية بكلام " هواة المحللين" الذين نسبوا الحرائق الى الله عز وجل! برأي هؤلاء السفهاء ان الله انتقم من بني صهيون لمنعهم رفع صوت الاذان من الجوامع في المدن المختلطة في فلسطين. هؤلاء الذون يَرَون بالله المنتقم الساخط الضارب الحاقد ونسوا ان الله ودياناته كلها،  سماحة وحب ورحمان وعطف وشفقة،  نسوا ان الله ينادي بالخير والوئام ولا يعرف فشة الخلق مثلهم. أساؤوا بكلامهم للرب وأساؤوا لنبل شعبنا وامتنا التي لها حق وهي على حق وتطالب بحق وتعمل لاحقاق الحق وتخليصنا من الظلم. تناسى اصحاب هذا الفكر العقيم ان الصهاينة أثاروا موضوع الاذان لاشغالنا وابعاد نظرنا عن ما هو اهم واخطر من ذلك... أشغلتنا بالأذان ليمرروا مشروع قانونهم العنصري الكولونيالي بسلب اراضينا في فلسطين المحتله عام ٦٧ وتشريع البؤر الاستيطانية هناك. والغريب العجيب ان أحداً من هؤلاء الهواة لم ينبت بابنة كلمة عن الاستيلاء على اراضينا وانشغلوا، كما خطط لهم، بالأذان. هذا مؤشر خطر، علينا نحن اهل السياسة ان نمحصه جيداً لنرى اين وصلت أولويات الامور عند شريحة واسعه من ابناء شعبنا الفلسطيني وأبناء امتنا العربيه! 
4. كبر البعض- الله اكبر- اسرائيل تحترق- ونسوا ان في اسرائيل مليون ونصف فلسطيني يعيشون في كل بقاع فلسطين وعشرات الآلاف منهم يعيشون قرب السنة الحرائق التي تهدد حياتهم وممتلكاتهم. هؤلاء السذجاء الجهلاء  من ابناء شعبنا الفلسطيني بالمهاجر وأبناء امتنا العربيه لا يفقهون بالجغرافيا وبالواقع شيء. هم لا يعرفون ولا يريدوا ان يعرفوا ان ابناء شعبنا الفلسطيني في الداخل يعيشون في قرى وبلدات وصلتها الحرائق وان لا وطني يحرق ارضة وزيتونه وان لا وطني يفرح ان تلوثت بيئته ولا وطني حقيقي يفرح لموت ابرياء ولا وطني حقيقي يرقص على مصائب الاخرين حتى لو كانوا أعداءه. سياسة فش الخلق هذا وسياسة "فيك وبعداك يا ربي" عشناها خلال الانتفاضة الثانيه وصلتنا جميعاً بنارها. متى نتعلم من مقولة المفكر الرمز المرحوم ادوار سعيد : علينا ان نتفوق على عدونا بالاخلاق!؟؟؟ 
5.  ردات فعل أصدقائي وزملائي بالقائمة المشتركة كانت مثالا يرفع الرأس بالمسؤولية والاخلاق. مناداتهم بان الارض ارضنا والشجر شجرنا والبيئة التي ستلوث هي بيئتنا نبع عن نظرة واقعية وسياسة براغماتيه.  مناشدتهم للجماهير الفلسطينية بالداخل بالتعاون مع رجال الإطفائية والبوليس لإخماد الحرائق وتطويق الفوضى ومساعدة المنكوبين كانت تعبر عن مسؤوليتهم تجاه ابناء شعبهم وممتلكاتهم ومصيرهم. كلامهم عن ان هذه المصيبة لا تنفع لنداءات سياسة شعبوية مدمرة، كلام سليم، كلام اهل حق وكلام اهل مسؤولية ووطنية بامتياز.
6. ردات فعل الصهاينة من رئيس الحكومة وبعض وزراءه ورجال أمنه ومن يدعون انهم خبراء بالشأن العربي ومحلليه العميان بعنصريتهم لم تفاجئني حقاً. فكل مراقب لسياسة هؤلاء العنصريين المغتصبين لا يمكن الا ان يتوقع مثل هذه السفالة ومثل هذه الحقارة العنصرية بالادعاء ان فلسطينيين قاموا بهذا العمل! عنصريتهم سوف تكون هلاكهم وهذا قد بدأ.  وهم مثل غيرهم من عنصريين في التاريخ نهايتهم حتمية... هذا ليس تنبأ بل هذه قراءة متأنية موضوعية علمية لسيرورات التاريخ وحتمية الواقع ولا حاجه، كما فعل البعض من ابناء شعبنا بالداخل،  ان ننتقل الى موقع الدفاع عن النفس لتبرئة ذمتنا من امر لا ناقة لنا به ولا بعير. من قام بهذا العمل مجرم بغض النظر عن لونه ودينه وانتمائه القومي. النار عندما تأكل لا تسأل من هو المالك وعندما تحرق البشر لا تسأل عن دين وعن انتماء اثني او سياسي هذه كارثه إنسانية وبيئية وكلنا في هذه الارض سنكون حاملي للعبء ومتأثرين بالنتائج. 
7. تأثرت ورغرغت عيني بالدمع وانا اتابع اعلان المئات من ابناء شعبنا بالمثلث والجليل الى المنكوبين من الحرائق بان بيوتهم مفتوحه لاحتواءهم وإيوائهم ومواساتهم في هذا الوقت العصيب. تأثرت عندما اتصلت بصديقة غالية علي تعيش بحيفا لأطمئن عليها فقالت لي بصوت مرتجف رعباً انها بخير وانها تنتظر عائلة هندية تعيش قربها لتأخذهم معها الى بيت اَهلها في قرية بعيده عن حيفا...  انتابني شعور فخر واعتزاز عندما رأيت صور من شباب وصبايا في كنيسة العهد الجديد في حيفا يعدون الساندويشات لرجال الإطفائية ورأيت سيارات وشباب الدفاع المدني الفلسطيني بحيفا للمساعده بإطفاء الحرائق...  عندها تذكرت قول جدتي التي كانت مثالاً للانسانية والحب والعطاء - رحمها الله - ان خلت بلت - وقلت لنفسي هذا شعب الحق هذا شعب الأبطال هذا الشعب الذي لم ينسى انسانيته رغم ألمه ورغم ظلم محتليه ومغتصبي ارضه وعرضه هذا الشعب العظيم لا بد ان ينتصر ويرفع راية الاستقلال والحريّة والانسانيه في حيفا ويافا وعكا والقدس ورام والله وغزه.
8. ابهرني ردت فعل الفنان الصديق رمسيس قسيس بتجاوبه بموضوعيه على الطرح العنصري لمسؤولي الأمن والشرطة الصهيونيين بتهديديهم بملاحقة كل من روج للحرائق ورقص فرحاً لها. وكان ببال هؤلاء العنصريين ابناء شعبنا الفلسطيني بالداخل. الفنان رمسيس نشر على صفحته بالفيس كلام ليهود اسرائيليون يحرضون على حرق بيوت وقرى وممتلكات فلسطينية عربيه وطالب أصدقاءه بمراقبة صفحات التواصل الاجتماعي لإظهار عنصريتهم وحقدهم وفضح نفسيتهم الدنيئه وطالب الشرطة بملاحقتهم ان كانوا فعلاً معنيين بالسلم الاجتماعي.. هذا هو الحس الوطني المسؤول الصادق، بعيداً عن سياسة فش الخلق والرد بحقد وكراهية. هذا هو الوعي الوطني الذي نصبوا الى زرعه في عقول ونفسية ابناء شعبنا الفلسطيني... نحن لا نرقص على مصيبة احد... إنسانيتنا تقف صد مانع امام غريزتنا... نحن اصحاب حق وأهل بيت وبأخلاقنا العالية ومسؤوليتنا الانسانية الوطنية ونتصدى للعنصرية مستلهمين من روح وكلام المرحوم الرمز أدوارد سعيد. نحن لا نكره احد نحن نحب الحياة ونحبها بكرم الأخلاق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق