العبقري لظروف موضوعية أو ذاتية قد يفرض نفسه على عصره ، أو قد يكبو ويخفت فتبقى آثاره وإبداعه ونتائج تجاربه ليبرزها عصرٌ آخر ، وقد يفضله على الكثيرين من عباقرة أبناء عصره ، على كلّ حال : إنّ أبطال الساعة عظمتهم نسبية ، وسرّ نجاحهم صفة فيهم كان العصر في حاجة ماسة إليها ، وبعض الساسة والمفكرين الذين نجحوا في عصر من عصور التاريخ لتوفر صفة فيهم لازمة للعصر ، لم يكن من الميسور نجاحهم في عصر آخر ليس في حاجة لتوفر تلك الصفة ، بل قد تكون الصفة التي تكفلت بنجاحهم في إحدى العصور علّة لإخفاقهم في عصور أخرى ، وإن الأيام الأخرى تستلزم صفات أخرى ،ولكلّ عظيم شيعته وأتباعه من عصره أو العصور التالية ممن يتبعون فكره أو فنه ، أو تجاربه …يعينونه على تبليغ رسالته الإنسانية الخالدة الخفية البواعث ، وربما العبقري نفسه لا يعرف أسبابها ، ولا يدري بنتائجها ، والدنيا لم تعطِ أحداً ، كيف ستكون معه ، ولا مع غيره ، يجري … يجري ، والأقدار ترصده ، وتتربص به ، لتصيبه ذات يوم ، وكما يقول الإمام الشافعي :
مشيناها خطىً كُتبت علينا *** ومن كتبت عليه خطىً مشاها
ومَن كانت منيتهُ بأرضٍ *** فليس يموت في أرضٍ سواهــا
ولما ابن رومينا العبقري الذي خُلد بعد عصره ، رغم أنف معاصريه كالبحتري وابن المعتز والزجاجي وابن فراس اللغوي ، والقاسم بن عبيد الله الذي سمه بخشتنانة ، دسّها إليه هذا اللغوي اللغوي !! ، يقول ابن الرومي البغدادي:
وإذا أتاك من الأمور مقدرٌ *** وهربت منه ، فنحوه تتوجهُ
إذاً لماذا الهروب ، إذا كانت الدنيا تفرض عليك ما تريد هي ، لا ما تريد أنت من حيث الأمور الخفية المشكوك بأمرها،لا المظنون بأرجحية نتائجها المحسوبة، من هنا أرى أن العبقري يجب أن يفرض نفسه بالقوة الحاسمة دون تردد أو خوف أو وجل،وكما يقول المتنبي:
على قدر أهل العزم تأتي العزائمُ *** وتأتي على قدر الكرام المكارمُ
ويعجبني هذا البيت الجواهري:
تقحم لُعنت أزيز الرصاص ***وَجرِّبْ من الحظّ ما يُقسَمُ
بسيط أمر توظيف البيت لصالح موضوعنا ، فاجعله ( تقحمْ لُعنتَ صراخ الأنام..) ، تقحم ولا تبالي ،عندما ترى زمناً عاهراً بحكّامه ، وكن معهم إنساناً بالقوة ، إن كانوا لا يستحون من قوة إنسانيتك ، نعم الإنسان اجتماعي بطبعه ، لا يمكن أن يكفي نفسه بنفسه ، فالمجتمع متكامل ، وهو كائن عضوي يمتلك قوة عفوية خالقة ، ومبدعه كما يقول أرسطو ، ويعني مجتمع ناسه ، وشعبه ، لا حكّامه ، إن ظلموا وجاروا ، وتبختروا ، وباعوا ضمائرهم ، وأمتهم ، ووطنيتهم ، وسعوا لتقسيم الأمة والوطن قهراً ومصلحة ، وبالتالي قتل المجتمع ، وغدره من وراء حجاب ، فذلكة الأقوال ، عندما يكون الحاكم إنساناً بالقوة ، يجب أن يجابهه العبقري ، ويكون عبقرياً بالقوة ، وهذه النقطة تذكرني بنابليون بونابرت ، وشاعر الألمان العظيم غوته ، ففي أحد المحافل الذي جمع البطل والعبقري ، دخل الأخير متأخراً – ربما لغاية في نفس يعقوب – وأخذ مكانه آخر مفعد قاعة المحفل ، ووقف الجمع كلّه ، بمن فيهم نابليون ورجاله الأشداء ، فقال نابليون القائد الضرورة !! : سيدي الشاعر العظيم ، تفضل بقربي للتتصدر المجلس ، فأجابه ، غوته العظيم ، أنّى يجلس غوته ، هو صدر المجلس ، وكان الرجلان على خلاف بسبب احتلال فرنسا للأراضي الألمانية ، لا تواضع ى، ولا ضعف ، عندما يكون الزمن بحكامه الأغبياء ، لا يعرف ، ولا يفقه لغة التواضع ، واحترام العبقرية الإنسانية والوطنية !! فعلى الرجال العظماء أن يقحموا زمانهم بالقوة إضافة إلى قوة عبقريتهم وعظمتهم ، ومن هنا تتولد لحظات الحسم والتطور الخلاق في حياة الأمم...!!
والحق إن الطبيعة ، لا ترسل رجلاً عظيماً إلى هذا الكوكب دون أن تفضي بهذا السر إلى روح أخرى ، وهذه تختلف عن وجهة نظر نقاد التاريخ الماركسيين الذين ينقصون من قيمة العامل الشخصي ، أو النزعة البطولية في الحركة التاريخية ، لأن الدوافع الاقتصادية ، والعوامل المادية لها في رأيهم المكان الأول في سيرالتاريخ ،وتطوره ، و أحداثه ، وانقلاباته ، كما يقول الفيلسوف الأمريكي والف والدو إمرسن ( 1803 – 1882) في ( ممثلو الإنسانية).
من وجهة نظرنا أن أحداث التاريخ في لحظاته الحاسمة ، أعقد من أن تنطبق عليه ، وجهة نظر واحدة ، وكما يقول عبقرينا الخالد ، أبو العلاء المعري:
سألتموني فأعيتني إجابتكم *** من ادّعى أنّه دارٍ ، فقد كذبا
أنا أرى الله جلياً وراء أحداث التاريخ ، ليس بسبب وراثتي ، وبيئتي ، وإنما نزولاً واحتراما لقناعاتي التامة بعد دراسة عميقة، وتدريس ، واستلهام مدرسة الحياة ، ، والحياة أوسع مما في عقولنا ، وذكرت ذلك في مقطوعة شعر من قصيدة رثائية مطولة:
أرى الحياة َ كسرٍّ، لطفُ بارئها ***أعيى العقــــول َ، بما تحويه ينكتمُ
إنّ التـــــوازن َ- جـــلّ اللهُ مقدرةٌ - ***مــن الخلية ِ حتى الكون منتظم
سبحان منْ أبدع التكوينَ في نسق ٍ * لا ينبغي أنْ تحيدَ الشمسُ والنجمُ
وتارة ً قد نرى في طيشها عجباً ****لا العـــــــدلُ بين ثناياها ولا القيمُ
تـــــأتي المنية ُللصبيان ِتغصبهمْ ****روحَ الحياة، ويُعفى العاجزُ الهرِمُ
أنّى ذهبـــــــتَ لتسعى في مناكبها***هـــــــــــي المظالم ُ مَلهومٌ ومُلتهِمُ
فالضرغمُ السبعُ عدّ الأرض ساحتهُ**والكلبُ مــــا نالّ من عظم ٍ وينهزمُ
والغيثُ يهطلُ فــــوق البحر من عجز ٍ**ولا تدرُّعلــــــــــى تربائها الديمُ
" دع ِ المقـاديرَ تجري فـي أعنّتها" ** لا العلم ُ يدركُ مغزاها ولا الفهِــمُ
الزمن يسير كاللمح البارق لتحديد مصير شعوب وأمم ، والدنيا تؤخذ غلابا ، وأرى ثلّة من هذا الناس ، بل من هذا الوطن الجريح المظلوم ، الغاط في سبات عميق ، لا يدري بما يّحاك ضده ، ومستقبل أجياله – لصغر عقولهم ، وعمى بصيرتهم ، ومنهم لحقارة نفوسهم ، وضآلة عمالتهم ، وتعددية مصالحهم النتنة كنفوسهم ، ويشهد الله لم أقل قولي جزافاً – يحاربون الفكر الوطني الحر الشريف ، والعبقرية الوطنية الإنسانية ، ويضعون العراقيل والخزعبلات أمامها ، وهم في غيّهم سارحون ،ولذاتهم الدنيئة الرخيصة ناهمون كالحيوانات التي لا تفقه أمسها ولا غدها ( اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب ..!!) ، بل وبقيدهم يتعثرون ، وبأوامر غيرهم يسيرون ، ويسيّرون ،ولا يؤمنون أن أي جماعة – أو فرد – لا يمكنها أن تدّعي أنّ الدنيا أعطتها صكاً على بياض تضمن فيه مصلحة أوطانها – ناهيك عن أوطان غيرهم – ، أوالإنسانية بشموليتها ولله الأمر من قبل ومن بعد ، ونكرر مع لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل *** وكل نعيم لا محالة زائل
شكراً إلى اللقاء في الحلقة الثانية ، وكلّ آت قريب ...!!
كريم مرزة الأسدي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق