متى يحين موعد نهضتنا ؟ لِـمَ لـمْ نحاول النهوض بعد؟ لِـمَ فُرض علينا لعب دور المستهلك والعجز عن ولوج عالم الإنتاج والإبتكارات العلمية؟ هل تتحمل الحكومات مسؤولية حجزنا في فيافي الجمود أم هي مسؤولية النخبة والمتمولين من المغتربين والأحزاب السياسية والجمعيات والنقابات ؟ وهل للتطرف المذهبي دور في تحجير العقول وسجنها في غياهب الماضي؟ تلك التساؤلات وما يقع في حكمها سوف نقوم بمحاولة متواضعة ، وبما تيسر لنا من معرفة محدودة بمحاولة للتطرق إليها ومقاربتها عبر مقارنة تاريخية بالنهضة الأوروبية، أسباباً ونتائج.
طوال ما يقارب الثلاثمائة عام، أي ضمن الفترة الممتدة بين القرنين الرابع عشر والسابع عشر، كانت أوروبا على موعد مع حركة نهضوية علمية وأدبية أدت في نهاية المطاف إلى جَـسْرِ الهوة الثقافية بين الحضارة اليونانية – الرومانية، التي خبت في القرون الوسطى، أو ما يعرف بعصر الظلام، والحضارة الأوروبية الحديثة التي عرفت بالنهضة الأوروبية.
ذلك ما حدا بالعديد من المؤرخين والأدباء وعلماء الإجتماع في العالم العربي إلى التساؤل : ومتى يحين موعد نهضتنا التي ذهبت في سبات مديد منذ عصر الانحطاط في 1258 مع نهاية الخلافة العباسية، التي قدمها خلفاؤها الأخيرون لقمة سائغة مضغتها ومزقتها أنياب و براثن من استقدمهم أولئك الخلفاء للدفاع عنهم كالأيوبيين والأخشيديين والمماليك وسواهم إلى أن انتهى بنا المطاف تحت الاستعمار التركي لما يقارب الأربعمائة عام وبعده الإنتدابات المتعددة من فرنسية وبريطانية وسواها. هناك من يقول وعبر الوقائع التاريخية بأن رصاصة الرحمة التي أطلقت على جسد الحضارة العربية تزامنت مع حدثين مفصليين في العام 1492 ، الحدث الأول تمثل بسقوط غرناطة آخر المعاقل العربية في الأندلس، وأكمله الحدث الثاني باكتشاف كريستوف كولومبوس لأميركا، وما عاد به ذلك الاكتشاف من ثروات استغلتها القوى الأوروبية السائدة في حينه في تطوير إمكانياتها العلمية لغزو الأمم الأخرى وإخضاعها ونهب خيراتها.
وبانتظار قدوم الزمن الذي نحتاج فيه إلى الاستفادة من دروس النهضة الأوروبية التي بدأ وميضها في إيطاليا، والتي حدثت بالتدريج وعلى فترات متباعدة نسبياً، ينبغي استحضار استعانة رواد النهضة بورشة إعادة إعمارٍ اتكأت على مداميك الحضارة اليونانية-الرومانية، والركون إلى الإختبارات العلمية المستندة على اليقين العلمي وليس على الإيمان العبثي المتجاهل للعقل، والدعوة إلى اعتبار الحياة كقيمة قائمة بحد ذاتها وليس كتحضير للذات للحساب يوم الآخرة فحسب، والتمتع بمباهج الحياة الناتجة عن العلمانية بدلاً عما كانت تطرحه الكنيسة الكاثوليكية في حينه.
إضافة إلى ما تقدم ذكره، هناك على سبيل المثال لا الحصر الموقع الجغرافي لإيطاليا بموقع القلب في جسد الحضارة اليونانية-الرومانية السابقة وكذلك موقعها على الجانب الغربي من البحر الأبيض المتوسط، وما جنته من ثروات كثمرة للتجارة بين الشرق والغرب خلال وبعد الحروب الصليبية. كذلك دور رجالاتها من النخبة الإيطاليين الذين منهم من تبوأ منصب البابوية في الفاتيكان.
أشهر تلك العائلات في مدينة البندقية آل سفورزا في ميلانو وآل ميديتشي في فلورنسا، وكلا المدينتان كانت تحوي الكثير من الأعمال الإبداعية لفنانين ومعماريين من العصر اليوناني-الروماني كالتماثيل والمباني والطرقات.
كان آل ميديتشي يحكمون فلورنسا في القرن الخامس عشر، أبرزهم لورينزو ميديتشي الذي كان مشجعاً للآداب والفنون. في فلورنسا سطع نجم العديد من الرسامين والنحاتين والمهندسين المعماريين والكتاب، ومنها انتشرت مبادىء الثورة النهضوية إلى فرنسا والمقاطعات الألمانية وهولنده وإنكلتره وسائر أنحاء أوروبا، ما جذب الكثير من الموهوبين من خارج إيطاليا للقدوم إليها كي يكتسبوا من المهارت المتوفرة فيها، ولمعاينة معالمها المعمارية والفنية سيما الكنائس والمباني الرائعة المميزة بنقوشها.
ما أسهم في إضافة مدماكٍ مهم آخر للنهضة هو استفادة حكم لورينزو ميديتشي من نتائج حركة أدبية ذات بعد أنساني تدعى "الإنسانوية" انطلقت في القرن الرابع عشر، وهي حركة اعتبرت نفسها غير معنية بالأمور الدينية إنما بالهموم اليومية الدنيوية للبشر، أينما كانوا، استمدت روحيتها من ينابيع الحضارة اليونانية-الرومانية ودعت لاعتناقها، حازت تلك الحركة على اهتمام واضح من عدد من الأدباء والمثقفين منهم بيترارك "Petrarch" ، بيكو ديلاميراندولا "Pico Della Mirandola"، إيرازموس "Erasmus"، والسير توماس مور "Sir Thomas More" حيث شجعت على تصعيد وتيرة الكتابة باللغات العامية الفرنسية والإيطالية والأسبانية والألمانية والإنكليزية، كاسرة بذلك احتكار اللغة اللاتينية كلغة عامة ورئيسية للقراءة والكتابة والمعارف، مفسحة في ذلك مجالاً واسعاً لنشر الثقافة بين العامة، بينما كانت الكنيسة الكاثوليكية تدعو لاستخدام اللاتينية لعدة قرون خلت.
من الشعراء والأدباء الذين سبقوا "الإنسانوية" في الكتابة بالعامية "دانتي Dante" عبر تأليفه للكوميديا الإلهية، والتي قد تكون السبب في حيازته للقب " أب إيطاليا الحديثة" ، بوكاشيو "Boccaccio"، وشوسيه "Chaucer". تزامنت تلك الموجة العامية مع ابتكار الألماني يوهان غوتينبيرغ للطباعة ما زاد في عدد الكتب بشكل كبير مقارنة بما كانت تتسم به الكتابة اليدوية من بطء وأخطاء.
من أبرز كتاب النهضة كان ماكيافيلي "Machiavelli" مؤلف كتاب "الأمير" الذي أبرز حكمه "الغاية تبرر الوسيلة" "the end justifies the means" ، و رابيليه "Rabelais" و مونتانيه "Montaigne" و سيرفانتيس "Cervantes" مؤلف "دون كيشوت" و ميلتون "Milton" الذي ذكر بأسلوبه الشيق نظرية "الخلق" كما وردت في الإنجيل، ومؤلف "الفردوس المفقود" ، وموليير "Moliere" مؤلف "مريض الوهم" .
وفي نطاق الرسم والنحت والموسيقى برز عمالقة لا زالت أبداعاتهم تتسنم قمة الهرم الفني كـ غيوتو "Giotto" ، غيبيرتي "Ghiberti" ، دوناتيللو "Donatello" و ليوناردو دا فينتشي صاحب إبداع "العشاء الأخير" و الموناليزا، ومايكل أنجلو، وتيتيان "Titian" ، ورافائيل "Raphael" و باليسترينا "Palestrina" ، و إلغريكو "El Greco" الذي رسم لوحة المرفع .
في الوقت الذي تخلصت فيه أوروبا منذ ما يقارب الثلاثة قرون من شباك الصراعات المذهبية وأرست أسس منطق الدولة، لا زلنا نحن نعاني وباء دعوات غيبية تغرقنا أكثر فأكثر في مستنقعات المذهبية وتشدنا إلى الخلف لأكثر من ألف سنة.
عود على بدءٍ وإلى المربع الأول : متى نصبح مجتمعات تنسج ما تلبس وتزرع ما تأكل وتعصر ما تشرب حسب تعبير جبران ؟ متى يحين موعد نهضتنا ؟
يسعدني لقاؤكم في مقال قادم .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق