نعمةُ الثورة العلمية الهائلة وبحرُ بحرِ المعارف والتجارب والتبصر والاختبارات والإيمان عن طريق العقل تقابلهما راهناً نقمة الغيبية والإيمان التلقيني الذي يعفي صاحبه من التفكير والتحليل والاستنتاج. أليس ذلك ما ذهب إليه ليو تولستوي في إحدى ومضات رائعته " آنا كارنينا" قبل حوالي قرن ونصف من الزمن حين أشار إلى فضيلة الإيمان العقلاني؟
ومن معين الشاعر محمد الماغوط نستقي مقطعاً مُعبِّراً يقول فيه :
"منذ أن خُلقَ البردُ والأبواب المغلقة
وأنا أمدّ يدي كالأعمى
بحثاً عن جدار
أو امرأةٍ تؤويني
ولكن ماذا تفعل الغزالة العمياء
بالنبع الجاري ؟
والبلبل الأسير
بالأفق الذي يلامس قضبانه ؟"
لا بدّ من توسيع فتحة الكاميرا وضبط بؤرتها علَّ ذلك يسهم في توضيح رؤية تشابه المشهد الديني الراهن لمقارنته مع ما سبق منذ زمن الفراعنة ولغاية اليوم من معتقدات أديان ومذاهب فلسفية ونظم اجتماعية تدعو للخير وتنبذ الشر وتعد بالخلاص الأبدي، ولكن .. في نهاية النبذات سوف نصطدم بـ "لكن" و "إنما" :
1- الفراعنة : عبد المصريون عدة آلهةٍ كان كبيرهم هو رع إله الشمس، ثم أمون إله مدينة الطيبة التي صارت تسمى مدينة الأقصر لاحقاً، و أوزيريس قاضي الموتى . آمن المصريون بالحياة بعد الموت ولكن تلك المنحة لم تكن لينعم بها الجميع، بل فقط أولئك المؤمنون الذين يسيرون على "الصراط المستقيم" الذي فصَّـله كهنتهم على مقاس مصالحهم، ذلك ما يعادله في يومنا هذا مواطن صالح يعمل ويأكل وينام ويتكاثر. حيث يحظى ذلك المؤمن برضى أوزيريس عنه، ويتم دفنه بطقوس تتخللها ترانيم دينية وسرد فضائله الأخلاقية منها : " لم أسرق، لم أقتل، لم أكذب، منحت خبزاً للجوعى وماءً للعطشى" .
ما الذي طبقه الحكام الفراعنة من تلك الفضائل؟ ما حدث هو العكس، إذ سخَّـر الفرعون خوفو 100,000 رجل ظلوا يعملون لمدة 20 عاماً ، مات الآلاف منهم جوعاً وعطشاً وإرهاقاً، ورغم ذلك حظي خوفو بجنازة مهيبة وحجز مقعده في قطار التاريخ. من منا يعرف اسماً واحداً لأولئك البؤساء الذين شاء نصيبهم من هذه الدنيا أن يكونوا فقراء ضعفاء معدمين وليسوا من الطبقة المحظية.
عام 1375 ق.م. دعا الفرعون أمنحوتيب الرابع، المعروف أيضاً بأخناتون، إلى عبادة إلهٍ واحد هو إله الشمس الجديد آتون، وُوجِهَ أخناتون بمعارضة شديدة من الكهنة لخشيتهم من فقدان نفوذهم (هل يذكرنا ذلك بما كتبه جبران عن رجال الدين؟؟ ) ، كما وُوجهَ من قبل الأفراد الذين خافوا من عقاب آلهتهم التقليدية. وبعد موت أخناتون عاد المصريون إلى عبادة عدة آلهة. أليس هذا ما يتكرر منذ آلاف السنين ولغاية تاريخه؟ أي خوف الـمُتَنـفَّذ عليه من الـمُـتنـفِّذ؟
2- اليونانيون : عبد اليونانيون عدة آلهةٍ كان كبيرهم هو زيوس إله الآلهة والذي لازالت عبارة "الخوف من الله" تحمل اسمه (Zeusophobia)، وأبولو إله الــشمس، وأثينا إلهة الحكمة، وأفرودايت إلهة الحب. افترض اليونانيون بأن تلك الكائنات المقدسة تقيم على قمة جبل أوليمبوس، وبأن الكاهن يستلم الوحي من الآلهة في أماكن تدعى وسيط الوحي (Oracles). إذاً هي ليس محض صدفة أن يكون لدينا فائض من الوسطاء يكفي العالم ويزيد إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، كوننا واليونان جيران، وكون أسلافهم يزعمون بأن لآلهتهم تأثير على مظاهر البشر وخصائصهم. وفي عصرنا الراهن، عصر الحاسب الآلي والتواصل الإجتماعي يزعم البعض أن ملائكةً ترتدي الأبيض ساعدته في حربه بالسيوف ضد الدبابات.
3- في روما القديمة عبد الشعب جوبيتير كبير الآلهة، ومارس إله الحرب، ونبتون إله البحر، وفينوس إلهة الحب. ولكن لماذا لم يحترم نيرون تعاليم فينوس ؟
4- البابليون : انطلقوا من شبه الجزيرة العربية عام 1900 ق.م. إلى جنوب العراق، وفي عام 1750 ق.م. أسسوا في جنوب بلاد ما بين النهرين المملكة البابلية تحت حكم ملكهم حمورابي المشهور بقانونه المعروف كأول قانون في العالم الذي ينص على مبدأ عقاب "العين بالعين"، حيث ينزل عقاباً شديداً بمرتكب الرشوة والسرقة والغش بالوزن والمقاييس والتسبب بالضرر لممتلكات الغير، وتكون درجة العقاب أقسى في حال كان المخالف من العامة ضد أحد النبلاء أو الكهنة. منح النساء حق امتلاك عقارات وممتلكات أخرى وحق إدارتها، أرسى أسس إدارة الأعمال عبر ضوابط ومعايير تحمي الممتلكات بموجب عقود، وضع حداً لنسبة الفائدة على القروض وحدَّد ضوابط لرواتب العمال. ولكننا نتساءل : لماذا على العامة أن يعدلوا بالوزن والمقاييس ويعفي حمورابي نفسه من العدل في التمييز الظالم والمحاباة بالحكم بين الكهنة والنبلاء من جهة والعامة من جهة أخرى؟
5- الهندوسية : وهي أقدم الديانات، انبثقت الديانة الهندوسية بحدود القرن الخامس عشر قبل الميلاد من فكرة فلسفية-دينية تدعى الـ فيدا Veda ، أركان الهندوسية هم : براهما (الخالق)، فيشنو (الحافظ) ، وسيفا (المدمر). ولتطهير نفس الهندوسي وتنقيتها عليه أن يؤدي واجباته الدينية وينتهج "الصراط المستقيم" إذ تشمل تلك الواجبات الصلاة ومهابة كهنة البراهما والخضوع التام لتعليماتهم، والحج إلى نهر الغانج، صراطهم المستقيم يستلزم تجنب الكذب والحسد ويدعو إلى طلب المعرفة وبذل الصدقات وتجنب ممارسة العنف والتقيد بنظام الطبقات المعمول به في حينه. وبما أن تطهير النفس يتطلب عدة حيوات فقد آمن الهندوس بالتقمص، حيث يجازى الذي لا يحترم التعاليم الدينية في حياته السابقة بأن يولد في حياته الجديدة في طبقة أدنى من التي كان ينتمي إليها، أو التي كان يوضع فيها سابقاً، أو أن يتقمص جسد حيوان، والعكس بالعكس. وهذا لعمري من أعجب وأغرب أنواع الثواب والعقاب.
بقيت ميزة تجنب ممارسة العنف سارية لغاية أيام غاندي. تلك الميزة مطلوبة وموضع احترام دون شك، إنما، ألا يمكن تفسير تلك الميزة كدعوة للخضوع والإذعان كي ينجح المواطن في الإمتحان؟
6- البوذية : في القرن السادس قبل الميلاد دعا أحد النبلاء الهندوسيين واسمه غوتاما إلى اعتناق ديانة جديدة اسمها البوذية، ترفض نظام الطبقات الهندوسي وتقوم على فكرة مفادها أن سبب معاناة الإنسان يتجسد في شهواته والتي يمكن قهرها والتغلب عليها بالتخلي عن الأمور المادية، وبكبح الرغبات والعواطف وإنكار الذات، وباحترام جميع المخلوقات، والسعي لكسب المعرفة وتكريس الإنسان نفسه لعمل الخير، والنطق بالصدق والتصرف بكرم نفس، وبذلك ينال أعلى درجات الرقي بالنفس (النيرفانا) .
7- الشنتو : وهي الديانة التقليدية في اليابان ولا يعرف مؤسسها، إنما هي مجرد إيمان متجذر في نفوس اليابانيين الذين يعتقدون بأن الإنسان خـيِّـرٌ بالفطرة، وبأن الأرواح الشريرة هي التي تتسبب بالشر فيقاومونها بالصلاة وفعل الخير. لا يوجد نصوب دينية لآلهة الشنتو الذين يعرفون أيضاً باسم "كامي" .
8- المسيحية : تتلخص تعاليم السيد المسيح عليه السلام بفضائل عديدة منها الاعتراف بوحدانية الخالق عز وجل، وبأن جميع البشر أخوة بالإنسانية، يدعو إلى محبة الله قبل كل شيء وإلى محبة الجار بقدر محبة الذات، النفس البشرية مقدسة، وعلى المؤمن أن يتبع طريق الخير والعدل والتعامل مع الغير كما يتوقع من الغير أن يعامله، وبأن جميع البشر الذين يتخلصون من ذنوبهم يمكن أن يحظوا بالخلاص الأبدي. ولكن، وعلى سبيل المثال لا الحصر، عند اندلاع الثورة الفرنسية شذّ الإكليروس الفرنسي من أعلى هرمه ولغاية أفقر قس في هيكله التنظيمي عن تلك القاعدة، انحاز للدنيا والباطل على حساب الحق والدين كونه كان يشكل الطبقة الأولى ذات الإمتيازات العظيمة مالاً وجاهاً ونفوذاً ، تليه طبقة النبلاء كطبقة ثانية، الطبقتان كانتا تشكلان 3 بالمئة من الشعب الفرنسي، وتملكان معظم الأراضي، لهما 600 صوت في البرلمان وللـ 97 بالمئة من بقية الشعب 600 صوت، العبرة ليست هنا فقط، بل بالطريقة التي تقر بها القوانين بحيث يحسب صوت لكل طبقة من الطبقات الثلاث. وعند التصويت يتحد صوت الإكليروس مع صوت النبلاء ضد صوت بقية الشعب (بورجوازية وتجار ورجال أعمال ومهن حرة وعمال وفلاحين). والنتيجة معروفة سلفاً مثل نتائج الإنتخابات في البرلمانات العربية وبعض الدول الأخرى.
ما الذي يبقى من تعاليم السيد المسيح بعد كل تلك المظالم والمخالفات الصريحة؟
9- الإسلام : تتلخص تعاليم الإسلام كما ذكرها النبي محمد (ص) في القرآن الكريم بفضائل عديدة على رأسها الإقرار بوحدانية الخالق عز وجل. تأدية فروض الصلاة كل يوم، والصوم خلال شهر رمضان المبارك، والحج والزكاة وتجنب الميسر والكحول، دعا لإكرام الوالدين والتعامل مع المسلمين الآخرين كأسرة واحدة. وبأن المؤمن سوف يكافأ في الآخرة خيراً، والمجاهد في سبيل الله يضمن دخول الجنة، ولكن ، ليس لمن يجزُّون الرؤوس ويلتهمون القلوب والأكباد، ولا لمن يفتعلون الحروب والثارات التاريخية استعجالاً لقدوم المهدي المنتظر و يخفون أهدافاً سياسية واقتصادية تحت عباءة الدين ويستقوون على من يُـفترض بأنه أخيهم في الدين بمسلمين وبغير مسلمين. ألا يذكرنا ذلك باستقواء العباسيين بالأيوبيين والأخشيديين والمماليك وسواهم على بني جلدتهم؟ أين ذلك من سماحة الدين الحنيف وتعاليمه الكريمة لحفظ النفس البشرية وفضيلة الأخوة؟
10- اليهودية : يقول النبي ميخا :"ما عليك حيال خالقك سوى أن تتصرف بعدل ورحمة وتمشي بتواضع" . كما يقول أبرز المبشِّرين العبريين هيلليل، الذي ولد في بابل عام 110 ق.م. وتوفي في القدس عام 10 بعد الميلاد : " لا تفعل للآخر ما تكرهه لنفسك" . تقر الديانة اليهودية بوحدانية الخالق وتعد بالخلاص الأبدي. ولكن ماذا عن احتلال أراضي الغير وإخضاع الشعوب وتشريدها؟ لو عاد النبي ميخا سوف يشاهد الميركافا تتبختر بعيداً عن التواضع الذي دعا إليه، ولرأى المبشر هيلليل عربدة الـ إف 16 تجول بصلف فوق أراضٍ احتلها خَلَفُهُ بالقوة وشرّد أهلها.
11- الأيزيدية : طائفة قليلة العدد نسبياً، حوالي 250 ألف نسمة، منبتها شيخان شمال شرقي الموصل و جبل سنجار في العراق، ظهرت إلى الوجود في القرن الخامس عشر ميلادي. رمز القدسية لديها هو الطاووس، وأهم أوليائها عدي بن مسافر، يقال بأنه لبناني المولد. لا يعرف العامة الشعائر الدينية ولكنهم ملزمون بطاعة النخبة الدينية. هناك عدة مصادر تتنوع في التعريف بطقوس هذه الطائفة، لسنا في وضع المتأكد من أي منها.
12- الزرادشتية: اتبع الفرس تعاليم النبي زرادشت في القرن السادس قبل الميلاد الذي قال بأن الأهورا-مازدا هي إلهة النور والخير التي تحارب أهريمان الذي يمثل روح الظلام، وبأن أولئك الذين يتبعون الأهورا-مازدا بحسن سلوكهم سوف يذهبون إلى الجنة، وأولئك الذين يتبعون أهيرمان سوف يعاقبون بالذهاب إلى الجحيم. وبأن الخير سوف يسود في النهاية ويعم السلام.
13- الطاويّة : في القرن السادس قبل الميلاد دعا الفيلسوف الصيني لاو تسي إلى تخفيف سيطرة الحكومات على عامة الشعب، وبما أن القوانين لا تسهم في تحسين الظروف، حسب تعاليم لاو تسي، فعلى الحكومات السماح للشعب بتدبر شؤونه. كما تدعو تلك التعاليم أتباع لاو لقبول ما يصيبهم في حياتهم، وبأنهم سوف يحظون بالراحة والاطمئنان عبر تصرفهم بتواضع وتخليهم عن الثروة والجاه، وعليهم أن يعيشوا حياة بسيطة عادية طبقاً للتعاليم الطاوية. ولكن ، هل التزم الطاويُّون بتعاليم لاو تسي الطوباوية ؟ أم أنهم كما نقول بالعامية اللبنانية :"لبسوا قبعهن ولحقوا ربعهن" ؟! أي فعلوا ما فعله الآخرون.
الخلاصة : لا نرى خلاصة أبلغ مما أوجزه الشاعر الفرنسي جان دي لا فونتين : "حجة الأقوى هي الأفضل" ، والواقع يقول بأنها الأقوى وحتى إشعارٍ آخر.
وإلى اللقاء في مقال قادم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق