منذ بدء العمل بالدستور الديمقراطي في كوريا الجنوبية في 1987 وحتى الانتخابات الرئاسية الماضية في 2013 تعاقب على السلطة في كوريا الجنوبية 5 رؤساء كان لكل واحد منهم تاريخ طويل من النشاط السياسي ضد الديكتاتورية العسكرية والتعرض للمطاردة والنفي والإعتقال ومحاولات الاغتيال. ورغم أن هؤلاء نجحوا في الوصول إلى البيت الازرق الرئاسي تسبقهم سيرة نضالية ناصعة معطوفة على خبرات سياسية أو إقتصادية، بالإضافة إلى عصامية فذة كما في حالة الرئيس "كيم داي جونغ" إبن الأسرة المتواضعة الذي واصل دراسته في جامعة كمبردج البريطانية إعتمادا على نفسه، فوصف لاحقا بأكثر رؤوساء آسيا علما وثقافة، وحالة الرئيس "لي ميونغ باك" الذي بدأ حياته جامعا للقمامة قبل أن يصبح رئيسا لشركة هيونداي الانشائية العملاقة، فإنهم خرجوا من السلطة يلحقهم عار الفساد الناجم أحيانا عن سوء تصرفاتهم، وأحيانا أخرى عن سوء تصرفات المحسوبين عليهم من الأقارب أو المساعدين.
لقد شكل هذا ظاهرة احتار المراقبون في تفسيرها، وتباينت آراؤهم حولها. فقد عزاه البعض إلى ثقافة الفساد المتفشية في كل مفاصل المجتمع والدولة حتى وصلت إلى أعتاب السلطة القضائية التي يجب أن تكون في منأى عنها. وعزاه البعض الآخر إلى الثقافة الكونفوشوسية التي تراعي الضمانات الإجتماعية غير المكتوبة، بمعنى أن رأس الحكم أو الإدارة مسئول شفاهة عن تقديم تسهيلات وضمانات للرعية مقابل قيام هؤلاء بدفع الثمن له في أشكال مختلفة مادية وغير مادية مثل الولاء والطاعة وتجنب الخيانة.
لكن هناك من علق على الظاهرة قائلا: "إذا كانت السلطة مفسدة فإن على الكوريين الجنوبيين أن يكونوا شاكرين لأن خمسة من رؤسائهم المنتخبين منذ ميلاد الديمقراطية في عام 1987 لم يمتلكوا من القوة والنفوذ المطلق ما يساعدهم على إخفاء فسادهم في بلاد اعتادت على أن ينخرط مدراء شركاتها وأقاربهم وزوجاتهم وأبناؤهم وبناتهم في أعمال الفساد، كل بحسب ما تحت يديه من سلطات ونفوذ وصلاحيات، بل في بلاد اعتادت صحافتها على أن تشير إلى مثل هذه القضايا قبل التأكد منها".
فالرئيس "كيم يونغ سام" الذي تولى الرئاسة من 1993 إلى 1998 لاحقته قضية تورط إبنه في فضيحة تلقي رشاوي من إحدى شركات البلاد العملاقة دون أن يحاسبه على جريمته. هذا ناهيك عن تردد أنباء عن قيام الرئيس نفسه بقبض رشاوي من مجموعة "كيا" الصناعية العملاقة مقابل دعوة رؤسائها لحفلات العشاء في القصر الرئاسي. كما ثارت تساؤلات حول مصدر الأموال الضخمة التي أنفقها على حملاته الانتخابية والتي قدرت بنحو بليون دولار أمريكي.
وخلفه الرئيس الالمعي "كيم داي جونغ" الحائز على جائزة نوبل للسلام والذي تولى الرئاسة من 1998 إلى 2003 تلوثت سمعته الناصعة بانخراط أولاده الثلاثة في صفقات مشبوهة واستغلالهم لإسم والدهم في الاثراء غير المشروع، عدا ما قيل عن قيام الرئيس نفسه بدفع رشوة بقيمة نصف مليار دولار لنظيره الكوري الشمالي "كيم جونغ إيل" كي يبعث له الأخير دعوة رسمية لزيارة بيونغيانغ.
بعد ذلك جاء دور الرئيس "روه هو هيون" إبن الفلاح الفقير الذي قاد كوريا من 2003 إلى 2008، والذي خضع لتحقيقات بعد خروجه من السلطة بتهمة تلقيه مع زوجته أموالا من أحد رجال الأعمال على سبيل الرشوة مقابل تعيين شخصيات معينة في مناصب رفيعة. وبينما كانت التحقيقات مستمرة أقدم هيون على الانتحار تخلصا من العار.
أما الرئيس "لي ميونغ باك" الذي تولى من 2008 إلى 2013 فقد انهى عهده بفضيحة تمثلت بتلقي شقيقه لرشوة بقيمة 700 ألف دولار، والحكم على الاخير بالسجن لمدة عامين، لكن خصومه ظلوا يصفونه بامبراطور الفساد ويزعمون انه اخفى أرصدة واشتغل في أنشطة سرية.
كانت هذه مقدمة ضرورية كمدخل للحديث عما تواجهه زعيمة كوريا الجنوبية الحالية السيدة "بارك غيون هي" اليوم من مطالبات جماهيرية لاخراجها من السلطة والتحقيق معها بتهمة الاحتيال والاهمال واستغلال النفوذ.
وحالة السيدة بارك تختلف عن حالات أسلافها. فهي لم تصل الى السلطة قبل أربع سنوات تقريبا الا بسبب تعاظم الحنين الى زمن والدها الديكتاتور "بارك تشونغ هي" الذي حكم من عام 1961 وحتى مقتله غيلة برصاصات رئيس مخابراته في 1979 ، والذي نجحت كوريا في عهده في تحقيق نمو اقتصادي مثير للإعجاب وبالتالي إرساء قواعد دولة صناعية رائدة، وهي من ناحية أخرى لم تتورط في قضايا فساد ورشوة من النوع الذي تورط فيها أسلافها، لكنها تواجه اليوم أزمة من نوع جديد، وذلك بعد تسرب أنباء في شأن إنتمائها إلى طائفة دينية.
إلى هنا فليس في الأمر ما يستوجب التظاهر ضدها والمطالبة باقالتها ومحاكمتها لأن الكوريين أحرار في ما يعتنقون. غير أن المشكلة تكمن في مزاعم بأنها اجرت داخل القصر الرئاسي طقوسا دينية لتحضير الأرواح، وارتبطت بعلاقات وثيقة مع إبنة زعيم الطائفة الدينية المذكورة "شوي تاي مين" وهي سيدة ستينية لا تتولى منصبا رسميا وتدعى "شوي سون سيل". ويــُحتمل أن تكون الرئيسة، بحكم علاقتها بالأخيرة، قد أطلعتها على أسرار الدولة وخضعت لتوصياتها في موضوع تعيين المسئولين، وأمر إجبار الشركات الكبرى مثل "سامسونغ" على دفع خوات لمؤسسات غير ربحية أسستها شوي لحسابها في ألمانيا. ومن هنا لقبتها وسائل الإعلام بـ "راسبوتين" في إشارة إلى ممارستها لدور مشابه لما كان يمارسه الساحر الروسي "غريغوري راسبوتين" على القياصرة الروس.
وجملة القول أن الرئيسة بارك تواجه موقفا حرجا قبل انتهاء فترة رئاستها بعام واحد، بدليل انخفاض شعبيتها إلى أقصى حد، ومطالبة أكثر من 67 بالمائة من الكوريين بضرورة إقالتها. ولم تنجح في مداواة جراحها من خلال بعض الإجراءات التي سارعت إلى اتخاذها مثل اعتذارها للشعب مرتين عن خضوعها لسطوة إمرأة مشبوهة، وإجراء تطهير في حكومتها وصفوف مستشاريها، واعلانها عن عزمها تشكيل حكومة وحدة وطنية تضم اعضاء من المعارضة، ناهيك عن موافقتها على القبض على صديقتها شوي بمجرد عودتها من ألمانيا التي فرت إليها في سبتمبر الماضي، الأمر الذي دفعها مؤخرا للقول: "أترك للبرلمان كل شيء بشأن مستقبلي بما في ذلك تقليص فترة رئاستي".
حقا أنه لأمر غريب، أن يقود بلد الصناعات والعقول الإلكترونية سيدة تحضر الارواح وتخضع في قراراتها ومراسلاتها لسطوة إبنة مشعوذ! لكنها، على أي حال، دفعت الثمن قبل يومين بقرار برلمان بلادها عزلها من منصبها بأغلبية شارك فيها نواب من حزبها.
د. عبدالله المدني
* استاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين
تاريخ المادة: ديسمبر 2016
الايميل: Elmadani@batelco.com.bh
تويتر:@abu_taymour
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق