كتاب الناصرة في الوجدان .. تسجيلا هاما للذاكرة الجماعية/ نبيل عودة


"الناصرة في الوجدان الثقافي"- عنوان مثير ويلفت الانتباه. وهو عنوان الكتاب الذي اعده الأستاذ كريم شداد مسجلا به سنوات نشاطه كمدير المعهد العالي للفنون وبيت الكاتب في مدينة الناصرة من عام 1994 الى عام 2007.
الناصرة لها تاريخ ثقافي حافل، شهد مراحل صعود وهبوط مختلفة ، واستطيع ان اقول اني رافقت مراحل النشاط الثقافي في الناصرة بتواصل منذ بداية الستينات، ككاتب اولا وكصحفي ثانيا وكناشط سياسي واجتماعي ثالثا. تابعت الإصدارات الثقافية المتنوعة، الندوات، المحاكم الشعبية، المسرح والموسيقى وفن الرسم ، في تلك السنوات شهدت الناصرة نشاطا كبيرا في مجال المسرح وكان المسرحي ، المخرج والممثل صبحي داموني مع فرقته المسرحية يشد انظار مئات المواطنين من الناصرة خاصة والوسط العربي عموما لحضور مسرحياته المميزة واختياره النصوص المسرحية بدءا من المسرح الاغريقي الى المسرح الأوروبي الحديث والمسرح العربي ، واحدث في الناصرة جوا نشطا ، عشرات الشباب انضموا لفرقته المسرحية، مئات المشاهدين حضروا عروض مسرحياته. للأسف هذا النشاط الهام والتنويري تلقى ضربة شبه قاتلة من قوى تدعي التقدم والثورية.
الى جانب هذا النشاط الخلاق خضنا تجربة التثقيف العام الأدبي والفكري والسياسي الواسع للطلاب والشباب، عقدنا دورات تعليمية للفلسفة والاقتصاد السياسي، استمعنا الى ابحاث تاريخية عن واقعنا وقضيتنا القومية وواقع الشعوب العربية والثورات في العالم من الجزائر الى كوبا. كان ذلك النشاط ردا على سياسات التجهيل التي مورست في فترة نمو وعينا من سلطات الحكم العسكري، ووصل الأمر الى فصل كل معلم وطني مستقيم يشك بأنه لا يتقيد ببرامج التعليم التي اقرت من جهاز المخابرات الاسرائيلي وكانت السيطرة مطلقة على جهاز التعليم وسائر الوظائف الرسمية.. ويبدو ان هذا الجهاز ما زال يفرض نفسه على التعليم العربي.
للأسف لا ارى اليوم أي نشاط مبرمج للتثقيف كما كان آنذاك ونحن بجيل الشباب المبكر. طبعا لا يمكن ان نتجاهل اننا كأقلية عربية باقية في وطنها، عبرنا على تجربة صعبة جدا ، بدءا من مواجهة سياسة التجهيل والحصار الثقافي في مرحلة الحكم العسكري، ومصادرة الأرض العربية والتجويع لمن لا يخضع للسلطة العنصرية وصولا الى ايامنا الراهنة حيث احدثنا ثورة ثقافية مضادة تحديا للعنصرية وانظمة القمع البوليسية آنذاك، وطورنا تراثا ثقافيا كبيرا وواسعا.. فاجأ العالم العربي بمضامينه وقوة صوته.. فهل هناك اكتفاء ثقافي؟ 
طبعا الثقافة لا تعرف النهاية.. والثقافة هي القيمة الكبرى في حياة المجتمعات البشرية، وتشكل المادة الصلبة في مبنى الوعي الانساني بكل اتساعه. ومن هنا أهمية دور المعهد العالي للفنون وبيت الكاتب الى جانب المؤسسات الثقافية الأخرى. 
كريم شداد جعل من كتابة ارشيف للصور عبر نشاط فني وثقافي مميز، عشرات الشباب والصبايا طوروا مواهبهم الفنية والثقافية في المعهد العالي للفنون وبيت الكاتب. وكنت احبذ لو اعطى الأستاذ كريم شداد توضيحات أوسع من مجرد صور عن مضامين تلك النشاطات لأن اهمية الكتاب وخاصة هذا النوع من التسجيلات انه يحفظ الذاكرة الجماعية لمجتمعنا، والثقافة والفنون تشكل بندا جوهريا في الذاكرة الجماعية لمجتمعنا. 
لا اقلل من اهمية حفظ صور عن النشاطات الثقافية والفنية، وما تعكسه من احداث ونشاطات كان لها قيمة كبيرة وهامة في التأثير على اجيال شابة وعلى مسيرة حياتها الفنية او الثقافية، الكتاب تسجيل لمعلم ثقافي ونهج تنويري لمجتمع متعطش للثقافة والمعرفة. ملاحظتي ان الأستاذ كريم شداد اعطانا سجلا هاما عن مرحلة تميزت بالعمل التثقيفي الخلاق رغم اني افتقدت في الكتاب ، كما أسلفت.. شروحا توضيحية اوسع للكثير من الصور. 
الكتاب يوضح بالصور مسيرة تاريخية هامة ميزت الحياة الاجتماعية والثقافية .. لكني سأتحدث عن اهمية مثل هذه التسجيلات للذاكرة الجماعية. 
تشكل الذاكرة الجماعية في حياة الشعوب قيمة كبيرة لتطور المعرفة الانسانية ومخزنا لا ينضب لمسار الحياة الانسانية وحفظ التاريخ والفكر بصفتهما ثروة بشرية لا تختلف عن الحفاظ على الأثار التاريخية المادية مثل الأبنية بكل انواعها وتشكيلاتها. لكننا هنا امام ذاكرة فكرية ثقافية فنية فلسفية ، ذاكرة تستنطق المكان سيسيولوجيا والسيسيولوجيا هي علم يدرس المجتمعات البشرية و القوانين التي تحكم تطور المجتمعات وتغيرها، وتفسر اسباب التغيرات الاجتماعية ودوافعها وتأثرها على تطور السلوك الانساني أيضا. كذلك تحدد القوى الفعالة التي تحرك حياة الناس واصل الدولة و القانون و السياسة. البعض يفضل تعبير علم الاجتماع بدل سيسيولوجيا.. 
التاريخ البشري حفظ لنا ثروات هائلة من الذاكرة الجماعية للشعوب.. مثل المسرح الاغريقي الذي نقل لنا ، حتى عبر الأسطورة الذاكرة الجماعية لليونان القديمة، الأساطير الأشورية والكلدانية والبابلية نقلت لنا الرقي الحضاري لبلاد ما بين النهرين ، الأساطير الفارسية كانت لوحة لحضارة الفرس.. وهذا نجده في ثقافات شعوب عديدة اخرى في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. اساطيرهم كانت تعبيرا عن الذاكرة الجماعية لحضاراتهم . 
ترجع اصول علم الاجتماع لعصور قديمة مثلا في اليونان القديمة حاول الفلاسفة الاغريق تفسير اسباب التغيرات الاجتماعية، و القوى التي تحرك حياة الناس واصل الدولة و القانون و السياسة. ونجد في كتابات ابن خلدون و توما الاكوينى ومكيافيللى واسبينوزا وجان جاك روسو وهيجل وماركس عناصر مهمة في دراسة المجتمعات البشرية من اقتصاد وفلسفة وفكر وثقافة وفنون . 
هنا نلاحظ ظاهرة هامة جدا ، ان كل هذه الدراسات اعتمدت على ما سبقها من سجلات الذاكرة الجماعية. مثلا التراث العربي، الذي تطور من العصر الجاهلي وصولا الى العصور الأحدث، يعتبر منصة صلبة في انطلاق ثقافتنا وتنوعها وثرائها. بدون هذا التراث ما كنا نطور ثقافة حديثة، وما كنا نحتل مكانا طليعيا في الثقافة العربية خاصة وبين الثقافات العالمية المتعددة.. وبرزت ثقافتنا خاصة بالجانر الشعري.
للأسف في عصرنا الراهن هناك غياب مقلق عن تسجيل الذاكرة الجماعية، لكن الشيء الجيد نسبيا ان الاعلام اصبح سجلا لا يمكن الاستهتار به لحفظ الذاكرة الجماعية، ولكني اقول ان هذا لا يكفي، لأن هدف الاعلام يبقى ترويجيا اكثر مما هو سجل للتاريخ، الى جانب ان الاعلام يهتم أكثر بالظاهرة المرئية وليس بالمضامين .
قرأت في السنوات الأخيرة محاولات جيدة لتسجيل الذاكرة الجماعية ، الأولى لرئيس تحرير الأخبار الكاتب محمود ابو رجب ، بكتاب من جزئين حمل عنوان "ايام ع البال" رأيت به نوع من الأدب التسجيلي، أي تحويل احداث حقيقية الى حدث بروح تجمع بين اساليب متعددة .. قصصية، ريبورتاجية وتاريخية وشخصية. هذا النوع من الأدب هدفه الحفاظ على الذاكرة الجماعية، نقل التجربة بطريقة ثقافية ما.
التجربة الثانية لهذا اللون الأدبي كانت بكتاب "نص راوي نصراوي" لرمزي ابو نوارة رغم ان رمزي لم يسبق له ان خاض الكتابة في أي من اشكالها، وهو اليوم ليس بجيل الشباب ولكنه اكتنز تجربة حياتية عبر معايشته لأهل مدينته الناصرة وقام بنقل هذه التجربة للقراء عبر "نص راوي نصراوي".
طبعا هناك تسجيلات اراها هامة ، تتعلق بمذكرات كتبها نشطاء سياسيين ، عن احزابهم ، لكنها قد تحمل الكثير من المبالغة، ومع ذلك هي نشاط محمود لكن يجب تناول هذه المذكرات بحذر لسبب اساسي ان المنظم حزبيا مقيد فكريا بنهج يجعله يرى الأسود ابيض كما قرر حزبه!!
تجربتي الخاصة في هذا النوع من الأدب لم اصدرها بكتاب بعد وقد نشرت اكثر من 45 حلقة تشكل كتابا يتجاوز ال 400 صفعة تحت عنوان يوميات نصراوي، تناولت فيها ليس مذكرات شخصية فقط ، بل الذاكرة الجماعية التي كنت شاهدا عليها ومشاركا فيها فيما بعد.. طبعا الى جانب احداث لها طابع شخصي، لكنها تشكل بنفس الوقت معلما ثقافيا او سياسيا يطرح واقعا عشته بوعيي وانطباعاتي واحاسيسي وترك في نفسي اثرا ثقافيا فكريا شكل جزءا من عالمي الثقافي والفكري اليوم. 
المؤسف ان الذاكرة الجماعية في وطننا العربي عامة وفي وطننا الفلسطيني تحديدا لا تحظى بمؤسسات تؤرشفها وتحفظها كما هو الحال في الدول المتقدمة.
اهتممت بتسجيلاتي بالبعد الثقافي للوعي واللاوعي للفرد، وتناولت المجال الثقافي بصفته ظاهرة هامة، تساعد على تفسير وتأويل التفسيرات الثقافية للظواهر الاجتماعية والسياسية. طبعا لا يمكن تجاهل الجانب الشخصي (البرسيونالي) بتداخل الذوات وخضوعها الى آفاق مختلفة للواقع الحياتي الذي يحيط بنا.
النقص هنا هو غياب باحثين علميين في مجال المجتمعات البشرية من تناول الذاكرة وتحليلها واسقاطاتها على تطور واقعنا او نكوصه. أي ان الذاكرة الجماعية هي مادة للنهضة بالمجتمع وليس للتسجيل الأدبي فقط وهذا هو الغائب الكبير عن ثقافتنا وفكرنا.
البعض يطلق تسمية «الذاكرة المحصّنة» على الذاكرة الجماعية، لكنها ذاكرها لا بد ان تخضع لمجمل التجربة الانسانية في المجتمع المحدد، وقد تكون الظواهر السلبية المقلقة في مجتمعنا هي انعكاس لغياب الدراسات السيسيولوجيا من مجتمعنا.. وبالتالي تطوير اساليب تربوية مناسبة.
تُقيّم الذاكرة الجماعية، المراحل التاريخية الخاصة بكل مجتمع من المجتمعات البشرية ، الهدف هنا بالغ الأهمية لأن الذاكرة تشكل مقياسا هاما لمعرفة واعية للمراحل السابقة وتطوير اساليب لضبط التطورات المستقبلية.. 
من هنا رؤيتي لأهمية كتاب الأستاذ كريم شداد، وليت المسؤولين في شتى المجالات يسيرون على نفس النهج بحفظ ذاكرتهم وتجاربهم بكتب تثري مكتبتنا وذاكرتنا وتزيدنا تنويرا ووعيا.. وتحفظ للمستقبل سجلنا الحضاري.
nabiloudeh@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق