على سطح النافذة تساقطت حبات المطر متعجلة مضطربة تصارع حظها بعدما قضت نحبها ، اعتدلت جالسة على حافة سريرها تراقب المشهد حيث تتشكل الكلمات على حواف النافذة فينضج فعل العمل والرمز المكتنز بالدلالة ليشكل لوحة حروفية لكن لا حرف فيها، المشهد يكاد يخنقها فلا فرق كبير بين ما تراه وبين مدامعها، كانت حامل في شهرها التاسع وهذا حملها الخامس ، وداد أم لأربع بنات ، زوجها يريد طفلا ذكرا يحمل العبء معه ويشاركه مسؤولية البنات الأربعة ، لكن أبلغها الطبيب أن الجنين هذه المرة أيضا أنثى، كان زوجها قد توعدها بالانفصال والزواج من أخرى، أفكار كثيرة تشوش ذاكرتها ، صورتها في المرآة تبدو كمسمار، شاحبة ، لقد تخضب شعرها بالبياض، وأثقل الهم كاهلها، تترقب باب غرفتها الموارب بعين دامعة منكسرة ولسانها يلهج بالذكر الحكيم و التسبيح والدعاء ،تخشى عودة اللوعة وفهرسة العذابات وكشف حساب المهانة الجاهلية، تشعر بالضيق وبالمرارة تخنق أنفاسها وهي تقاسي ثنائية المواجهة والصمت، دخلت عليها بناتها الأربعة متأهبات للخروج إلى مدارسهن ، ربتت على كتفها ابنتها مريم وهمست لها أن الله لطيف كريم ، بهذه الكلمات هدأت وخف قلقها وضيقها ، تسعدها نتائج بناتها وتفوقهن في الدراسة ، لم تبخل عليهن بما استطاعت أنهن كل شيء في حياتها ، بهن تتلمس الطريق نحو بصيص من ضوء أمل تراه فيهن من أجل حياة آمنة مطمئنة ،كان جو الغرفة محاطا بهالة مظلمة ، اتجهت نحو النافذة وسحبت ببطء الستارة إلي آخرها لتحظى بمجال رؤية أوسع لمشاهدة بناتها في الطريق ، جالت ببصرها في السماء ووجدت السحب تتأهب بأثوابها الرمادية لتتلبد مرة ثانية بعد هدنة لم تدم طويلا ، هو بالنسبة لها فصل الحفلات المبكية، بدأت كل غيمة تضع حملها ، وما إلا ثواني حتى صارت تلك الشذرات المائية الساقطة من رحمها خيوطا تنهمر دون هوادة لترتطم بقوة على أجساد الطرقات و أسطح المباني ، دفعها هذا المنظر المدهش للتفكير في الاتصال بزوجها الذي منذ سماعه خبر حملها بأنثى لم يدخل البيت منذ أسبوع مضى ولم يسأل عنها ولا عن بناته، قطيعة هي الأولى بينهما التي تدوم طويلا منذ زواجهما ، نعم وجوده معها لا يغير شيئا كثيرا في الواقع، أنه يتلذذ بعنفه وهي في قمة انهيارها ، اتصلت على هاتفه النقال ، أنها رنة .. رنتان، انتظرت ونبضها يتسارع ، أخيرا جاءها صوت ناعم مخملي فيه كل دفء الأنوثة المغرية ، سألتها بتلطف لا يخفي شيء من القلق من تكون هي .. وكيف وصلها هاتف زوجها ؟ أبلغتها المتحدثة بدلال مفرط أنها زوجته ، ولا تريد إزعاجا من أحد في الأيام الأولي من شهر عسلها ، كما أنها لا تريد ... أغلقت وداد الهاتف وأنهت المكالمة كأنها تضع نقطة النهاية وتطوي تاريخا حين شعرت أن القدر غير مجرى حياتها وأن الأحلام التي تعلقت بها ضائعة لا محالة ، لقد تعمد أن يقتل قلبها ويحرق الذكريات ، هذا تيه جديد عليها ولد مع الكراهية ، انه كابوس مطبق على وشك أن يدمر كيانها ويضيع حياتها ، لكنها استجمعت قوة إرادتها من وجودها لأجل بناتها الأربعة ، قررت أن تركل الماضي بقوة وتمضي كالسندباد في رحلة الحياة حتى وان كانت نحو المجهول قد يكون في ذلك انعتاقها إلى موطن آخر وأخير ، فبعد أن أصبحت أوطانها لغير شعوبها فلا أسف .
امتلكها التردد في تحديد البداية والاتجاه، تشعر بدوار كأنها في دوامة تجذبها بعنف إلى الأعماق المظلمة أنها تعاني ثنائية التذكر والنسيان، ستنطلق من أن منطق الأشياء واحد منذ بداية التكوين هي لا تريد أن تصوغه صياغة أخرى ، يكفيها فقط أن الحرية بعد الاستبداد تمنحها عمرا وتلهمها عمقا جديدين ، هي في النهاية بصيغة مطلقة ، وهذا يمنحها بداية أخرى بعيدة عنه ، ابتسمت وهي تعاود النظر من وراء النافذة ، كان المنظر مثيرا، نسجت أشعة الشمس قوس قزح فتشكلت مع ما تبقى من السحب لوحة طبيعية ذات مسحة مغرية بالتأمل فيها الألوان بعينيها مسحورة ، كان المشهد منجما للرموز والمفردات وملهما لها حقا ، أنعشها ومنحها أملا جميلا ومتجددا في الحياة ، سحبت الستارة من طرفها فعادت الغرفة إلى ظلامها مرة ثانية ، أنارت ضوءا كستنائيا هادئا شجعها على الاسترخاء فوق سريرها ومنه استسلمت لنوم عميق أبعدها عن فزاعة كوابيس اليقظة ، لم تدر كم من الوقت نامت ، أفاقت على صوت بناتها العائدات من المدرسة ، استبقتهن الكبرى في الدخول عليها والسؤال عنها و .. عن والدها ، طلبت أمها أن تجمع أخواتها لتسمعهن ما قد أصبح من الضروري سماعه، أبيهم يعيش الآن حياة ثانية ، وهي قررت أن تبيع هذا المنزل الذي ورثته عن أهلها والابتعاد عن أعين الجيران وفضولهم ونظرات الإشفاق، قرأت ألف سؤال حائر في نظرات عيونهن البريئة فبادرتهن بكل شجاعة أنهن معا سيتغلبن على كل المشاكل بالتعاون والصبر ، بعد تناول عشاءا دافئا أمضت ليلتها تتأمل بناتها وهن يراجعن دروسهن حتى لجأن جميعا للفراش ، ذرفت دمعتين ساخنتين مسحت إحداهن بأطراف أصابعها البيضاء بينما تسللت أخرى إلى وسادتها التي شاركتها كل اللحظات، باب غرفتها لا يزال مواربا ومنه يتسلل نورا خافتا يبين لها بوضوح انقباضات بطنها على وقع حركة الجنين ،أحست بركلات داخلية رقيقة قابلتها بابتسامة خفيفة وبملامسة حانية من يديها دون أن تصرف نظرها عن صورتها معه، تتأملها لتحفظ ملامحه.. توالت الأيام وابتعدت عن أناس تعرفهم و لم يعد زوجها يعرف إليها طريقا أو مكان ، حان وقت الولادة رافقتها ابنتها الكبرى إلى المستشفى وأنجبت مولودة أسمتها "بشرى " لعلها تكون بشرة خير ، ومنها مضت السنون ، ونالت بناتها الشهادات الجامعية واشتغلن في أفضل الوظائف.. ثم تزوجن.. لم تبق معها إلا ابنتها الصغرى بشرى ذات الإحساس الرهيف التي يحلو لها في الأمسيات الجميلة حين يتوسط القمر قلب السماء الفسيحة مشكلا بلورة فضية شفافة وفي وسط السكون الشامل أن تسحب من تحت وسادتها دفتر مذكراتها اليومية تسجل فيه أحداثا كلها كانت بنكهة الذكريات الجميلة.
نهضت بشرى كعادتها صباح كل يوم مسرعة لتحق بالمستشفى حيث تزاول دروسها التطبيقية بالسنة الأخيرة في كلية الطب ، ولم تنس مثلما تعودت مؤخرا أن تمر على هذا الشيخ الهرم لتعطيه نصيبا من فطور الصباح ،كان قابعا على ناصية إحدى الطرقات حيث يبقى في مكانه ليل نهار بقميصه الأبيض الرث وسرواله الذي لم تعرف المكواة له طريقا ، عيناه الضيقتان تكاد تختفي خلف عدسات نظارة سميكة ، يحرك شفتاه في تمتمات ألم بكلمات غير مفهومة وهو يهز رأسه يمينا و شمالا في أسى وعيناه تمتلئان حسرة، يبدو لكل من يراه أنه كسير الفؤاد ، متهالك الجسد شارد الذهن مصفرا يبدو وقد انطفأت فيه روح الحياة ، ومع ذلك صارت ملامحه عندها مألوفة وهو كلما رآها يتأملها فيستأنس بها أكثر ، يعلم أنها كمن في سنها تتلمس لنفسها السبل عبر الدهاليز في وسط العتمة والضباب نحو الممر المشع نورا ليقودها إلى المستقبل الأفضل اقتياد الملاك الأمين فيسمعها أفضل الدعوات بالستر والخير والنجاح.
اقترب موعد تخرجها لتحقق أمنية أمها في أن تصبح طبيبة تقوم بعلاجها بنفسها ، أفكارها المتزاحمة لا تزال تدونها كل ليلة في دفتر مناجاتها فهي تلقي كل ما بداخلها على الورق ، تترجمه إلى إحساس معلن عله يكون شيئا مختلفا فيه من اللذة ما يفتن القلب مثل البركان الذي يلقي حمما ملتهبة تميت الأرض حينا ولكنها تزرع في أحشائها خصوبة ماكثة ، أو مثل الحريق الذي يعقب سواده اخضرار وحياة و وجود .. ذلك أفضل لها من أن تظل تبني وتهدم أسوارا من الأسئلة المملة التائهة، خرجت في اليوم التالي إلى المستشفى فوجدت هذا الشيخ في حالة مرضية حرجة تكاد تفتك به ، أدخلته المستشفى وقامت بإجراء الفحص الطبي عليه وحرصت طوال وجوده على الاعتناء الكامل به حتى تحسنت حالته ، استفسرت منه عن عائلته لتبليغهم بأمره ، أخبرها أن له ولدان عاقاه وطرداه من المنزل بعدما سلباه ماله وصحته ، أشفقت عليه وطلبت أن يعتبرها ابنة له ، طأطأ رأسه وذبلت عيناه في غفوة أرادها ملاذا من أسئلتها الحرجة.
أتمت بشرى دراستها وقررت أن نقيم حفلة في بيتها بهذه المناسبة يحضرها جمع من صديقاتها وزميلات الدراسة ولم تنس أن تتوجه قبلها إلى الشيخ الذي اعتادت على دعواته لها كل صباح ، أرادت أن تأخذه معها إلى المنزل ليشاركها فرحتها بالتخرج ، أركبته سيارتها إلى منزلها ، وما إن دخلا البيت حتى نادت أمها التي كانت قد أعدت نفسها جيدا وبدت في حلة باهية تليق بفرحة ابنتها وبفرحتها بها ، بدت أصغر وأجمل مما كانت عليه من قبل، لم تمح السنين بعد ملامح من حسنها، ولكن ما إن رأته قادم خلفها حتى شعرت برعشة كاسحة تعتري جسدها وبانتفاضة شديدة تهز كيانها وتزلزل ثباتها وكأنها تحضر لأول مرة ظروف ولادة بشرى وأيقنت أخيرا أن شيئا ما يفكها من سلاسل الوحدة و يحررها من قيود التيه مسحت على وجهها والتقطت أنفاسها وهدأت ، عرفته وعرفها ، وعرفا معا أن العالم صغير جدا ، ابتسمت بشرى وقدمته لأمها على أنه "العم" الذي كانت تخبرها عنه ، نظرت إليه مرة ثانية وتأملها هو جيدا التقت عيونهما في نظرة طويلة تريد أن تختصر سنين الفراق ، لم يكن الأمر يحتاج منه إلى ذكاء كبير أو إلى أدنى جهد من التفكير ليدرك أن بشرى ابنته التي ترك أسرته وترك البيت بسببها ، وبدون تردد باحت وداد لابنتها قبل أن يدنو منها ، أنه هو والدها ، تسمرت بشرى في مكانها وهي تتأرجح بين ثنائية الفرحة واللوعة ، التفتت إليه وداد مستطلعة تأثير الخبر عليه ، لقد قلبت عليه مواجع الذكرى وآلامها.. لم يغادر الحزن نظراته بل امتلأت أكثر بما لم يسبق لها أن رأته من قبل في عينيه، بعدما عاش ثنائية الحياة والموت، والآن يطارده الحنين إلى زمن الألفة.. إنها هزيمته أمام انتقام القدر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق