اجتازتْ الباحة المدرسيّة إليها: تدفع عنها ذاك الاكتظاظ المنبعث من أطفالٍ، يلعبون كرةٍ، يسدّدون أهدافهم، وآخرون يتدافعون لاستلام مخصّصاتهم الإغاثيّة، من موادَ غذائيّة، وقرطاسيّة بسيطة، في كيس بلاستيكيّ، يظفرون به، كمن عثر على كنزٍ ثمينٍ.
ونسوةٍ تنظّف مواعينها في المشارب، جلسن القرفصاء على الحوافي الباردة للبلاط المبتلّ من ثيابهنّ، وزنودهنّ التي ترشح منها مواد التنظيف، ممتزجة بالمياه ، من صنابير نصفها لا يعمل، والكثير قد خربت فيها قبضاتها، فصارت دائمة الجريان، تشكّل بركاً موحلةً، تزيد من برودة المكان..
وأخريات خلف أبواب حماماتٍ إسعافية التجهيز، يدعكن رؤوس أولادهن بنزقٍ، يشتمن الظروف، ويصرخن بتوتّرٍ، كلما انسكب الماء الذي ترتعد أجساد الأطفال من برودته..فيتملّصون ببكاء يقطع أنياط القلب إشفاقاً..
المشرفون هاهنا يوزعون الأسر الجديدة القادمة من مناطق تحترق، إلى غرفٍ أخر، أو يشركونها بغرفٍ تسكنها عائلات قليلة الأفراد، تستطيع استقبالها، بعد وضع شادرٍ، ينصّف الغرفة.
أشار الولد الذهبيّ الشعر ، إلى مكان جلوسها،: ــ أمي هنا....( وهو يقرمش بعض قطعٍ من البسكويت قد حصل عليها توّاً من الإغاثة.
أزاحت الستار المتوضّع على الباب...دخلت..تبحث عن عيونٍ أرادتْ محادثتها منذ عهدٍ مضى، وقد آن الاوان.
شهقت المرأة الأخرى، تضرب صدرها، محاولة الاختباء وراء كومة من الأغراض، من وسائد، وأغطية صوفية رمادية اللون..وصرر ملابس..:
ـــ أنت ؟؟!!! أنت ؟؟!! ما الذي جاء بك إلى هنا؟؟يا إلهي كيف استدلّيت؟؟ ولماذا أتيتِ؟ لتري ذلّي، شقائي، ضعفي؟؟
أبعدت يدها برفقٍ عن الباب الذي اعترضته بساعدها وهي تقول بلهجةٍ واثقة:
ــ هند ..أفسحي لي مكاناً، أريد أن أحادثك ( ومن غير انتظارٍ، افترشتْ الأرض، فوق مرتبةٍ إسفنجيّةٍ رقيقةٍ، باهتة اللون، تبعد بأناملها، بقايا فتافيت الخبز، على مفرش الأرض، فسارعتْ هند إلى لملمة، بقايا أطعمةٍ متناثرة هنا، وهناك..عقب فطورٍ، قد بكت لقيماته قهراً، تفرك كفّيها، بانكسارٍ مفضوحٍ، لم تستطع مواربته.
انشده الولدان لهذا الدخول المقتحم للسيدة الغريبة، يتابعان الحوار، باستغراب لسكوت الأم، وارتباكها، والضعف المعلن الذي ركب ملامحها.
وقد هبّت الصبية ، تحمل أكواب الشاي الدبقة، تصفّها على الصينية، ترفع كل حين غرّتها عن جبينها، بينما جلس الطفل الأشقر في الزاوية القصوى، يكمل التهام قطع البسكويت..بنهمٍ، وترقّب.
ـــ منيرة ...ماذا تريدين من بقايا إنسان، يخبّئ طعنات يده، عن كيانٍ كان يحبّه حدّ القداسة، فطعنه في الظهر؟؟ إن أتيتِ من أجل الانتقام، فلاشيء عندي تنتقمين منه، هاقد عدتُ الآن صفر اليدين: لازوج، لامال، لا بيت....لقد تهدّم وصرت بلا مأوى، فهمتُ على وجهي، وولديّ...قاصدة هذا المكان، أموت كلّ يوم، بما يعجز انتقامك عن فعله بي.
قالت لها ساهمة: وقد بانت حرائق الذكرى على ملامحها، ونبرتها، وخفقات قلبها المتهدّج أنينا أدمنه صدرها:
ــــ تقصدين زوجي...زوجي الذي سلخته عن بيته، يوم الثلجة الكبرى التي اجتاحت بلادنا....هذه الثلجة التي أصقعت قلبي فأيبسته....حين رافقتِه، عائدَين من المشفى عقب ولادتي لطفلٍ لم يكتب له الحياة.... على اعتبار أنك صديقتي الوحيدة التي تراعي، وتصون أمانات، وعتبة بيت صديقتها.
قلبي ممزّق من حينها، وقد تحوّل رجل البيت الذي كان يشعّ حنانا، واهتماماً، وسخاء، إلى هيكلٍ من شمعٍ أصفرَ ، يؤدي دوره ببلادة، وإكراهٍ، وتأفّف، سلخته عن بيته، واستطعتِ أن تستفردي به، وتستأثري بعطاياه، لتصير لك، ولولديك، وتسرقي بيتي الجميل الآمن، لتحوليه إلى مستعمرتك بأفانين الحواة، والغنج، واللعب على حبال أنوثتك الشيطانية..وقد عرفت كيف توظفينها في استلاب عقله.
أجابت والدمع ينحدر على خديها:
ـــ وهاقد صار أثراً بعد عين...
قاطعتها...ـــ ليصير ناراً تحرقك..كما أحرقتِ قلبي...بعد اختفاء زوجي من حياتنا متنكّراً لولدي الوحيد، عماد ، الذي تقلّب في هجير الليالي محروماً، يلتمس أسباب عيشنا، كي نبعد عنا شبح الفقر، والجوع، ومتطلبات الحياة التي لا ترحم...واليوم قد اشتدّ عوده، وتنسّم رزق الأيام.الحلال..وأغدق علي من كدّ يده...ما جبر لي كسري..وعوّضني...وهو من دلّني إلى مكانك هنا. رآك تدخلين مركز الإيواء على حال، عجّل بي إلى رؤيتك.
أشعلت / هند/ سيجارة... وسحبتْ منها نفساً عميقا، انتابتها بعده نوبة من سعالٍ شديدٍ، امتقع له لونها، وتشنّجتْ به قصبات صدرها، وارتجفت أصابعها وهي بالكاد تلفظ الحروف..
ـــ منيرة...منيرة..أرجوك...إني أموت....فلتغادري الآن...لتغادري فورا..حقا إني أموت.
ــــــ مابك ؟؟؟ ماذا تقصدين؟؟؟؟ / وقد تغيرت نبرة صوتها فتهدّجت قلقا، وإشفاقا اعتراها فجأة.
ــــ أعاني من آلامٍ حادةٍ في الصدر، نصحني طبيب الإيواء بإجراء فحوصات شاملة ــ يشكّ في مرضٍ خبيثٍ ــ وأحالني إلى الإسعاف الخيري...لإجراء حزمة من التحاليل، والصور، والأشعة...رفضت كل ذلك...وها أنا أحرق مابقي لي من أنفاس في هذا الصدر الملعون الذي احتبست به كل هذه الأوجاع التي لا تطاق..وما يؤلمني في رحلة عذابي ..ولداي...وحدهما سيبقيان دمعتي التي لن يخمدها تراب قبر...لابيت لهما، لا أهل، لا أب يحمي لحمهما الغض، الرقيق.وراحت في نوبة من البكاء...لم يقطعها إلا صوت الهاتف المحمول.
ــــ مسحت دموعها تحاول أن تظهر كلماتها على قدر مقبول من الثبات...والثقة...
ــــ ألو نعم ...لا لا شيء...قليل من الزكام أثّر على حنجرتي فأتعبها...نعم ..نعم..تعالوا اليوم..الخامسة عصرا...سنتفّفق على كل التفاصيل.
ــــ مع من كنت تتحدثين...وخطوبة من ؟؟ سألتها منيرة باهتمامٍ، واستجلاء.
ـــــ هم خطّاب لابنتي / أمل / جيران طيبون نزحوا مثلنا عن الديار، ولكنهم استطاعوا تأمين منزلٍ بديلٍ، استأجروه، وأقاموا به..على الكفاف..ولكن دون ذلّ... ابنهم شاب طموح افتتح ركنا لبيع الأواني المنزلية في منعطف الشارع، وقد خطبت له الأم ابنتي...محبة بها، وسترا لها، وحماية من نوائب الزمان...بعد أن أيقنت حقيقة مرضي.
ــــ ولكن طفلتك صغيرة بعد، وجميلة...وعودها طري، لم تتفتح أكمامها بعد...لم العجلة؟؟
ــــ لا خيار أمامي سوى هذا الحل...الوضع عند ولدي مختلف...الصبي هو ابن الحياة بكل شقائها، ونعيمها...ولكن الوضع بالنسبة لابنتي مختلف..غزالة وسط الذئاب.في ظروف حرب طاحنة..
أرجوك سامحيني...اعتبريها ابنتك...بعد رحيلي...قومي بزيارتها، دافعي عنها لو ظُلمتْ..أعرف تماما نبل نفسك، وجوهر روحك...أنت صديقة العمر، حتى لو كنت استحقّ لعناتك..ولكن لابنتي شأن مختلف، بعيد عن ورقة حسابٍ قديم، غير متكافئ...
الهاتف يرنّ من جديد...تمسح هند رشوحات أنفها بطرف كمّها...ـــ ألو نعم...أهلا يا سامي... نعم لقد حادثت والدتك للتوّ...أنتظركم عند الخامسة عصرا...
خطفت منيرة الهاتف من يدها...بدون مقدمات... حكت بلهجة واثقةٍ، ما اضطرم به قلبها من كلمات....قالت له ـــ اسمع يا ولدي...لو شئت الحضور فقد تغيّر العنوان...سجّل عندك: حي المهاجرين...الجادة الرابعة...طلعة شورى...بناء...طابق...منزل...
ـــ ولكن ياخالة...هذا العنوان الجديد..لمن..؟؟
أجابته...وقد خاتلتْ سدّاً من الدموع خلف مآقيها...ــــ
ـــــ. أنا خالتها.أم عماد ....وهنا ستكون إقامتها، وهذا بيت أبيها....
قصة قصيرة بقلم: إيمان الدرع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق