من يقرأ عنوان المجموعة القصصية "الوعر الأزرق" للكاتب السوري إبراهيم صموئيل سيجده حتما يحتمل من الكثافة الدلالية ما يحوله إلى ميكرونص كاف بذاته كما يسميه أهل الاختصاص. بمعنى آخر بلاغة العنوان تنبثق عن اتصاله بالمضمون السردي لقصص المجموعة، كونه عتبة أولية تدعونا لولوج واحته الغناء لتفكيك مجاهيله الدلالية التي جمعت بين ثنائية الخوف والتحدي إجمالا في نصوص صموئيل، فكلمة "الوعر" تشير إلى معنى صعوبة المكان المخيف أما "الأزرق" فيدل على لون البحر، ذلك المغمور بالمياه المالحة والذي يغري صاحبه لركوب أمواجه الماكرة.
لقد نجح القاص في كتابة اثني عشرة قصة لا تخلو من الترميز والمفارقة، حيث تعكس ملامح الشخوص المحبطة والخائفة في كثير من الأحيان لكنها لا تخلو من الجانب الإيجابي الذي يدفعها إلى التحدي بعفوية مطلقة، كما جاء في القصة الأولى الموسومة "العتمة" أين يجد البطل نفسه وسط صالة عرض أحد الأفلام، غير أن الجميع يستاء بعد انقطاع الكهرباء المفاجئ فيلجأ إلى الصيحات والتعليقات والسباب الصريح والتحذيرات وغيرها: (من الصعوبة تحديد المدة التي دامت فيها تلك العتمة، لدقيقة ربما أو بضع دقيقة... غير أن الصالة، في تلك الفاصلة من الحلكة، هبت عن آخرها. تفجر الحاضرون فيها مثل ألغام موقوتة، لكأنما الناس، إذ تحتويهم العتمة معا في مكان مغلق، يتحولون، في برهة، إلى كائنات أخرى غيرهم!)1.
القصة الثانية جاءت تحت عنوان "الصمت" أين يشعر البطل بالخوف وبمرارة الحياة أيضا، بعد خيانته لزوجته مع صديقتها لحظة غيابها، وما يقتله هو صمتها الرهيب ونظرتها المحيرة: (عزمت، وقد هدني الهرب، على أن أقفل مثل تلك الشاة. أقفل دون أن أعرف ما سيحدث، إذ لم يعد يهمني أبدا.)2.
استعان صموئيل في القصة الثالثة "وقالت خديجة لخديجة" بتكنيك المونولوج الداخلي ببراعة مطلقة، وهو ما استخدمه وطوره مذهب "تيار الوعي" ومن بينهم وليام فوكنر وجيمس جويس... لنجد بدورنا البطلة تتحدث مع نفسها ولنفسها ولا تجد لها منصتا لحكايتها الحزينة سوى المتلقي، ليستشعر هذا الأخير حضور الكاتب في القصة بعينها وبأنه خالق البطلة فيها، وهو الذي ينطقها ليحكي لنا ما وقع لها مع والد ابنها الحقير الذي تصفه لنا بالخنزير: (أتصدقين. وهو فوقي يفعلها، ما رأيت غير أبيك وهو يضرب جبينه متذكرا دواء أخيك المريض. رأيته يعاود الضرب مرة، ومرتين، وثلاثا، وألفا.. ضربا مبرحا، داميا، كمن يحاول قتل نفسه.)3.
القصة الموالية "ومضة" تكشف لنا بشكل آخر إثارة المشهد السينمائي الذي وظفه صموئيل كذلك حين جمعت الصدفة البطل بتلك الفتاة وسط سيل من السيارات المنطلقة بسرعة البرق، لكن كليهما قررا تحدي لحظة الموت مع سبق الإصرار: (والغريب في الأمر حقا هو أن نعزم معا، كأنما، هي الأخرى، قدرت تقديرا طائشا كما قدرت!)4.
يظهر القاص بامتياز معالم وسمات شخوصه النفسية والاجتماعية وهي باحثة لها عن ملجأ للحنان وسط ضوضاء الحياة، كما يبدو ذلك جليا في قصة "في حافلة صغيرة" أين يجمع القدر البطل وزوجته وطفله الصغير بتلاميذ الحافلة اللقطاء: (وما كادت زوجتي تناولني الصغير، وتتخلص من زحام التلاميذ بمداعبة رؤوسهم والابتسام لهم، ثم تهبط وأهبط خلفها شاكرا السائق.. حتى اندفعوا إلى النوافذ المقابلة لنا، فبدت وجوههم، لاضطراب تزاحمها وشدة التصاقها بالزجاج المغبش، كعصافير ملونة تواقة.)5.
نفس الشعور يتولد لدى تلك الطفلة في قصة "المسافة" التي تتعلق بالبطل –صديق والدها- الذي تتكرر زيارته لبيتهم ليجعلها تتعلق به، بل يصبح جزءا من متعتها التي لا تكتمل إلا بركضها العاصف الضاج ببراءتها: (..وحين ركضت وطوقت عنقي، حلقت بها كما لم أحلق يوما، معاهدا نفسي وبهجتها ألا أكرر حيلتي أبدا.)6.
لقد استعان إبراهيم صموئيل في معظم قصصه بالضمير المتكلم العليم ليجمع بين شخصيته كقاص وشخصية أبطال قصص "الوعر الأزرق"، وذلك ليقف بدوره مع الأحداث لا خلفها مستوقفا القارئ ومحفزا له بشكل آخر على التأمل كطرف مشارك في سرده القصصي، الذي لا يخلو من دلالات الوجع والحزن والهم والتحدي في آن واحد.
هوامش:
1.إبراهيم صموئيل، الوعر الأزرق، دار الجندي للنشر والتوزيع، دمشق، ط2، 2004، ص:6.
2. المصدر نفسه ص23.
3. المصدر نفسه ص31.
4. المصدر نفسه ص38.
5. المصدر نفسه ص71.
6. المصدر نفسه ص89.
*كاتب وناقد جزائري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق