نهوض الأمم 5/ محمود شباط

أصابع الزمن تعزف بإيقاعٍ دائريٍّ يصغر قطره أو يكبر طبقاً لظروف ذاتية أو موضوعية كما أشار إليه ابن خلدون وإخوان الصفا ورتل من علماء الإجتماع. كارل ماركس يضعها بصيغة أخرى أفقية مبسّطة مكثفة مفادها أن الظروف الإجتماعية القاسية لا تكفي وحدها لدفع عجلة التغيير نحو الأفضل إذ يلزمها انخراط النخبة المثقفة من خطباء وأدباء وفلاسفة وكتاب في توضيح مشهدية البؤس وطرح البدائل والحلول. مفكرون آخرون دعوا إلى الفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، فصل الدين عن الدولة، وإدراك المواطن لحقوقه وواجباته واحترامها من قبل السلطات المعنية. سوف نمر بالتفصيل على ما ذكرناه للتوِّ تباعا، وبالتسلسل: 
1-فصل السلطات : 
كان مونستكيه (Montesquieu, 1689-1755) أول الدعاة لفصل السلطات في كتابه "روح القوانين" حيث أخذت به كمادة أساسية في دساتيرها كل الدول الغربية، وبالتدرج الزمني، نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، الولايات المتحدة الأميركية عام 1789، وفرنسا عام 1958 خلال فترة الجمهورية الخامسة التي أسس لها الجنرال ديغول.
2- فصل الدين عن الدولة :
من أوائل من دعوا إلى فصل الدين عن الدولة كان فولتير Voltaire, 1694-1778))  في كتابه "Lettre on the English" حيث قال بأن هيمنة الكنيسة على الدولة تعيق تطور البشرية. من الدول التي أخذت بتلك المقولة فرنسا عام 1905 واليابان عام 1947 .  قد يكون فولتير استمدَّ مقولته  تلك من الأسباب التاريخية التالية:
1- تدهور سمعة الكنيسة الكاثوليكية : تسبَّب الانشقاقُ الكنسي الكبير في الكنيسة الكاثوليكية"Great Schism" الذي استمر من  عام 1378 ولغاية عام 1417 بصراع حادّ وعلني على السيادة بين بابوية روما في إيطاليا وبابوية أفينيون في فرنسا بضرر عظيم لحق بسمعة الكنيسة نتيجة لما كانت تشيعه إحدى الكنيستين عن أخبار الأخرى، حيث انتشرت تلك الأخبار و أسرار ذلك الصراع بسرعة في كافة أنحاء أوروبا، ما أسهم بتسهيل وتسريع ذلك الانتشار هو اكتشاف الطباعة بعد العام 1450 .
يضاف إلى الانقسام المذكور أعلاه انقسام آخر بين الكنسية الأرثوذوكسية في الشرق ومقرها أنطاكيه، والكنيسة الكاثوليكية في الغرب ومقرها في روما، حيث كان للأخيرة سطوة معتبرة وسلطة كبيرة على الملوك والحكام، برز من صفوف الحكام والنخبة في أوروبا الغربية قوميون ونبلاء متذمرون رأوا في تلك السلطة المطلقة للكنيسة الكاثوليكية حاجزاً صلداً يحول دون التغيير والإصلاح المنشودين، إذ تضمنت شكاوى المتذمرين، (باستثناء حكام إيطاليا)، أسباباً عديدة منها:
1- سياسياً : امتعاض ذوي الميول القومية من هيمنة الكنيسة على بلدانهم واعتبارهم البابا كحاكم أجنبي، ومعارضتهم لإرسال أموال بلدانهم إلى الكنيسة. . 
2- اقتصادياً : بعض الحكام كان يحسد الكنيسة على ثرواتها الطائلة ويتمنون لو كان بإمكانهم مصادرة ممتلكات الكنيسة. رجال الأعمال اعتبروا الضريبة التي تجبيها الكنيسة عالية إضافة إلى اعتبارهم تحريم القوانين الكنسية فرض الفائدة على القروض المالية تشكل عائقاً أمام الحركة التجارية. 
3- ثقافياً : أسهمت الأفكار النهضوية التنويرية المشجعة للحرية الفردية في شروع عدد من رجال الدين والفكر للحث على اتباع أساليب جديدة في التعامل مع الكنيسة، حيث بدأوا في دعوة الناس إلى إقامة علاقة مباشرة بين الخالق والمخلوق. بعض المثقفين شككوا بنفوذ وسلطة الكنيسة. ذلك النهج مَهّد الطريق نحو انشقاق ديني آخر تحت مظلة مذهب جديد هو البروتستانتية، بالأخص عبر تحدي تعاليم الكنيسة بما يتعلق بالأمور الدنيوية-الزمنية والتاريخ وتفسير الإنجيل.
4- مآخذ على الكنيسة : الممتعضون كانوا حاسمين في توجيه سهام النقد نحو الممارسات الكنسية التالية: أ- الأمور الزمنية – الدنيوية : الحياة المادية الباذخة لبعض البابوات ورجال الكنيسة من الطبقة العليا، ب- المحاباة في توظيف الأقارب في السلك الكهنوتي بصرف النظر عن الكفاءة، ج- بيع المناصب الكهنوتية مقابل مبالغ مالية، د- بيع صكوك الغفران للذين يطمحون إلى محو ذنوبهم يوم الحساب.
قادت تلك التحركات إلى انبثاق البروتستانتية كمذهب مسيحي ثالث عام 1517، تلاها حروب دموية بين الكاثوليك والبروتستانت كان أسوَؤها حرب الثلاثين سنة بين عامي 1618 و 1648. وانتهت بالاتفاق على أرضية مشتركة سمحت بنوع من التسامح الديني وإصلاحات قامت بها الكنيسة الكاثوليكية.
كان لا بد من استحضار تاريخ الماضي كي يتسنى لنا تسليط الضوء على حاضرنا المشرقي عربياً وإسلامياً، نرى في القرن الواحد والعشرين رجال الدين والسياسة يغُطّون في حال سبات وإنكار كما لو أنهم  لم يسمعوا بتلك الحروب والويلات، أسباباً ونتائج، ولم يقرأوا عنها. مثالب الأمور الزمنية – الدنيوية لدى الغربيين ماضياً يكررها راهناً معظم رجال الدين بنسخة أخرى،حياة مادية باذخة، العمَّة حريرية والجبّة شاموا والخواتم مرصعة بالفيروز وما شابه من حجارة كريمة نفيسة كفيلة بإنقاذ آلاف الأفراد من مستنقع الفقر والعوز فيما لو تم تسييلها. أما بخصوص المحاباة في توظيف الأقارب بصرف النظر عن الكفاءة، و بيع مفاتيح الجنة لأناسٍ خدَّرتهم الوعود الغيبية فحدِّث ولا حرج.
3- إدراك المواطن لحقوقه وواجباته واحترامها من قبل السلطات المختصة :
في عام 1791، أي بعد مضي أربع سنوات على وضع دستور الولايات المتحدة الأميركية ، أدخل الـمُشرِّعون الأميركيون نصّاً جديداً مهـمَّاً في ذلك الدستور تحت عنوان حقوق المواطن "The Bill of Rights"الذي يلحظ ما يلي : ضمان حرية التعبير عن الرأي، حرية الصحافة والمعتقد الديني، حق المتهم/المدان بمحاكمات سريعة دون إبطاء، منع مداهمة المنازل والأملاك الخاصة دون مسوغ قانوني، عدم فرض ضرائب فاحشة، منع العقوبات القاسية، منع إجبار الفرد على الإدلاء بشهادة ضد نفسه، ومنع إقامة المعسكرات على الممتلكات الخاصة دون إذن أصحابها.
يذكر روسو (Rousseau , (1712-1778 في "العقد الإجتماعي" بأن البشر خلقوا أحراراً ويمتلكون حقوقهم الطبيعية، ولكن عدم المساواة في الأوضاع الإقتصادية وضرورات الحياة  تُدخِل الأفراد في عقد اجتماعي غير مكتوب فيما بينهم حيث يضطرون مكرهين إلى التخلي عن حقوقهم كلياً أو جزئياً لصالح المجتمع، ويذعنون للإرادة العامة التي تكون حُكْماً في يد الأكثرية الأقوى. مفكر آخر هو فولتير أطلقها على طريقته بعبارته المشهورة بخصوص حرية الفرد وحقه في التعبير: "رغم مخالفتي لرأيك فأني سوف أقاتل حتى الموت في سبيل حقك للتعبير عن رأيك" . 
كان لا بد من استحضار تاريخ الماضي كي يتسنى لنا تسليط الضوء على حاضرنا لكشف عيوبه والسعي إلى إصلاحها. الأوروبيين ابتكروا حلولاً لمعظم صراعاتهم الدينية منذ ما يقارب الأربعة قرون وأرسوا أسس الدولة، نرى بأن رجال الدين في الشرق عامة، وكذلك رجال السياسة، يستطيبون العكس عبر دهس جسد الدولة لصالح الدويلات والإفراط في الحقن الطائفي والحشو القبلي العشوائي والتلقين الصارم بتكليف شرعي أو ما يعادله، وتجاوز استقلالية القضاء وتبعيته أكثر فأكثر للسياسة.
يقال بأن من يبدأ الحرب لا يعرف كيف تنتهي، ولكن من يبدأ مسيرة التغيير يأمل في أن يفلح أخيراً ولو أخفق مراراً. باختصار ، سوف نعرف كيف ننتهي إن عرفنا كيف نبدأ ، ولكن من أين. 
وإلى اللقاء في مقال قادم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق