كيف أنساهم وهذي آثار فؤوسِهم على رأسي ...
مهما طوى الزمان صفحات غدرهم ، كالجمر تبقى تلسع القلب بين حنايا الضلوعِ .
ورُبَّ متخمٍ بالجهل يقول لِمَ نقلّبُ الدفاترَ العتيقة !؟
وكأني أسمع هاتفا من خلفِ أعوادِ المشانق ونقرة السلمان والزنازين الموحشة والأمهات الثكالى يقول وفي الحشا عبرة ؛ يا منْ شقّ عليه ذكرى ولدي ، لازال الجرح نديّا وصدري يفيض حنانا كلما شيّعوه أو إرثا له ذكروا .
ثمة عذابات لا يسعها أن تخرج من الذاكرة ولن تمحو صفحاتها القاسية أشد انواع البلادة أو مرض الزهايمر .
وإن نسيناها نحن فسوف تذكّرنا نُدوب أجسادنا وتجاعيد الأسى على وجوه آبائنا كلّ لحظة من لحظات القهر والغربة والفراق والسحل في الشوارع ....
أن نسينا نحن فستذكّرنا صروح الذين ناضلوا ورحلوا بعزّة ولم يستكينوا ...
ستذكرنا تلك الصروح الشامخاتِ بكلِّ قطرةِ دمٍ زفّها شهيدٌ من أجل عرس حريتهِ ومن أجل وطنٍ حرّ وشعبٍ سعيد .
وأنّى لمكلومٍ ينسى حقبة البعث ، مذ أنْ جثا زناة الليل على صدر الزعيم !
ثم تسللوا برداء الديمقراطية والإتحاد والجبهة الوطنية نفاقا وكذبا فغدروا ، والطبعُ غالبٌ وإن أجتهدَ الرياءَ صاحبهُ .
وهنا بيت القصيد !
يذكر المؤرخ الفلسطيني حنا بطاطو في كتابه الطبقات الأجتماعية ، قولا مقتبسا من كتابات عفلق يقول فيها ( ضرورة تصفية الأشخاص الذين يقفون بوجه إرادة الحزب ) .
وتلك هي الأيدولوجية الحقيقية لمنظومة العمل السياسي والفكر البعثي التي عمل بها منذ تأسيسه ، إذ باتت برنامجا وسلّما لمن أراد الوصول الى دفة الحكم .
والأمر لديهم سيّان ، إنْ كان الخصومُ أو المنافسون حلفاءً أو معارضين ، من داخلِ الحزبِ أو من خارجِ التنظيم .
والعناوين والشعارات والديكورات والتسميات لستر الفضائح والمؤامرات حاضرة في وجدانهم !
عبد السلام ، مات بحادث طائرة ، عبد الرحمن ، الرجل الذي جاءت به الأقدار الى السلطة ، يعني ثورة بيضاء وكأن الدماء لم تجرِ في مديريات الأمن والقصور والدهاليز المظلمة ، والبكر مريض ربما يشكو من العشو السياسي فتنازل عن السلطة للقائد الضرورة ثاقب النظر ، أما عفلق أسلم ولم يعلن إسلامه خوفا من أبي سفيان وكفار قريش ، لذلك أعتكف ولم نسمع إلا بموته ، ولا نعلم أصار نبيّا بإعتكافهِ أم رحل مسلما عاديّا !
إن كانت المؤامرات تجري على قدم وساق فيما بينهم والدماء كالشلالات تجري بأيديهم من رفاقهم في قاعة الخلد وغيرها ، فكيف لا يملؤون السجون بخصومهم ويجزرون الشيوعيين جزر الأضاحي ، ويغدرون بهم شرّ غدرة اثناء وبعد الجبهة الوطنية 1973- 1979!؟
سبع سنوات حالكات وما بعدها ، قُتِلَ منْ قُتِل وأعتُقِلَ منْ أعتُقِل ومنهم منْ ترك الأوطان وهاجر الديار على مضضٍ ، ولم يبقَ إلاّ القلة القليلة من أعضاء وأنصار الحزب يواصلون عملهم السري بتنظيمات خيطيّة في غاية الحيطة والحذر ، حيث لا مكان للديموقراطية أو التنظيمات الحزبية إلاّ لحزب البعث الصدامي ، فتقوضت الحرية حتى تلاشت ، وعلا سقف الذبح والدكتاتورية حتى سادت .
كانت المؤسسات والمراكز والجامعات والصالونات الأدبية والمقاهي تعجُّ بالعلماءِ والمثقفين .
وبعد تغييب الشيوعية إقفرّت الميادين من أهلها وساد رعاعها ، فما عادت بغداد قبلة الأحرار ولا البصرة بصرة السيّاب ولا النجف للجواهري .
وكذاك الأمصار من بلاد الرافدين طولا وعرضا أمست معتقلات وسجون كبيرة .
حتى كأنّ شارع الرشيد والمتنبي ومقهى الزهاوي وسوق السراي والمستنصرية وجسر الشهداء وشارع السعدون ونصب الحرية ومدينة الأعظمية والقشلة ، كل المعالم فيها كئيبة ، كرخها والرصافة ، لا يُسعِد صباحاتها صوت فيروز ولا يؤنس رواحها وغدوها طالبات الجامعة ، لأنهنّ يحملْنَ دموعا وحسرةً لغائبٍ مرتحل لا وردا وعطرا لحبيبٍ ينتظر .
لا يختلف منصفان أن الشيوعية أثرَتْ الساحة الثقافية والعلمية والأدبية بعلومها وآدابها وفنونها .
منها ولد العالم والأديب والفنّان والشاعر والخطيب السياسي والمناضل الثائر .
ويكفي إذا إلتقى الناسُ مثقفا مهذّبا سألوه ؛ هل أنت شيوعي ؟
لغتهم العلم والثقافة والأدب ، وإستذكار سفر نضالاتهم ومعاناتهم حق عند كلّ ذي حق ، وتخليد راحليهم واجب إنساني ووطني .
أمّا تكريم مبدعيهم أحياءً فهو مدعاة للفخر وإشعارا لهم بقيمتهم الإجتماعية والسياسية وتحفيزا لمواكبة مسيرتهم الرائدة في الحياة .
كاتب تلك السطور ليس شيوعيا ، لكن إن كان ذكر الحقائق عند البعض تهمة فمرحى بذيّاك العار ... اليوم وغدا يا هندُ !
وعلّنا اليوم نُوفّقُ بذكر واحدٍ من تلك القامات اليسارية التي سطع نجمها وتلألأ في بلاد المهجر بعد أن تربّى في أحضان الحزب وشرب من مائهِ العذبِ ونهل من تربيتهِ العلوم والفكر .
لا أدّعي أن ما سأكتب عنه تفرّد بعطائهِ ، لكنه رقما صعبا بين أقرانه في نتاجاته الأدبية والفنيّة ، وللأسف الشديد لم يحظَ هذا الجِهبِذ بإهتمام صحافتنا ووسائل إعلامنا العراقيّة كما حظي به الإعلام العربي والمهجريّ .
نعم ... أنه الأديب والشاعر والمخرج والمؤلف المسرحي الدكتور موفق ساوا .
كتب قصائدا للحب ... للناس ... للشعب .. للسلام .. للمحبة والتآخي ، نظم نصوصا رائعة وجميلة تغنّتْ بالوطن وغربتهِ .
ألفّ وأخرج المسرحيات التي عرفتها مسارح أستراليا والجالية العربية في أوربا وسيدني ولم يعرفها أبن وطنه .
أنتج فلما من أخراجه وتأليفه ( NOT FOR SALE ) حصل على عدّة جوائز قيمة في سيدني ، عمل بكفاح متواصل لرفع إسم العراق ورايته عاليا في سماء أوربا ، وفي جامعاتها ومسارحها ومعاهدها العلمية والفنية .
أسس أكاديمية الفنون العراقية في سيدني ، درس ودرّس فتخرج من تحت يده الفنانون والمسرحيون .
أسس فرقة ساوا للمسرح التي أبهرت الجماهير بأعمالها وأعجبت النقاد وعمالقة الفن بنتاجاتها .
أنشأ وترأس صحيفة ورقية ثقافية شاملة مستقلة ( جريدة العراقية ) ، عمرها أكثر من إثني عشر عاما حتى الأن ، تصدر في سيدني وتُوزّع في أستراليا مجانا للجالية العراقية والعربية ، منتشرة ألكترونيا في كل عواصم أوربا وأنحاء العالم ، ولازال عطاءُها مستمرا وجمهورها مواكب على متابعتها ، لتميّزها بين الصحف وتنوّع موادها ولمصداقيتها ومهنيتها ، فضلا عن إنها متابِعة لكلّ هموم العراقيين وأحداث العراق السياسية والإجتماعية لحظة بلحظة .
جريدة العراقية أول من يذرف دمعا إذا ما أصاب العراق مكروها وآخر من يسكت إذا ما تعرّض شعبها للفساد والقتل والنهب والتشريد والعنصرية والطائفية .
ليس لها أعداء إلا العناصر السيئة والعصابات التكفيرية أو ممن كان سياسيا قذرا يبتزّ الشعب ويستغل طيبتهم .
صديقة الكل وهُويّتها العراق فحسب ، على مسافة واحدة تقف من الجميع .
هكذا هي العراقية تحمل أفكار صاحبها وخلق مؤسّسها وشرف عمله الصحفي .
وقس على ذلك كتّابها ، من نفس القماشةِ خامتهم ، متألقون متميّزون في عملهم الصحفي وواجبهم الوطني والإنساني ، لأنهم يحملون شرف المبدأ والكلمة .
حاز الدكتور موفق ساوا على درع الإبداع في مهرجان البيت الثقافي الفني بمدينة أديلايد الإسترالية (Adelaide ) عن فلمه السينمائي (NOT FOR SALE ) ، ويُعد المهرجان ضخما بكلّ المقاييس حيث شارك فيه العديد من الفنّانين والمخرجين والشعراء والأدباء من العراق والوطن العربي .
وآخر ما أبدع به مخرجنا وأديبنا الشاعر ، كتابة قصيدة ( أنتِ مولاتي ) التي نظمها بمناسبة نجاح المؤتمر العاشر للحزب الشيوعي العراقي .
منذُ إطلاق أُولى صرخاَتي
هَجـَمـَتْ مَصابيحُ طيورِكِ مولاتي
على مُـدني النائمة في دُجَى الطرقاتِ
فَـَشـَبَّ ضوؤُكِ في جسدِ الظـُلماتِ .
ويستهل الشاعر بمطلع قصيدته عن نشأته الفكرية وتربيته الماركسية التي أنارت له الوجود منذ نعومة أظفاره .
تـَرَهْـبـَـَنـْتُ في محرابـِكِ
كي لا أتدحرجُ يوماً نحو الوادي
فما زلت أغوصُ فِي بَحْرِكِ الْهَادي
مَا بَرحتُ أَشَرَبُ مَنْ يَنْبُوعِكِ الصَّافِي
فما إرتويتُ حتى غـزا الشيبُ رأسي .
ولا شك أن الصراعات الفكرية والسجالات السياسية إحتدمت أيما إحتدام سيما في عقدَيْ الستينات والسبعينات من القرن الماضي بعد أن إشتدّت وطأة البعثيين على نهضة الشباب التقدمي ، فحاولت بشتى الوسائل أن تحرفهم عن مسيرتهم النضالية ، تارة بالتعذيبِ والإغراءات وتزييف الحقائق وتارة أخرى بالإضطهاد والتشريد والتهجير الذي كان حصة شاعرنا .
وهنا يشير الشاعر الى إنه أتخذ من الشيوعية مصلا وعقارا ضد سموم الأفكار الرجعية والراديكالية وعمليات القمع المخيفة التي تمارسها الأجهزة البوليسية لحزب النظام الحاكم أنذاك .
ويؤكد الشاعر أنه لازال ينتهل تلك الدروس العظيمة من وِردِها الصافي حتى هذه اللحظة التي غزا الشيب فيها رأسه .
عشقتُ شموخَ قامَـتِكِ
قـَبّـلْـتُ جبينـَكِ العالي
فدبَّ الهوى في فؤادي
وراح قلبي يرقصُ بين أضلاعي .
ثم يستطرد الشاعر أعجابه المنقطع النظير بصمود الحزب معبرا عن سعادته بقامته الشامخة رغم ما ناله من التعسّف والجور والتهميش على مرّ السنين .
في صومعتي ...
في مهجري ...
الآن
أُعيدُ شريطَ ذكرياتي
وأنا ما زلت أتلو
مزاميرَ أسطورةِ مأساتكِ
مأساتي ....
وَأَحْـفـُرُ فِي صُخـُـور كـَهْـف الزَّمَانِ
حكاياتكِ
حكاياتي ....
ونقرعُ معاً أجراسَ الحنين
للنشيد الآتي ...
جاءت تلك المقاطع مشحونة بالألم والذكريات والمشاعر الدافئة والحنين الى رفاق عمره وممن جايلوه وعاشوا معه تجربة النضال وحكاية المآسي مع زمر البعث الفاشستي مستذكرا فيها الوجع المقدس المحفور في ذاكرة الوجدان .
إعزفي مولاتي
بمزمارِكِ لتُشفي دائي
دقي أجراسَ معبدِكِ
لتوقظي النائمينَ من غـَفـْـلـَـتِـهم
أَعَـزْفِي ...
عَلَى قِيثَارَتِـكِ وَاعْلِني
إنّ العصافيرَ وإنْ هـَجـَرَتْ
تعودُ يوماً ....
لتمزّقَ ثيابَ الليلِ البالي .
الحقبة التي حكمها النظام الدموي البعثي كانت من أشدّ الفترات سوادا وحلكة ، أجبرت الشعب أن يبتعد عن أدبيات القوى اليسارية والتقدمية لدرجة أن منْ يقتني كتابا أو قصيدة لشاعر شيوعي مثل مظفر النواب او عريان السيد خلف وغيرهم يُتّهَم بالخيانةِ والعمالةِ والجاسوسيّة .
ولما كان الأمرُ كذلك ، حتما ستكون لقاءات الحزب بالجماهير شبه منحسرة أو منعدمة ، لكن الشاعر هنا يتحدث وفقا لجدليّة المنطق الديناميكي ولسان واقع حال الحراك السياسي والثوري الذي يجزم بعودة المدنية واليسار ثانية كي يمزّق الليل الحالك المتهرئ لمّا تعزف الشيوعية ألحانها الجميلة بلغة العصافير لا بلغة المناشير ، التي طالما إفتقدتها الساحة السياسية والنخب العراقية المثقفة لسنين طوال .
وبعودة الحياة الى مدنيتها وتمدنها حتما سوف تُشفى من درنها السياسي وأمراضها الأجتماعية المتمثلة بالعنف والكراهية والقطيعة والإحتقان العرقي والطائفي .
كيفَ ابدأُ..؟!
وَمِـنْ أين ...
وكيفَ أبوحُ لكِ مولاتي !!
أمنذُ أنْ قـَطـَّرتِ ماءَ الحياةِ
في دمائي...؟؟!!.
كلما أُحاولُ أنْ أبدأ ...
لأُسَجـِّلَ كلَّ شقائي وعذاباتي
تتساقطُ أمطارُكِ لتجرُفَ فايروساتي .
كنتُ دوماً أراكِ ، مولاتي
مـُدنـاً بلا دخانِ
وواحــًة للعشاقِ ...
حروفُكِ .. ألوانُكِ .. إسمُكِ
أمستْ راياتي
ترفرفُ فوقَ رابيتي
جِـئتِ مولاتي
شُعاعـاً وينبوعا
ففتحتِ بجيوشكِ قلاعي
فاسْـتـَسْـلـَمـَتْ طربـاً لكِ
مولاتي
كـُلُّ مُدنِ آهاتي ...
فنذرتُ لكِ جميعَ ممالكي
فُضـْتِ كما يُفيضُ البحـرُ
على صحرائي
حطمْتِ جدراني
سَـبـَّحـْتُ بإسمـِـكِ
فـَصـَفـَّـقـَتْ لكِ تبجيلاً ،
فاكهةُ بُستاني
عشـقـتـُكِ طفلاً ...
مولاتي
وما زلتُ ...
وما زلتُ ....
بَعْدَ أنْ غَزَا الْغُرَابُ الأسْوَدُّ بـِلاديْ
عشـقـتـُكِ مولاتي
فمن يعـشَـقــُكِ
لا يعرف الموتَ طريقــاً
لقامتـِكِ الشامخةِ ...
و قاماتي
مِنَ أين أَبَدَأ مولاتي
مِنْ أيَّةِ مصَادِرٍ بَاتـَتْ اقتباساتي
أمِنْ كتبٍ ممزقةٍ يقطرُ منها الدمُ القاني
أم مِنْ أوراقٍ محروقةٍ في فصولِ الدخانِ
كيف أبدأ كلماتي
لأنقشَ لكِ حكاياتي
لأتركَ على وجنتيكِ قبلاتي
لا القلبُ غادرَ نبضاتـكِ
ولا نبضاتــُـكِ تنبضُ
خارجَ نبضاتي
ولا أستبدلتُ رداءَكِ
منذ أنْ صار ردائي
جمعتُ
مولاتي ....
بحورَ الشعـرِ لأكتبَ قصائدي
وأُنظـُمُ لكِ بيتـاً ...
بلا قوافٍ وبلا أوزانِ
فأنطفأتْ إضاءةُ المسرحِ
أظـْلـَمَـتْ الصالة
وبقيتِ أنتِ شاهداً
على كلِّ مشاهدي
وإنْ غابَ النصُّ....
تبقَيْنَ أنتِ عنوانَ مسرحياتي
أصْغـَيـتُ لتراتيل سمفونيتك
مذ رضعتُ حليبَ الحياة من ثديك
تـَخـَرَّجـْتُ عاشقـًا من مدرستـِكِ
تعلمتُ كتابةَ حروف اسمكِ
من شينٍ الى تاءِ
وأنْ أكتبَ بلونِ دماكِ ...
أسماءَ الشهداءِ
أيا نجمةً في ظلماتي
اليكِ يا مولاتي ....
لا أشكو غربتي وأغترابي
كنتِ وما زلتِ شمس زماني
كنتِ وما زلتِ تستوطنين
كلّ أماكني
أنقذتِ مركـَبي من الطوفانِ
وأطفأتِ ما شَبَّ فيه من نيرانِ .
يبدو أن حجم علاقة الحب والعشق والوفاء الأزلي للشاعر مع مبادئ الشيوعية وأحضانها الدافئة الحنونة قد فاقت كل التسميات والمسميات .
وحتى عنوان القصيدة الذي رمز من خلاله أديبنا للشيوعية بأنها مولاته قد جاءت فيها مشاعره الصادقة والحميمية أوسع معنىً وأكثر من الدلالات الرمزية المعروفة لمفردة ( مولاتي ) .
ولو كنت مكانه لتركت العنوان مفتوحا كنصه ولأسميتها ( سمّها ما شئت ثم أبدأ بمولاتي ) .
والبوح الذي ذكره الشاعر هنا ، أمّا أن يكون للحبية أو الأم ، ولعله قصد الأثنين معا ، وربما تحتاج الى آخر وآخر وآخر ... لأن الشيوعية تضم الجميع وتعني كل المسميات النبيلة ، فهي الحبيب والأخ والزوجة والأم والصديق وأبن الوطن والجار والثائر .
ولكن غالبا ما يبوح الأنسان بأوجاعه وهمومه وآلامه للأم ، لأنها أقرب للإنسان عاطفيا وروحيا ، إذ يشعر أن أحضانها بلسما شافيا ودواءً لكل جراحاته وآلامهِ .
ويسترجع الشاعر ، ويقول كلما حاولت أن أبوح لك عن عذاباتي ، تتساقط أمطارك لتغسل فايروساتي .
وليس هناك وصفا للنقاء أبلغ من الأمطار لأنها طاهرة لم تُلوّث بفعل فاعل ، وهي من صناعة الطبيعة والسماء التي ترمز الى السليقة والطهارة والعفوية ، لذلك وظفها الشاعر في هذا الموضع لأنها الوحيدة المؤهلة تماما لغسل أبناءها من الفايروسات والتسمم العقائدي والفكري والترهل النظري .
وعندما حاورت الشاعر وسألته ؛ لماذا وأنت الشفاف الوديع النقي تنسب لنفسك الفايروسات !؟
قال : يا سيدي نحن لسنا ملائكة ، ودائما بحاجة الى الإعتراف بأخطائنا في كل مجالات الحياة ، وإعادة قراءة مواقفنا وجلد ذواتنا يجعلنا دائما على جادة الصواب .
وفعلا لا أحد يسلم من التقصير لكن من يعترف بذلك حقا هو العظيم .
وأرى أن أديبنا لم يكتفِ بجلد ذاته فحسب أنما بات على ديدنه موصولا مستمرا بتواصله مع حبيبته وأمه ومولاته روحا وفكرا وقلبا وقالبا .
إذ لم يغادر قلبه المولع بالعشق نبضاتها ولا نبضاتها تدقّ يوما خارج نبضات معشوقها ، ولا هو عرف يوما رداءً غير ردائها .
شذرات الحب ، كيفما قالها ، بلا وزن أو قافية تخرج قصيدا بالفطرة كالدرّ منتظِما ، متيما صادقا شاعرُها لا تنازعهُ بحور الشعر صنعتها ولا خليلا يحتجّ لعروضِها .
وإنْ غابتْ كلّ أنوار العالم أو غُيّبَتْ تبقى مشاعل مدرستها عناوين الطرقاتِ .
لم يخلو موضعا من أماكن أديبنا وفكرهِ إلاّ إستوطنتهُ أنفاس مولاته ، التي ما برحت تلازمه رحلة الحياة منذ الرضاع وحتى غربته في أرض الشتاتِ .
خَطَّ الدمعُ إسمَـكِ
على صفحاتِ ديواني
وما زلتُ أمشي بين الاعشابِ
أركـلُ الزوان بأقدامي
مشيتُ ... فسمّيتُكِ ....
مشينا... فسمّيناكِ ....
أنتِ ...
أنتِ مولاتي ...
يختم شاعرنا الأديب موفق ساوا قصيدته الرمزية الرائعة ( أنتِ مولاتي ) بإنتفاضة وجدانية وعقلية متنوّرة ، بأسلوبٍ أدبي واقعي مؤثر جدا ، وغالبا ما كان يكتب بهذا الأسلوب الشاعر والروائي الفرنسي ( لويس أراغون ) تاركا أثرا كبيرا ومنعطفا واضح الدلالات على الساحة الأدبية والسياسية سيما في روايته ( المسافرون على عربة أمبريال ) التي وصف من خلالها الطبقات والمجتمعات البرجوازية والأرستقراطية الحاكمة كيف تنهار وتتفسخ في نهاية المطاف .
وقد تضمنت قصيدة ( أنتِ مولاتي ) هذه الأطروحة في المقطع الأخير .
حيث وقف الشاعر ضد الأفكار الإنتهازية والرجعية التي أسفرت مماحكاتها عن نمو الأجساد الغريبة في المجتمع ، والتي وصفها بالزوان ، الأعشاب الضارة وغير المجدية ، معبرا عن رؤية الأنسان العراقي المثقف الذي يركل ما يقوّض مسيرة الحياة ويعرقل حركات التحرر والتنوير الفكري ، متخذا من عقيدته ومبادئه التي ترعرع ونشأ عليها عنوانا وإسما كبيرا يتسع للجميع من خلال عطفه كلمة مشينا بصيغة الجمع على مفردة مشيتُ بصيغة المفرد .
ولا تختفي سريالية القصيدة أيضا عند الدكتور موفق ساوا من خلال مناقشته لموضوعية حتمية عودة العصافير المهاجرة ، حيث أمتزج حلمه بالواقع المنشود وهذا ما أكد عليه الشاعر والفيلسوف الروائي الفرنسي أندريه بروتون في أعماله ونصوصه الأدبية في نهج السريالية الحديثة التي تعتمد الثورة ضد الواقع من أجل تغييره وأعادته الى مساره الصحيح لا الإكتفاء بالأحلام ومحاكات اللاوعي أو محاولة هدمه ورفضه بشكل عبثي وخطى إنتقامية كما فعلت الحركة الدّادائية في الثقافة والفن أثناء الحرب العالمية الأولى في زيورخ / سويسرا .
قصيدة ( أنتِ مولاتي ) سلكت طرقاً منتظمة وجزلة ومرنة الى حدٍ ما في نظامها التركيبي والصوتي رغم كثافة المفردة وإيحاءاتها المتعددة الدلالات والصيغ .
وذلك قطعا من شروط نجاح النص أن يكون تفاعليا مع المتلقي ، متوائما مع الحركات الغنائية للروح ومع تموجات الحلم وإرتعاشات الضمير كما يعبر عنها الشاعر والناقد الفرنسي شارل بودلير .
القصيدة فرنسية بأسلوبها ، شرقية بتداعياتها وإرهاصاتها ومناخاتها ، لذا هي متماهية مع الفكر الحداثوي في تناول الموضوعات العاطفية والوجدانية بأسلوب علمي ونفسي مكثف ينسجم والذائقة الفنية والأدبية للمثقف الشرقي .
على قدر ما تحمل القصيدة من العواطف الجياشة حملت ما يوازيها أو يفوقها من خطاب الوعي والعقل .
وهذا اللون الأدبي قلما يلتفت اليه الشعراء والأدباء الشرقيون لتأثرهم بالنصوص المترجمة التي تفقد إيقاعها الداخلي وجرسها الموسيقي أحيانا .
وقطعا لا وجود للشعر بدون إيقاع وتناغم كما يقول أدونيس وإن كان ليس هو كل الشعر .
النص عبارة عن سفر لمجموعة من التداعيات والإرتحالات لكمٍ هائلٍ من العراقيين المعذبين والحالمين ، كان واحدا منهم شاعرُ القصيدة .
كاتب عراقي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق