أقاتل ويبكي؟/ جواد بولس

"رغم قوة الأدلة التي كانت تدين كورنيليو كودريانو، الطالب بكلية الحقوق في جامعة ياش الرومانية والبالغ من العمر ٢٤ عامًا ، إلا أنه لم يكن يشعر بالقلق خلال انتظاره قرار المحلفين في محاكمته بتهمة القتل".
 هكذا يصف المؤرخ كيفن باسمور في مقدمة كتابه " الفاشية" إحدى الحالات التي كانت منتشرة في مستهل سنوات العشرين في أوروبا والتي يسوقها كمؤشرات مبكرة على استفحال الأنظمة الفاشية فيما بعد، فمؤرخون كثر وضعوا الغباء في طليعة العوامل المؤثرة على سيرورة التاريخ؛ وعندنا قد تكون العنجهية الإسرائيلية  المستديمة أبرز تجليات هذا الغباء القاتل، خاصة إذا عرفنا أن غباءها مكرر عن حالات تاريخية عاشتها بعض الشعوب التي ما زالت تدفع جراءها أثمانًا باهظة.    
من غير المعقول ألآ يكون هناك رابط يصل معظم الأحداث الفائرة على الساحة العامة الإسرائيلية والتي قد توحي للناظرين أنها مجرد تداعيات متفرقة لا يجمعها مولّد واحد، ولا تشحنها ذات المفاعلات، بينما هي في الواقع تقاسيم على مقام الوداع ترافق موسيقى "عامونة" أو لحن الموت يعزف في أزقة المخيمات الفلسطينية و"تفاريده" الموجعة، وهذه تؤكد للغافلين والجهلة والمغامرين من جماعاتهم أن من يعصون تعاليم سماء "يوشع" مصيرهم أن يصيروا قربانًا على رخام التاريخ البارد، ومن يضحي "بأزاريه" في سبيل استرضاء الأمم وضميرها الألكن سيُلقى في غياهب النسيان، ولن يتبقى من ذكراه غير نتف يطيرها  قوس منجّد هذا الزمن المنتوف على هضاب يهودا والسامرة.
فمن كان يتصور أن يتحول قاتل مارق إلى بطل يبعث بفعلته أسطورة داود "المرغم" على قتل جوليات الفلسطيني؟ وذلك حين صوب بندقيته، بهدوء الموت نفسه، إلى رأس جريح فلسطيني كانت دماؤه تتهادى ببطء لتحتضن ثرى مدينة أورثها أبوها أطول حرب جينية بين "أخوين" ضاعا على حافة قرن كبش ثاغٍ بيأس.
لا تحسبوا أن عملية قتل الجندي إيل أور ( اله النور !) أزاريا للشاب الفلسطيني عبدالفتاح الشريف وما تلاها من تداعيات في المحكمة العسكرية ونتائجها التي ما زالت تتفاعل، كانت مجرد حادثة عادية مثل تلك التي سبقتها أو ما سيأتي بعدها. ربما كانت صدفةُ توثيقها بواسطة المصور الفلسطيني عماد ابو شمسية، وتبني مؤسسة "بتسيلم" الإسرائيلية  لها هي من العوامل التي هيأتها لتتحول إلى مسرحية حية تستحضر تاريخ احتلال يمر بتحولات توحشية من يوم إلى يوم ، لكنني أرى أن ما فرضته مشاهد عملية القتل وتبعاتها كانت مسائل مؤجلة تفتش عما وعمن يدفع بها أو بما يشبهها إلى صدارة السجالات الجماهيرية الإسرائيلية والنقاشات السياسية والإعلامية، فحسم بضعة قضايا مبدئية عالقة تريد أكثرية الإسرائيليين حسمها صار هدفًا مركزيًا وهاجسًا تسعى وراءه تلك الجموع التي مثلها أزاريا وهو يطلق، دون أن يخشى كاميرا أو أحدًا، رصاصة الموت على جسد آدمي حي، ومعه من صرخوا ودافعوا عن حقه بقتل الفلسطيني، فهم مثله جنود في فرق الموت الجاهزة.
صرخات المستهجنين من "وقاحة" النيابة العسكرية في تقديم أزاريا إلى المحكمة صادقة، وشجب جوقات المحرضين لدور القضاة العسكريين ومن شهد ضد الجندي القاتل وتهديداتهم المنشورة على الهواء مباشرة حقيقية وجادة، وعلينا أن نصدق أن ذاك الجندي القاتل آمن بطبيعية على أنه يملك حق إنهاء حياة ذلك العربي وكل عربي، وأنه ينفذ وصية وواجبًا من دون أن يعاقب عليه، والأهم أنه كان مقتنعًا بيقين أن أكثرية أبناء شعبه من اليهود "الطيبين المؤمنين"مثله يؤيديونه ويدعمون حقه بقتل هؤلاء العرب، وحتى بطردهم من مدينتهم، لأنها مدينة إبراهيمهم وذريته من الأنبياء والصالحين، ولذلك نجده قد افترض هو وأبناء عائلته والمقربون ومن لف لفهم أن الدولة والجيش لن يضحوا به من أجل ما ادعوه لاحقًا وأسموه بمنظومة القيم الأخلاقية التي يجب أن تسود في صفوف جيش الإحتلال وتحكم تصرفات جنوده.
عملية قتل الشريف الفلسطيني هي مأساة عصرية تحاكي مآسي أزمان شهدت على استرخاص الجثث ومحاكمة الجندي أزاريا  مهزلة تستدعي فصول انهزامات العدل المخنث، ويبقى رهان البعض على معاقبة القاتل بما يستحق على فعلته رهان الخائبين، فنحن أمام آخر مسرحيات العبث وقريبين من فصلها النهائي حيث تدور فيه المعركة على مقاليد الحكم في دولة إسرائيل.
إنها المعركة الأهم، لأن رحاها تطحن ما بقي من عظام الجسد القديم. وهي منازلة على  قدس أقداس هذه الدولة  وعلى صورة أي جيش سينتصر ويسود، فبعد أن ضمنت الجحافل التي خرّجت أزاريا وأمثاله صدارتها في السلطتين التنفيذية والتشريعية، وبعد أن صارت طلائعهم تسكن داخل"عُرٓب" القانون وتراقص بخفة منظومة القضاء والمحاكم وتكاد تسقطها، جاء دور الجيش، فهم يعرفون أن لا قوة بدون خوذات تأتمر وتستعر وتمضي، ويعرفون، كما علمهم سفر الحروب يوشع، أنه بدون تلك البنادق لن يستو لهم ملك ولن يستقيم سلطان! 
في البدء سقط اسحق رابين وذلك بعد أن زرع ورفاقه في قمم الهضاب الفلسطينية المحتلة حربًا وحقدًا وظمأً، فحصد ما زرعه من الدم والعدم. موته لم يتحول إلى عبرة، بل أدى إلى حالة من الهلع أوصلت كثيرين إلى مراضاة أرباب التخويف والانتقام وسادة العصا والمال، فالذي تملقهم أو ماشاهم نجا فعاش واحتفى، ومن تمرد ولو قليلًا و"انحرف" دفع الثمن، مثلما حصل مع البعض، وأهمهم كان إيهود أولمرت- الذي عرته النمائم وحاصرته التمائم، وفي ليلة غاب عنها قمره أمسى خائنًا للدولة، كما وصفه القضاء ساعتها، فحكم وسجن وانزاح غيمه عن جبال القدس التي صفت سماواتها وأمطرت على من ما زالوا يتدافعون على أبوابها صارخين: الموت الموت للخونة، والملك لابناء الله الأصفياء.
لم يكن اولمرت وحيدًا فبعده طويت أعلام زرقاء، ونكست رايات بيضاء وقد يكون ما يجري مع بنيامين نتنياهو في هذه الأيام هي قفلة  تلك الرواية: مسيرة الخوذات نحو الهيكل.
حلفاء نتنياهو من اليمين المنفلت يعتقدون أنه أنهى ما عليه من مهام، وغدا يشكل أمامهم عقبة تمنع تقدمهم نحو سدة حكمهم المطلق، فما يؤمن به نتنياهو وحزب الليكود لا يشبع وطر تلك الفرق، ولا يتماشى مع عقائدهم ومشاريعهم التي باتت مكشوفة ومعلنة، فهم مثلًا يعتبرون قائد أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي خائنًا، ومصيره يجب أن يكون كمصير إسحق رابين المقتول ، كما كتب البعض وأعلنوا بعد إدانة الجندي أزاريا.
أمام هذه الضغوطات يحاول نتنياهو أن يثبت أنه الأشرس ومثال اليميني القومي الأصلي، وبهذا الدافع يقرر أن يضرب بجميع عصيه ليكسر عظام أعداء الأمة والدولة، فيغير على بيوت قلنسوة العربية مسترضيًا فيالق "العامونيين" الجدد ومحاولاً احتواء غضبهم، كما ويبادر لكتابة "بوست" على صفحته الخاصة ليؤيد فيه إصدار عفو عن أزاريا الجندي القاتل، ويدعم ويدفع بعدة مشاريع قوانين تستهدف جميعها حقوق مختلف الأقليات وفي مقدمتها المواطنين العرب.
لقد استشعر نتنياهو ما يعد له من قادهم على ذلك المنزلق،  لكنه يدرك في ذات الوقت أن العودة إلى الوراء ستعرضه للسحق تحت الأقدام الزاحفة، بينما ستكون الهاوية قدره إذا ما استمر بانزلاقه الخطر.
قبل أيام طلب طاقم الدفاع عن الجندي القاتل أزاريا تأجيل جلسة المرافعات بشأن العقوبة، من اللافت أن الطلب قدم في أجواء تتسم بهجوم متصاعد على القضاة والنيابة والشهود وملاحقة المصور أبو شمسية وتهديده، وبعد جلسة تمت بين قائد الجندي المباشر وأبناء عائلته وصفت كجلسة تلطيف الأجواء بين الاطراف، وفهمنا مما نشر أن النائب العسكري قد اعترض على هذا الطلب،لكنه ضمّن إجابته شهادةً تفيد بأن أزاريا كان جنديا مميزًا وإيجابيًا لغاية يوم حادث القتل! 
في العام ١٩٢٤ منعت الجموع انعقاد المحكمة في مدينة فوكسياني بسبب اندلاع أعمال شغب عنيفة، فقررت الدولة نقلها إلى قرية وادعة صغيرة اسمها تورنو سيفرين الواقعة على نهر الدانوب البعيد، وأملت أن تكون أجواؤها أكثر هدوءًا لإتمام المحكمة، لكن الآلاف من أنصار الفاشي كورديانو انتفضوا حتى كانت تبرئة القاتل هي نهاية المحكمة تمامًا، كما توقع هو وأمثاله، هكذا سجل التاريخ أحداث تلك القضية الصغيرة التي ذكرتني اليوم فيما يملأ شوارع فلسطين وحاراتها. 
في الجو إشارات تشي بوجود محاولات لايجاد حل يرضى عنه أزاريا وتلك الجموع الصاخبة، فمهما يكن الحكم الذي سيصدر ستبقى عملية قتل الفلسطيني في هذه الأجواء مجرد "فدية" يسكت عنها قادة إسرائيل الخائفين على مصائرهم، وليست أكثر من حادثة ستطويها الأيام على رفوف محاكم نفر من فضاءاتها العدل، وهو الذي يطل علينا من السماء عاريًا  وملتبسًا.      
اننا نعيش في عصر قد تكون نهاياته شبيهة بما حصل في تلك الدول عندما انتصرت فيها فرق الموت على عشاق الحياة ساعة صمتت أكثرية البشر معتقدة أن الموت بصير وحكيم ! إنه عصر ما بعد نتنياهو.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق