أن تفكيك الخطاب المضمر في مجموعة النصوص الشعرية (تصاويرك تستحم عارية وراء ستائر مخملية ) للشاعر كريم عبد الله , واكتشاف الرسالة الانسانية الموحهة فيها , ومعرفة الانساق الثقافية المضمرة في متن النص الشعري ,واكتشاف الاسلوب الذي من خلاله يقوم الشاعر بتدوين قصائده , يتطلب منا اولا معرفة تطور قصيدة النثر منذ انبثاقها الى الآن , اذ أنها شهدت حركة تصاعدية ملحوظة في الوعي , وخضعت لتجارب حداثوية كثيرة وكبيرة من أجل الوصول الى سياق فني مستمد من جذورها الاصيلة , كونها الحصيلة النهائية للحركة الشعرية , ابتداءاً من حركة تطور الشعر العمودي ,ليتصل بالشعر الحر او شعر التفعيلة في حركته التتابعية المتواصلة منذ ولادته عبر رواده , بدر شاكر السياب , نازك الملائكة , عبد الوهاب البياتي , كونه نتاج طبيعي وولادة سليمة وجديدة لحركة الشعر , كون قصيدة النثر يجب ان لاتخرج عن اطارها الصحيح , وأن لا تنحرف عن مسارها ضمن الوعي الحداثوية للشعر , وهكذا فأن قصيدة النثر لايمكن لها أن تكون الا شعراً , وأن تنتمي المفردات المنتقاة لبناء النص ضمن خط الشعر , وأن تحمل روح واصالة وعمق هذا التطور , أن الشاعر كريم عبد الله يعي جيداً حركة تطور قصيدة النثر , ولم يكتف بصياغتها المعتادة بل أنه خرج عن هذا المفهوم ليوظف معها مسارات جديدة ضمن متن النص دون الاخلال بأصوله وجذوره ,حيث نجد في كل نص شعري حكاية او حدث أو لحظة مستقطعة من واقع الحياة لتكون حالة مكملة لوحدة بناء القصيدة , الا أنه لم يظهرها كما هو معتاد في عالم السرد فجعلها مضمرة ضمن النسق الفني للبنية النصية للقصيدة , الى الحد الذي توارت في معالمها , واضحت حزءاً من بنية النص , كوننا لم نلاحظ لحركة الحكاية من ظهور , بل أننا نجد الشاعر ادخلها مخيلته الشعرية ليعيد بناءها ضمن متن النص , كما أن الشاعر عمد الى التجديد في اختيار بنية العنونة وجعلها من ضمن النص , وليس جزء مكمل او حالة تعريفية او رؤية رمزية للنص , كونه اختار العنوان من متن القصيدة , اما من بدايته او من الوسط أو من نهاية النص , وعمد ايضاً أن يكون مطولاً , وليس مفردة واحدة او جملة مختزلة , وهذا يجعل المتلقي منسجم مع النص ومتابع له دون ان يكون العنوان سبباً معيقاً في الحركة التتابعية او يكون حائلاً في تعكير صفوانسيابية النص , ليقدم لنا بعد ذلك قصيدة تعبيرية نثرية سردية , وهذا النمط هو التيار السائد في العالم العربي , بل وفي العالم برمته , كونه نتاج طبيعي لتطور قصيدة النثر , ويعد الشاعر كريم عبد الله واحد من الذين ارسوا معالم هذا النمط الجديد في قصيدة النثر وهو ايضاً من الذين واكبوا وكتبوا في هذا التيار الجديد , وفي النص الشعري ( الغيابات المتكررة ... صدى الراحلين ) الذي استل عنوانها من مستهلها , تبدأ رحلتنا مع هذا التيار الشعري الجديد
أيتها الغيابات المتكررة في سمائي ..
يا صدى الراحلين في ظلمات النسيان ..
الأضغاث عادت تستريح على ظل السراب
في المرآة عيون تزدحم محدّقة ..
وهي حالة من حالات هذا التركيب بين اكثر مسار , الصورة الشعرية , الرؤية الحياتية , الاستعارات , الحكاية المضمرة , وهي كذلك صوت متناغم حزين لحالات الانكسارات النفسية الذاتية العميقة , التي لايمكن ان تنطلق بالبوح الا بهذه المفردة الشعرية المتلونة التي تشير الى اكثر من معنى , عبر ما يخلفه الرحيل وأسبابه .
فثمة وجه لا يفارق رحلة عابرة يكّنزها النفيّ
الزرقة المخبأة في مكاتيب الانتظار تبعثرت ..
كمنشور معلق على صدر منخور يتوارى ..
أخيط هذا الأفق الدامس بلهيب يطرز وجهي
ونلاحظ ايضاً أن الرؤية المخبأة خلف السطور , لا يمكن لها أن تصل مالم تكن المفردة الشعرية تعمق مدلولات استعاراتها , وفي النص الشعري ( على صدر الكلمات ... همس الرحيق ) نرحل بعمق فكري ووعي ثاقب نحو حالة اخرى للشخصية المأزومة التي رسم ملامحها الشاعر , والتي جاءت كنتيجة ضرورية من اجل ايقاد النص برؤية شعرية لحالة الانكسار النفسي الذاتي العميق , وفيها نعيش مع همس رحيق الذكريات , والانتظار , وسني العمر التي تمضي فتترك ظلالها القاتمة على حركة الزمن
على صدر الكلمات أغلقت شكوكي ..
أفصل من همس الرحيق قميصاً..
أغطي هذا العشق باهداب الخجل
تتوارى طبولي مثقلة مصلوبة تظللني ..
أغزل حول اسوار الشفتين شرنقة الكذب ..
أما النص الشعري ( رائحة النارنج تملأ جيوبي ) والذي استل بنية العنونة من وسط متن النص , تحيلنا الى حالة لهب متوهج من الحنين والذكريات , في اضمارها حكاية تنساب كأنغام ناي حزين , عن فراق , وذكرى , واستحضار , واسى , والم , وحزن , وحرمان , وكبت , وكأنها صرخة استغاثة من اجل عودة الزمن
موسم القطف يخضرّ في الفساتين الماطرة ..
البلابل عشعشت في حنجرتك ..
كلما فتحت ازرار الليل تنهمر اقمارك ..
ترصّع اخاديد وجهي بياقوت أحمر ....
مذ كنت .... ورائحة النارنج تملأ جيوب
ينابيعك تعمّد الكلمات اذا انتابها الشلل ..
كما نلاحظ في بنية كل نص , هنالك نص صامت عمد الشاعر تركه للمتلقي ليكون مساهماً ومشاركاً مع الشاعر , عبر التأويلات التي يراها تنسجم والحالة النفسية التي يعيشها , وفي النص الشعري ( لا مأوى الا عينيك تشحذان عشباً شائخاً )نجد هذه الشخصية المنكسرة المأزومة المهمومة تحاول الافلات والخروج من طوق الحصار , محاولة الخروج من الشرنقة الرهيبة الى واقع الحياة المضيئة المزدهرة , كما نجد بنية العنونة وسط متن النص .
لا مأوى الا عينيك تشحذان عشباً شائخاً ..
على ضفتي جرح فاغر فاه يرتمي الأمس ..
يدخل تحت دشداشة طفولتي حلم أرمل
منذ ذاك الحين وأنا أحمل وجهاً ملطخاً ..
بصلصال الغربة أجوب محطات باكية تسلقت اعمدتي ...
ظلت فارغة جبهتي الا من أكداس المواعيد ...
أما النص الشعري (صقيع ..... يلتهم الجكليت ) فأنه يعلن حالة الاستسلام البارد كالثلج امام هذا التردي المقيت , ويصف الربيع كما تحسها الذات المنكسرة وما وصل اليه حال البلد
بأعناق الفوانيس يشتد حزن الجوع الأسود
الأيام بلا تقاويم والعار عقارب تصلي الليل ..
على وجنات العصافير النازحة تعوي الغربة ..
والربيع يتكوم قنبلة موقوتة في مرحاض ...
منشغلات دواهي المؤامرة بغنائم النساء ...
الأمراء متخمون بعصير النهود المغصوبة بأسم الحق ..
وحيداً على ضفاف الدين يموت الرب ..
وفي ( ملحمة الوجع المستديم ) والتي تؤكد بأن الوجع مستمر , وأن الموعد كذبة , وان ليس هنالك من شيء يدعو للسرور يلوح في الافق البعيد , كون الفاتحون هي سبب الخراب .
وباء يركض في اطراف المدينة ..
موعدنا كذبة عاهرة نصدقها دوماً..
كيف يكون الأفق زنزانة تنبح بوجه الشمس
وهذا النواح الطويـــــــــل بلون واحد مطاطئة نغماته .. والفاتحون يبصقون
على جرح نازف لمّا يندمل.!
المناجل جاءت تحز رقاب الشموخ ..
السنابل الحبلى تتلوى بقبضة غراب أعور ..
بينما الأفواه مكبلة بصمت سحيق ..
وهكذا فأننا نكتشف أن قصيدة النثر بأستطاعتها أن تكون بديلاً موفقاً لحركة تطور الشعر , كونها بلا حدود , ولا تحددها قافية وهي مطلقة حرة تنهل من نبع الشعر كيفما تشاء , وبأمكانها رسم لوحات شعرية متعددة وغير متناهية , الا أنها لا يمكن لها أن تغادر الشعر , بل أنها يجب أن نستمد قواها ديمومتها من جذورها ومن حركة التطورات التي رافقت الشعر منذ انبثاقه , ولا يمكن لشاعر قصيدة النثر أن يستسهل مهمة صياغتها , كونها اكثر صعوبة من قصيدة التفعيلة , لأن بأمكانها أن تستخرج كوامن المشاعر الساكنة في قاع الذات ويطلق عنانها لتظهر على سطح القصيدة , أن الحرية المتاحة في قصيدة النثر تتيح للشاعر أن يبحث عن كنوز المفردة التي تساهم في بناء وحدة الموضوع وتشده وتجعله اكثر تماسكاً , وما قدمه الشاعر كريم عبد الله في نصوصه الشعرية ( تصاويرك تستحم عارية وراء ستائر مخملية ) نقلة جديدة في بنية النص النثري , والذي واكب من خلالها حركة تطور القصيدة , كما أنه ارسى معالم التيار الجديد في القصيدة التعبيرية النثرية السردية التي تستمد قوتها من عالم الشعر ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق