الحكم على إنتاج شاعر معين، لا بدّ أن يستند إلى المضامين التي يُقدمها في شعره، فهي تعكس لنا نظرته إلى الحياة ومشاعره وهمومه الذاتية والجمعية وعلاقاته الشخصية بالمجتمع وهمومه. ولكنّ الأشكال الشعرية التي يختارها هذا الشاعر أو ذاك، تُساهم هي أيضا، مساهمة هامّة في أيصال رسائله إلى المتلقّي. ولذلك قد يتنقّل اختياره للأشكال، بين القصيدة العامودية وقصيدة النثر وما بينهما من أشكال أخرى. والاختيار الموفّق للشكل، يبدو لي أهمّ من المضمون الذي قد يطرقه الكثيرون، لأنّ التميّز الذي يسعى إليه المبدع، غالبا ما يأتي عن طريق الشكل الذي يُقدّم فيه مضامينه. ومن أهمّ ما يتعلّق بالشكل، هو قدرة الشاعر على اختيار اللغة المناسبة شكلا ودلالة، وما فيها ترميز واختزال للأفكار والمشاعر والثقافة، بكلمات قليلة لها معانيها ودلالاتها العميقة، التي يخلق ترابطُها أثرا في نفس المتلقّي فيدفعه إلى ردّ فعل قد يكون عاطفيا أو عقليا أو يجمع بين العاطفة والعقل معا.
الشاعرة دوريس خوري، شاعرة فلسطينية من أب لبناني وأمّ فلسطينية، تعيش همّها الخاصّ الذي لا ينفصل عن هموم لبنان، وطن ابيها، وهموم فلسطين، وطن أمّها. لها صالون أدبي ثقافي، هو صالون "ناردين للثقافة والفنون"، ولها أعمال تتنوّع بين الشعر والبحث العلمي والمقالة الأدبية والاجتماعية وأدب الأطفال. وقد تمّ تكريمها في أكثر من محفل أدبي ثقافي، لإبداعها الشعري بشكل خاص. وقد حازت على أكثر من جائزة بسبب نشاطها الاجتماعي والأدبي والثقافي.
أمّا فيما يتعلّق بشعرها، فلا شكّ أنّ لديها تلك القدرة على التكثيف والترميز والاختزال، وأخْذ القارئ معها في رحلة إلى عالمها النفسيّ والحسيّ، ليُشاركها عملية البحث في مجاهل الغياب، عن الحقيقة الضائعة وعن الوطن المسلوب، وكذلك عن الذات المستلبة التي لا تعيش وجعها الشخصي فقط وإنّما تعيش معه وجع شعبها والإنسانية كلّها. فهي إذن قادرة على طرح مواضيع يمتزج فيها الخاص بالعام، تعكس همّها الفردي كجزء لا يتجزّأ من الهمّ الجمعي، همّ المجتمع والوطن والناس جميعا. ولتبلغ هذا الهدف، نجدها تكتب القصيدة بأشكال مختلفة، إلّا أنّها راهنت أكثر على الشعر الحرّ وقصيدة النثر، خاصة في ديوانها، "لنشيدِكِ... طقس"، الذي تتحرّر فيه من قيود بحور الشعر، ومن قوافيه التي تقيّد انطلاقها، إلّا أنّها تلتزم إيقاعات داخلية تنبع من ذاتها، فتخرج محمّلة بالكثير من الألم والمرارة، ولكنّها لا تعدم التفاؤل ولا تفقد الأمل، فتغدو قصائدها تحمل فرحا لا يقتله الألم ولا تُخفيه المرارة. لأنّ تلك ضرورة تُدركها الشاعرة التي لا تعيش حزنها الشخصي فقط، بل تعيش حزنا جمعيا وحزنا وجوديا يشمل الإنسانية كلّها. كما أنّ تلك الإيقاعات الداخلية التي تنبع من وجدان الشاعرة وحزنها، تتناسب مع ما تُقدّمه الشاعرة من شكل قد يُعبّر عن اغترابها وقلقها، ومن مضمون يكشف ما في طبقات لاشعورها.
كتبت دوريس خوري القصيدة بشتى أشكالها، بما فيها القصيدة العامودية، خاصة في ديوانها، "وعانقتني شمسها" (2011)، إلّا أنها في ديوانها، "لنشيدك... طقس" (2014)، كما أسلفت، تعترف أنّها لا تحبّ القيد، فعمدت إلى قصيدة النثر غالبا، لتجسّد انطلاقها في الشعر كما في الحياة التي ترى أنّها لا بدّ أن تتجدّد لكي تستحقّ أن يعيشها الإنسان. وذلك يبدوا واضحا حين يراها اللاجئ فتتجدّد روحه، "عندما أراكِ أشعر بنشوة الشباب" أو حين يقول لها: "أيْقظتِ روحي كغيمة نبيذ". والنبيذ كما هو معروف يُنشّط الدورة الدموية ويعيد للجسم حيويته.
في معظم إنتاجها الشعري، يُلامس القارئ أثر المنفى والاغتراب الذي تعيشه دوريس خوري نتيجة منفاها، القسري على ما يظهر، عن بلدها لبنان، ربما بسبب ظروف الحرب الأهلية في سبعينات القرن الماضي. ولكنّ انتقالها إلى فلسطين، جعلها تعيش تكامل الجراح الوطنية العميقة والمتداخلة التي لا تندمل. ولذا نجدها في قصائدها تحاول أن تستثمر هذا التكامل في تحليقها فوق ربوع فلسطين ولبنان، الأرض والإنسان، الأسطورة والتاريخ والتراث، باحثة عن الحبّ والصفاء والنقاء في مجتمع قلق أثقله حبّ الثعالب وزيف العواطف وتلوّنها بتلوّن مصالح أصحابها. وهذا الحبّ الإنساني وذاك الصفاء الذي يُرافقه، لا يعرف المصلحة ولا النفاق، نلمسه منذ البداية في إهدائها ديوانها، "وعانقتني شمسها" حيث تقول: "إلى كل من يُقدّس المحبّة بأنقى صورها الإنسانية، إلى كل من يعشق جمال الكلمة النابضة بالحياة الحرّة المستنيرة". هذه الروح يشعر القارئ بانبعاثها من قصائد الديوان كلّها. أما الاغتراب عن الذات وعن الزمن والواقع، وكذلك ضياعها في المنفى، فنلمسه أكثر في ديوانها، "لنشيدِك... طقس". فهي من بداية الديوان تُهديه "إلى من أهداني بوصلة بلادي / فتربّع على عرش قلبي / إلى من أعطاني معنى جديدا للحياة / إلى المنفيين في بقاع الأرض / إلى المشرّدين عن أوطانهم / يحلمون بانفراج كربهم / أهديهم كتابي علّه يكون / أنيس وحشتهم وسلوى كربتهم". إذن، ها هي الشاعرة، ومن بداية الديوان، تُقدّم الحبّ والمعنى الجديد للحياة الذي يقترن به، تُقدمه على التشرّد والمنفى والضياع فيهما، وتجعل منه وصفة للشفاء من هذه الأمراض.
في ديوانها، "وعانقتني شمسها"، يبرز حبّ الشاعرة الطاهر النقي وأن كانت لا تخفي أنّ الدوافع حسيّة أيضا وليست روحانية فقط. وهنا، تظهر جرأة الشاعرة التي يفتقدها أولئك الذي يعتقدون أنّ التحليق في سماء الشعر يعني التحليق في سماء الروح فقط. فهي، وبكل جرأة، تُمارس حقّها في البحث عن الحبّ الطاهر الذي ينبعث من صفاء القلب وجمال الروح، ولا يخشى من أن يكون ممزوجا بدوافع حسيّة، تُقدّمها الشاعرة بتعابير وأوصاف روحانية وحسّية تنتقي مفرداتها الجميلة الراقية، بحسّ لغوي راقٍ يُبعدها عن الابتذال والألفاظ السوقيّة التي تُشوّه الجمال أو تخدش الحياء.
وللأرض والمرأة وما بينهما من تماهٍ، نصيب وافر في هذا الديوان وفي شعر دوريس خوري عامة. فهي تُظهر المرأة الفلسطينية كأنثى يليق بها الاحترام والقداسة لذلك رفعتها الى مصافّ الآلهات الكنعانيات، وذلك لقوة إيمانها أن الأرض والوطن سيعودان لأصحابهما مهما طال الزمان. كما أنّها ترى الأمل المُرتقب في قصيدة "وعانقتني شمسها" التي يحمل الديوان عنوانها، حيث الحبّ يجعل الصحراء القاحلة تخضرّ وتتحوّل إلى جنة فيها تين وزيتون وعنب. وليس صدفة تذكُرَ الزيتونة وهي الشجرة المباركة في فلسطين، فهي ترمز إلى الأمان والسلام وقداسة الحبّ والأرض. وكذلك تجترح الشاعرة القداسة حيث نراها تعدو للهيكل المقدّس بحثا عن الحبّ المقدّس للرجل وللأرض، حين تقول في قصيدة "يا بلادي أنتِ لي": "وإلى الهيكل أعدو / أعشقُ الحبَّ وكل الأنبياء / أغسلُ الروحَ لِيبقى طُهرها يملأُ الفضاءْ" (ص 70).
وإذا كان للوطن بمفهومه العام حضور بارز في شعر دوريس، فإنّ للبنان، وطن الشاعرة الأول، حضور خاص يتميّز بالحنين الذي يُرغم القارئ على التعاطف مع الشاعرة وانسلاخها قسرا عن وطنها الأم. حنين الشاعرة الممزوج بغضب ثوريّ وحزن عميق، يتدفّق من كل قصائدها تقريبا. وإذا كان القارئ يلمس هذه المضامين من خلال الأشكال التي تختارها الشاعرة للتعبير عن كل ما يجيش في صدرها من عواطف ومشاعر رقيقة، وأحزان عميقة، فهو كذلك، يلمس ذلك كلّه من خلال توظيف الشاعرة، وبأسلوب شيّق، للتاريخ والتراث والأسطورة. فهي تغرف من ثقافتها العامة التي تنهل من التاريخ والتراث والأديان كلّها، من كتبها وتعاليمها.
إبداع دوريس خوري كله جدير بالقراءة والدراسة، ولكنّها لو كتبت قصيدتها، "لجفرا مقلة العين" فقط، لكان ذلك يكفيها، لما في هذه القصيدة من جمع متقن بين الإبداع الشعري وربط الشكل بالمضمون بلغة حيّة، راقية، تجمع بين الحسّي والروحاني، وبين الواقع والمتخيّل، وتتميّز بما فيها من تناصّ مع الأسطورة والدين والتاريخ والتراث العربي والإنساني بشكل عام. لذلك ستتمحور هذه المقالة حول هذه القصيدة.
"لجفرا مقلة العين"، قصيدة تلتزم فيها الشاعرة الأسلوب القصصي، وقد أبدعت الشاعرة الأنثى في تذكير السرد، حيث أعطت للاجئ مهمة القيام به. وتكاد هذه القصيدة أن تكون ملحمة شعرية كاملة تقوم على الحوار بين بطلين هما: اللاجئ وجفرا. فكلاهما يُجسّد بطولة الإنسان الفلسطيني وأسطورة لجوئه وما يُرافقه من عذاب واغتراب وضياع وصبر ورفض للاستسلام. وهما يُجسّدان أيضا، بطولته في أسطورة حبّه الذي لا يخبو أواره، ويُعبّر عن إنسانية الإنسان الفلسطيني وحبّه للحياة وحقّه في أن يُمارسها كغيره من البشر.
في هذه الملحمة الفلسطينية يربط الحبّ بين جفرا وبين اللاجئ الفلسطيني. جفرا تلك الجميلة الفلسطينية التي تفتن اللاجئ وتسبي لبّه، كتعبير عن قدرتها الروحية في دفعه لحبّها وعبادتها كإلاهة مثل إنانا وعشتروت وعنات وغيرهن من المعبودات عبر التاريخ والأساطير. ذلك اللاجئ الذي لا يرى له وطنا إلّا حضن جفرا الذي فقده. إنّه يسمع أنين المظلومين وآهات الجائعين وهو يجوب قفار المنفى ومتاهات الضياع لأنّ الله رفضه تحت سمائه، ورغم كل ذلك، يظلّ مفتونا بحبّ جفرا فلا يردعه عن حبّها شيء: "قال اللاجئُ: / ما لكِ يا جفْرا لِلاجِئٍ مِثلي / يُسابقُ الطيورَ في الصباحِ يُسافرُ مع الريحِ / يجوبُ القِفارَ يبحثُ عن لقمةِ عيشٍ / يزرعُ بكَفَّيْهِ حبَّاتِ قمحٍ / فتأْتي العصافيرُ أسراباً وجحافلَ / تَنْقُدُ حبَّاتي بِصَمْتٍ فَتَطْرَبُ / وتُغرِّدُ شحاريرُها / يُنْشِدُ الموالَ يعودُ في المساءِ / يَعْتلي قبةَ السماءِ ينامُ بين طياتِ الغيْمِ / يَسْمعُ أنينَ المُتَألِمينَ وخُوَارَ الجائِعينَ / فماذا يفعلُ لاجئٌ مِثلي في المنْفى لا مكانَ لهُ / ولا مأوىً حتى اللهُ لمْ يقْبَلْهُ في قبةِ سمائِهِ" (ص 25-26).
وإذا كان اللاجئ هو الإنسان الفلسطيني الذي شُرِّد من أرضه، فإنّ جفرا هي الأرض وهي الوطن، إنّها الفردوس المشتهى، فلسطين التي يشتعل حنينه إليها ويحلم أن تسمع شكواه وتنقذه من ضياعه ومنفاه، وتكون له خير ملاذ وخير صدر يحميه. وهي أيضا لا زالت تعشقه وما فتئت تناديه ليعود إلى حضنها الدافئ: "قالتْ جفرا: / هيَّا أيّها المنفيُّ أنْزِلْ شِراعَ سفينَتِكَ / واصْعَدْ فوق كَرْمِلي / واعبُرْ نفَقَ القلبِ / ها كبُرَتْ أنوثةُ مُفْرداتي / وحَرْقةُ الوردِ لِشَمِّ رعشةِ عِطْري / هيَّا ألبِسْكَ ثوبَ مَطري كيْ أُلْغيَ طُفولَتي / واكتَشِفَ فيكَ أبعادَ لُغَّتي وقاموسَ غِوايَتي / هيَّا أُعبُرْ الى منْفاكَ" (ص 26).
ولم تُخطئ الشاعرة حين قالت على لسان جفرا: "هيَّا أُعبُرْ الى منْفاكَ". فإمّا أن تكون قالتها وهي تقصد ضدّها، أي ملجأك أو ملاذك. أو قالتها وهي تقصد "منفاك الجديد"، باعتبار جفرا تتماهى مع اللاجئ، لأنّها هي الأخرى منفية مثله، وتُريد له الاستقرار والأمان في الوطن، لكي يستقرّ الوطن فيه، الوطن الذي يرجو أن يكون منفاه الأخير، المنفى المحلوم، حيث الإقامة الدائمة وتحقيق الأماني: "هيَّا أُعبُرْ الى منْفاكَ / حيثُ لا عسكرَ ولا بنادقَ سِوى / وصْوَصاتِ مناقيرِ عصافيري تُدَوِيَّ / في جنباتِ قلبِكَ المذبوحِ / هيا اقتَرِبْ وأنزِلْ شِراعَكَ فوق صَدْري / واهْجَعْ كالقتيلِ في خليجِكَ كي تنامَ / هنا ... تَجِدُ ملاذاً آمِناً! / أُعْطيكَ ... إقامةً دائمةً في قلبي / لكَ شجرةُ حُلْمي ... لك كلُ ما تتَمَنّاهُ" (ص 26-27). وهنا تظهر ثقافة الشاعرة ومعرفتها بأنّ المرأة بالنسبة للرجل في المنفى، هي ملاذ المنفيّ وخلاصه.
جفرا، الوطن، تستفزّ اللاجئ المنفيّ إلى منفاه الجديد، إلى الوطن، فهي لا ترى نفسها ومكانتها إلّا من خلال وجوده معها وفيها، لذلك تقول له: "هيَّا ألبِسْكَ ثوبَ مَطري كيْ أُلْغيَ طُفولَتي / واكتَشِفَ فيكَ أبعادَ لُغَّتي وقاموسَ غِوايَتي" (ص 26). ولتدفعه إلى الفعل، تشحنه أيضا، بقوة جسدية وبطاقة روحية، "مِنْ أورِدَةِ شراييني حِكْتُ لك ثوباً بنفسجياً" (ص 27). وقد أحسنت اختار اللون البنفسجي لأنّه يرمز في الدين المسيحي الى الطاقة الروحية. ولذلك يلبس الكاهن الثوب البنفسجي في المراسيم الدينية.
بعد ذلك تحكي جفرا للاجئ حكاياتها لتتجلى فيها قدرة الشاعرة على التجديد، حيث نراها تحكي له لتنقذه من منفاه، لا لتنقذ نفسها كما فعلت شهرزاد مع شهريار.
ويعرف اللاجئ مكانة الوطن في قلبه ونفسه، فجفرا هي الوطن، وهي مقلة العين ووطن المنفيين: "جفرا يا مقلة العين / يا وطن المنفيين" (ص 28). والوطن لوحة لا يفهم أسرارها أحد كاللاجئ المنفيّ عن وطنه: "أرسُمُكِ لوحةً سِرْياليَّةً لا يفْهَمُها سِوايَ" (ص 29)، وهو يريدها دائما، أن تكون الأرض البكر التي كانت ذات يوم، والتي لا تفرح إلّا لقبلته التي يحلم بأن يمنحها، كما منحها قبلته الأولى: "أُعْطيكِ قُبْلةً كيْ يَتَذَكَرَّني / توتُ الجليلِ على شفتيْكِ / قبلةً ما زالتْ ساخِنةً كَرَغيفِ القُبْلَةِ الاُولى" (ص 29).
وهذا يؤكّد أنّ التلاحم بين الوطن والمنفيّ، هو ليس تلاحما روحيا فقط، فلو كان كذلك لكان ذلك ممكنا وهو في المنفى. إنّما هو تلاحم روحيّ وجسديّ، كذلك الذي يحدث بين رجل وامرأة محبّيْن عائديْن بعد فراق طويل. يحتضنها ويُقبّلها ويقطف توت الجليل من شفتيها. وكذلك يريد اللاجئ أن يلتقي بأرض الوطن لقاء حسّيا، أن تحتضن جسده وتمنحه خيراتها: "جَفْرا دعيني أغفو فوق نَهْدٍ نَبَتَ فوقه / رُمَّانُ كُفرقانا وعِنَبُ الخَليلِ / شَفَتَاكِ شَهْدي ... عيناكِ عَسَلي" (ص 31). وهنا يتجلّى إبداع الشاعرة التي تريد أن تجعل لجفرا، الأرض والوطن، سحرا آخر يختلف عن كل سحر، وللقاء معها طقسا آخر يختلف عن كل طقوس اللقاءات: "لِنَشيدِكِ طقسٌ ... / لِعَرْشِكِ صَوْلجانُ ... / خلفَهُ يسيرُ البعلُ وموكِبُ الجَانِ / لِوَقْعِ أمْطَارِكِ سيمْفونِيةٌ وإيقَاعاتٌ سِحْرِيَةٌ / لِرَبيعِكِ أُقحُوَانُ أدونيسَ / لِنيسانِكِ خمرةُ أوزيريسَ" (ص 32)، حيث تتجلّى هنا روح الكتابة في متحها الواعي من تلافيف اللاوعي وميلها إلى أسطرة الواقع، فترسم الشاعرة ذلك الموكب المميّز الذي يسير وفق إيقَاعاتٍ سِحْرِيَةٍ تضبط التناغم بين حركات الروح والجسد، تمتحه من عالم الأساطير وعشق الآلهة في مغامراتها الأولى. ويستمرّ هذا المزج بين الروح والجسد في مواضع كثيرة على امتداد القصيدة، حيث يرى اللاجئ الذي يقطف ما يشاء من عناقيد كروم جفرا، أنّ "مِنْ بريقِ عينيكِ (جفرا) تشْتَعِلُ حُروفي / فَيُضِيءُ الكونُ نوراً وآياتٍ سماويةً" (ص 35). وكذلك عندما تقول القصيدة على لسان جفرا التي تدلّل اللاجئ العاشق وتمنحه بركات روحها وخيرات جسدها: "أغسِلْ شَعْرَكَ بِصَابونِ نابلسَ / أُنَشِفُكَ بِشَفيفِ الروَّحِ / علّكَ تَشْفى مِنْ عسلِ عيْنَيَّ / أسقيكَ كأساً من نبيذِ كُفْر ِقانا / أسْنِدُ قلبَكَ بِحَباتِ زبيبِ عينِ كارمٍ / أُصْعِدُكَ الى عرائشِ كَرْمِلي / كي أُرْضِعَكَ مِنْ لبنِ الرُّوحِ / من ثُمَّ تغفو على وِسَادَةِ قلْبي / أُهدْهِدُ أجفانَكَ المُتْعَبَةَ / أُنْشِدُ لكَ ... أهازيجَ الأطفالِ / تَسْتَفيقُ مِنْ حُلْمِكَ ... فَتَصْرُخُ" ( ص 44-45). لذلك، لا غرابة أن ينظر اللاجئ إلى جفرا بعين القداسة فيضعها بمقام قِبلته التي يصلّي لها، أو بمقام المسيح المخلّص: "أُصَلّي القِبْلَتَيْنِ أحْمَدُ اللهَ وخالقَ الكوْنِ / أدخُلُ مَمْلكتي المُقَدَسَةَ وأقطُفُ / آياتِ قُرآنِي وأناجِيلي / ثمَ حَلِّقي بي فوقَ سفْحِ جبَلٍ / هناك ... هناكَ اتْرُكِيني / أسْمَعُ عِظَاتِكِ ورسائلَ عِشْقِكِ الأَبديِّ / هُناكَ تَمِّمّي بي عَجَائِبَكِ / بارِكي خُبْزي وسَمَكي" (ص 58). إذن هو لقاء روحيّ وجسديّ به كانت البدايات وبه لا بدّ أن تكون النهايات. فهو الدين القديم والجديد، الذي تكمن فيه راحة العاشق الأبدية: "هناكَ ... راحةُ أبَدِيّةٌ / جَفْرا ... يا أُمَ البِداياتِ ويَا كُلَّ النِّهَاياتِ؟! / أنْتِ ديني ... أنْتِ عْهْديَ الجَدِيدُ ؟! (ص 59).
في هذه القصيدة، الملحمة، تنطلق الشاعرة لتبحث عن ذاتها في ذات اللاجئ المنفيّ العاشق الحالم وذات جفرا، الوطن المعشوق والمحلوم. تنطلق وهي مسكونة بهاجس الغياب والضياع، بحزنها الشخصي وحزن الإنسانية الوجودي، ولكنّها تظلّ متفائلة لا تفقد الفرح والأمل. وتُجسّد كل ذلك في صور شعرية كثيفة تختزل فيها كل معاني الحزن والقلق الذي يعتري الإنسان في حال الفقد والغياب، في حوار جدلي مفعم بحزن وجودي يستشرف لقاء قادما مفعما بالفرح، بين اللاجئ الفاقد وبين الوطن، أو الفردوس المشتهى المفقود. ولا شكّ أن عدوى هذا الحوار سوف تنتقل إلى القارئ الذي قد لا يكتفي بالتعاطف بل سينتقل من مرحلة السؤال إلى مرحلة الفعل. سينخرط مع الشاعرة في عملية البحث الدؤوب ثنائي الاتجاه الذي لا يستكين إلّا باللقاء المحلوم بين العاشقيْن، المنفيّ الفاقد والوطن الفاقد المفقود.
* * * * *
تملك الشاعرة دوريس خوري، الكثير من الأدوات التي تنقل بواسطتها رسائلها إلى المتلقّي. ومن بين تلك الأدوات، ثقافتها الواسعة. من خلال تلك الثقافة، استطاعت الشاعرة عن طريق التناصّ المباشر وغير المباشر، في شعرها عامة وفي قصيدتها، "لجفرا مقلة العين" بشكل خاص، أن توظف الأسطورة والتاريخ والدين والتراث العربي والإنساني بأشكاله المختلفة. وبذلك راهنت على ثقافة القارئ وقدرته على التقاط الشيفرة التي تحملها كلمات القصيدة.
ينظر اللاجئ إلى لقاء جفرا بأشكال عديدة. منها ما تمتحه الشاعرة على لسان اللاجئ من عالم الأسطورة: "لِنَشيدِكِ طقسٌ ... / لِعَرْشِكِ صَوْلجانُ ... / خلفَهُ يسيرُ البعلُ وموكِبُ الجَانِ / لِوَقْعِ أمْطَارِكِ سيمْفونِيةٌ وإيقَاعاتٌ سِحْرِيَةٌ / لِرَبيعِكِ أُقحُوَانُ أدونيسَ / لِنيسانِكِ خمرةُ أوزيريسَ" (ص 32). توظّف الشاعرة الأسطورة هنا بشكل موفق حين تستعين برموزها بشكل مباشر حين تذكر أسماء الآلهة التي تُمثل الخصب والتجدّد والبعث من جديد. وكلها معانٍ يسعى اللاجئ وجفرا إلى تحقيقها. ومن خلال موكب الآلهة، تحمل الشاعرة القارئ إلى عالمين مختلفين زمنا متشابهيْن حلماً، عالم مضى كانت الآلهة تقيم فيه مواكبها بمناسباتها المختلفة، وعالم قادم على جناح الحلم تظهر فيه جفرا كآلهة تجمع في موكب لقائها باللاجئ، كل الآلهة التي تنشر في العالم قيم الخير والجمال والخصب والتّجدّد. ومن خلال هذا الموكب الأسطوري الذي يدعو لتلك القيم، يُمكننا أن نستشف ما في لاوعي الشاعرة من حبّ للتجدّد، بسبب ما يستعر في نفسها من شعور بالاغتراب والفقد.
وإذا كانت المقطع المذكور أعلاه يتناصّ بشكل مباشر مع الأساطير القديمة، فإنّ مقطعا سابقا له، قام بذلك بشكل غير مباشر: "يُبَاغِتُكَ طيفُ بلابلِ نغَماتي / أُهْديكَ ... غرسةً جِئْتُها مِنْ / بساتينِ كُفْرِ قانا نَبَتَتْ فوق صدري / وفوقَ شجرَةِ حُلُمي تَهِزُّ مواويلي / أرْضِعُك حنينَ بلادي ..." (ص 30-31). ففي هذا المقطع تبحث جفرا في ربوع لبنان وفلسطين، عن عشبة الحياة، عن غرسة تُهديها للاجئ، كما بحث جلجامش عن عشبة الحياة والخلود. وذلك يعني أنّ جفرا تريد للاجئ أن يعود إليها ويعيش في أحضانها حياة أبدية.
وللتاريخ دوره الفاعل في نقل رسائل الشاعرة. فهي توظّفه لنقل رسائل كثيرة ربما يكون أهمّها الدفاع المستميت عن فلسطين وعراقة أصلها. فجفرا التي تُمثل فلسطين، هي ابنة كنعان التاريخية التي لا مجال للمساومة على عراقة أصلها العربي. ويظهر الأصل والدفاع عنه في مقاطع كثيرة منها: "تَجوبُ في أرجاءِ مَيْداني وغَلاَّتِ بيْدَري / تُطْعِمُكَ حتى أخرِ الزمانِ / جَنَةٌ إسْمُها أرضُ كِنْعانَ" (ص 43-44). و "جَفْرا ... يا ابنةً ... مِنْ نَسْلِ كِنْعانَ" (ص 52). و "أخُطُّكِ بِنِقاطي وبِأَحْرُفي العربيَّةِ الكَنْعَانِيّةِ" (ص 46) و "لا إلهَةَ غَيْرَكِ أعْبُدُها / أسْتَحْلِفُكِ يا ابنةَ كِنْعانَ / دَعيني أغْفو فوْقَ صَدْرِك كيْ أرُدَّ / أيائِلَ الحُقولِ كيْ لا تَعْدُو في مَيْدانِكِ" (ص 56).
ويحضر التاريخ في القصيدة بصورة جميلة رائعة حين تقرنه الشاعرة بجمال جفرا وجمال المعالم العربية عبر التاريخ، في قولها: "ما جمالُ بَنَاتِ صُهيونَ مِنْ جمالِكِ؟ / ما شَذا نَرْجِسَ الجليلِ مِنْ شذاكِ؟ / ما عِطْرُ ياسَمينِ الشَّامِ مِنْ عِطْرِكِ؟ / ما جمَالُ عشتارَ مِنْ جَمَالِكِ؟ / ما جمَالُ بَنَاتِ الأرْزِ مِنْ جَمَالِكِ؟ / ما جَمَالُ بَلْقيسَ مِنْ جَمَالِكِ؟ / أجْمَعُهُنَّ قلائِدَ وأُعَلِّقُهُنَّ في عُنُقِكِ!" (ص 42-43). وليس صدفة تذكر بنات صهيون، إنّما لتسقط التاريخي على الراهن، كإشارة إلى اغتصاب بنات صهيون لجمال جفرا، أو اغتصاب أولاد صهيون لفلسطين.
وللدين أيضا دوره الذي أظهرُ ما فيه هو انفتاح الشاعرة على العقائد المختلفة بعيدا عن التعصّب والتخلّف والانغلاق الفكري، فهي رغم كونها مسيحية، تغرف من كلّ الأديان بلا استثناء. والمقطع التالي خير شاهد على ذلك: "أعودُ الى ساحةِ الجَزَّارِ أسجُدُ ركْعَتين / أُصَلّي القِبْلَتَيْنِ أحْمَدُ اللهَ وخالقَ الكوْنِ / أدخُلُ مَمْلكتي المُقَدَسَةَ وأقطُفُ / آياتِ قُرآنِي وأناجِيلي" (ص 57-58). كما أنّ لمزامير داود ونشيد الإنشاد من العهد القديم أثر بارز في شعر دوريس خوري شكلا ومضمونا.
أما فيما يتعلّق باللغة، فمن مهمة الشاعر أن يبتكر اللغة التي تستطيع أن تعبّر عن ذاته ومشاعره. ولذلك، لا بدّ من وقفة مع لغة الشاعرة وبعض نماذجها التي تُثبت قدرتها على نحت تعابير جديدة تتميّز بها. مثلا، في عبارتها: "قبلةً ما زالتْ ساخِنةً كَرَغيفِ القُبْلَةِ الاُولى" (ص 29)، فضلا عن أنّ عبارة "رغيف القبلة الأولى" هي من تجديد دوريس خوري، فقد أبدعت الشاعرة في تشبيه حرارة اللقاء والقبلة الأولى بين جفرا واللاجئ، بحرارة الرغيف الساخن الذي خرج لتوّه من التنور. وهي عبارة لها دلالتها، فإذا كان الرغيف هو الغذاء الأساسي للإنسان ولا يطيب إلّا ساخنا، كذلك هي القبلة بالنسبة للعاشقين، الغذاء الأساسي الذي يربط بين أجسادهم وأرواحهم، ولن يجدي نفعا إذا فقد حرارته. وهنا تهيّأ الشاعرة للعاشقيْن، ما يلزمهما من غذاء الروح والجسد، الذي يُشكّل دوامه دوام اللقاء بينهما في حياتهما الأبدية.
كما أنّ الشاعرة أبدعت في تقليدها وتجديدها معا، في اتباع القدماء في أخذ الأحرف الأولى من اسم معيّن وجعله أساسا أو بداية لعبارة تخدم المضامين التي ترمي إليها. والتجديد في ذلك هو أنّ دوريس خوري قالت "أخُطُّكِ بِنِقاطي وبِأَحْرُفي العربيَّةِ الكَنْعَانِيّةِ"، ثم أخذت أحرُف "جفرا" وبنت منها العبارات التالية: "حرْفُ الجيمْ يا جملَ مَحامِلي ويا سفينةَ صَحْرائي / حرفُ الفاءِ يا فماً نطقَ أولَ أحرُفِ أبْجَدِيَتي / حرفُ الراءِ يا رأساً كلَّلَهُ اللهُ بمجدهِ / حرفُ الالفِ يا أوَّلَ حرْفٍ مِنْ حُروفِ اللهِ" (ص46). وكل هذه العبارات تحيل إلى قدسية اللقاء والعلاقة بين جفرا واللاجئ الذي يحلم بلقائها. وهذا هو الحلم المشتهى الذي نسعى إليه جميعا، كبشر عامة وكفلسطينيين بشكل خاص، لأنّنا ذقنا من المنفى والتشرّد وظلم الأعداء وذوي القربى، في الوطن وخارجه، ما لم يعرف مثله إنسان في العصر الحديث وربما في كل العصور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق