قال نليسون ما نديلاّ عقب خروجه من السجن: ( أدركت أنه إن لم أترك كراهيتي خلفي، فإني سأظلّ سجيناً )
كم نحتاج إلى كلماته اليوم، رغم ما مرّ بنا من أحزانٍ، ومآسٍ، عبر السنوات العجاف، التي أعملت نصال العالم بأسره ، طعناتها في الجسد السوريّ الكريم، بقسوةٍ لا مثيل لها، وإلى اليوم مازالت يد الغدر تعبث بأوردتها، لتطيل النزف، وتفشل أي مشروعٍ للتفاوض، وعودة السلام.
عقب الأستانا ثمة تدابير لا بد من مرورها لتحقيق السلام الشامل، والعادل، ووقف القتال ..
وسبق أن نقلت وسائل إعلامٍ، عن البيان الختامي، للدول الضامنة، لمفاوضات /أستانا/ حول سوريا: أن روسيا، وتركيا، وإيران.. تخطط لإنشاء، آلية ثلاثية للرقابة، على وقف إطلاق النار.
كل هذه التدابير لا تفي بالغرض، إن لم نقتلع من أعماقنا جذور الأسى، والحزن، ونرفع عن كواهلنا، حمأة الغضب، و نزعة الانتقام، والكره الأعمى الذي زرعه كل متآمرٍ على البلد، وعلى شبابه، واقتصاده، وبنيته المتماسكة.
لابدّ أن نعي حجم المؤامرة، وندرك أن محاربة الفساد، و تغيير الأنظمة، ووضع دساتير جديدة، من حقّ الشعوب، ولكن لا يتطلّب كل هذا الدمار، ونسف حضارات عمرها عشرة آلاف عام، ولا تتطلّب مشاريع التقسيم الممزِقة، لأوصال البلد، تحت مسميّات عدّة، وأعذار غير مقنعة، وجّه إليها اللاعبون الكبار، لتدمير اقتصادنا المتين، وتشريد شبابنا، ودثر تاريخنا، وشلّ مقدراتنا، وامتيازاتنا التي يعرفها القاصي، و الداني كشعبٍ متحضّر، كريم النفس، ذكي، ماهر في صنعته، مبدع في علمه..عفيف في نفسه.
نحتاج إلى شيء من التفاؤل، بأننا قادرون على البناء، وهاماتنا مرفوعة: ثقة، وإيمانا بالله، وبالوطن، وبالشعب السوري، بأننا فعلاً قادرون، وأن هذه الكوابح، ما هي إلا نفسية بالمطلق، والإحباط هو أول عوامل الهدم، والاكتفاء بالندب، والوقوف على الأطلال، وانتظار الآخر، في تقديم الحلول.عوائق تحجب الحلول.
بناء الأحجار، وترميم ما انهدم، وترحيل الأنقاض، والإقلاع بمشاريع عمرانية إسعافية ، هي مقاصد مهمة.
ولكن الأهم منها بناء الإنسان، وإعادة دراسة المناهج التي تؤهله للحياة الناجحة، وإلغاء كل النماذج المهترئة، والقوالب الجاهزة، النمطية، المتكرّرة منذ عقود: دينياً، واجتماعياً، وسياسياً، وتاريخياً..
عندما نعيد بناء الإنسان، وندخل إلى أعماقه، بعد منحه الكرامة، والفكر الخلاّق، والاختيار الصحيح لميوله، وتبنّي الدولة، لهذه الميول.بروح مسؤولةٍ، تعي دورها، بعيداً عن حبّ الذات، وتضخيم الأنا، والبحث عن البريستيج الأجوف، والبرج العاجي الذي يعزل المسؤول، عن رؤية المواطن كما يجب..كهدفٍ، ما اختير إلا من أجله. واختيار الأكفأ للمناصب، التي جعلت الكثيرين مرضى بحب الكراسي.
وتجارب الشعوب ماثلة أمامنا، عقب الحرب العالمية الثانية: 1939/ 1945
ـــ في ألمانيا لقي خلال الحرب، أكثر من 7 ملايين حتفهم، من الجنود، والمدنيين ، وتمّ هدم المدن، في درسدن وحدها قتل فيها 25 ألف، بعد أن ألقي عليها قنابل شديدة الانفجار ( 3900) ألف طن، وتمّ تقسيم البلاد، ولم يعد للعملة الألمانية أية قيمة، ورغم ذلك ننظر إليها الآن.صارت من الدول العظمى اقتصادياً،وحضارياً
ـــ في الصين: جرت حرب أهلية مايقارب الربع قرن: 1927ـ 1950
راح فيها الملايين، ودمرت المدن، وشُلّ الاقتصاد تماما، فصارت اليوم التنين الاقتصادي الذي يبتلع اقتصاد الكرة الأرضية.
ـــ اليابان: ألقت عليها أمريكا قنابل ذرية، فقتل على الفور في ناغازاكي: 86 ألفا، وفي هيروشيما قتل على الفور 80 الف مواطن، ومات في ذات العام أواخر عام 1945/ 86 ألف ياباني نتيجة الإصابات والإشعاعات.
وكانت نسبة الدمار 70% من مساحتها. عدا عن إعصار مدمّرٍ، تزامن مع هذه الفترة،فمات فيه 3000 شخص، وقضى على ما تبقى من سكك حديدية، وشبكات طرق. وهاهي اليوم تشمخ كالفينيق، من قلب الرماد..في كوكبها الذي يحمل اسمها.
ــ أسبانيا: فتكت بها حرب أهلية، خلفت مقتل 500 ألف مواطن، وشردت أيضا 500 ألف فرّوا إلى أمريكا اللاتينية.عام 1937.. وقد ساهمت وقتها القوات الألمانية، والإيطالية في تعميق المأساة، لمساندتهم القوميين المقاتلين...فصارت اليوم من اهم دول الاتحاد الأوربي، وقد أُعلنتْ عاصمة السلام بالعالم عام 1997
عندما ننظر إلى تجاربهم، هم وغيرهم مثل الهند، وجنوب أفريقية، أندونيسيا: نجد أنهم ما خرجوا من براثن هذه الحرب الفتاكة، إلا بالدعوة إلى التفكير، وطي صفحة الماضي المأسوية ، والتعايش المشترك، وتجاوز الخلافات، بقراءة جيدة للواقع، ونظرة هادفة للمستقبل، والإدراك: بأن عبثية الحرب تزيد الدمار، وتقلّل فرص السلام، فعملوا على التخلّص من الخراب بالعلم، والعمل، وبناء الإنسان أولاً، من خلال تخطيطٍ علميّ واعٍ، بمجريات الأمور، ومن خلال العمل، والمثابرة، والنهضة الحضارية، والعمرانية، وتعزيز روح الجماعة، والنظام، والمسؤولية، إضافة إلى الحماسة، والإصرار على تحدي الظروف، والتحصيل العلميّ العالي. وتعزيز الروح التشاركية، ونبذ الطائفية، والمذهبية، أو العرقية، فما تجمعهم أولاً هي الإنسانية، تحت سقف وطن واحدٍ، متطوّرٍ، .وهي أسمى الغايات.
علماً بأن الضرر عندنا أقل، إذا ماقورن بحجم المأساة، والموت، والدمار الذي حلّ بهم..فنحن مازلنا نحتفظ بمؤسسات الدولة، ومازالت أسواقنا تعجّ بالخير.
والروح السورية الجمعيّة، مبادرة، صبورة، تستنبط الحلول، وتحبّ الحياة، والتجدّد. ورغم الظروف بقيت اليد السورية، عاملة، فاعلة..لم تكفّ عن بحث أسباب الرزق، والدخول في مشاريع بسيطة، تبعدها، عن العوز، والفاقة، التي ذاق طعمها شريحة كبيرة من المواطنين، بعد عزّ، وجاه...
فقط يحتاج الأمر إلى وقف القتال، والبحث عن القواسم المشتركة التي تجمع، ولا تفرّق. قادرة على التسامح، وقبول الآخر ، وتعزيز روح المحبة، والسلام..والاستقلالية في الرؤية بلا هيمنة من أحد، ولا توجيه من أحد..فلا أروع من اليد السورية حين تتوحد، والدروب السورية السورية، حين تتلاقى. وتتأمل الشمس وهي تشرق خلف روابينا، ومنها ينطلق إشعاعها، على هاماتنا العالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق